بالرغم من الحمولة الدلالية التي يتميز بها مفهوم التواصل،والمحيلة ظاهريا على تحقق ذلك الحد الأدنى من التوافق والتعاقد المفترض عادة بين الهؤلاء و الأولائك،إلا أن المفهوم ذاته يحيلنا في نفس الوقت على نقيضه المضمر فيه،والذي يكون في أية لحظة سببا مباشرا من أسباب تفجير دلالاته من الداخل كما من الخارج.وهذا المضمر لا يحمل اسما آخر عدا اسم التملك والاحتواء الممنهجين.إذ ما من تواصل إلا و هو مبطن بالرغبة في السيطرة و الهيمنة. وهو ما يدعونا للقول بأن كلا من التواصل والتفاهم، يظلان مشوبين بذلك المحتمل الذي يتهيأ في كل لحظة للإعلان عن حضوره.ذلك أن التواصل الصافي،التام والشامل المؤدي إلى التفاهم،وبالتالي إلى التوافق، يظل في حكم المستحيل،بسبب الخلل المزمن الذي يعتري التطابقات المشهدية،في مجموع عناصر الخطاب المقدمة من قبل الأطراف المتعارضة أو المتناقضة،الساعية في مختلف أشكال تحاوراتها إلى تحقيق نسبة معينة من التفاهم،حيث أن أي اختلاف كميا كان أو نوعيا يؤدي بالضرورة إلى إحداث انحرافات وانجرافات دلالية،تجعل التطابق مصابا بخلل-ما لم/وما لن يكتمل-و عبر هذا التطابق،تتسرب ريح التحكم والهيمنة والاستعباد المضمرة.وبالنظر إلى وعي الأطراف المعنية بحضور هذه الاستحالة،فإنها تلجأ إلى توظيف الآليات السلطوية،التي تمارس دورها الفعال في فرض خاصية التطابق،أو بالأحرى،في إخفاء ما يتخلله من اختلالات واختلافات، بتمويهها وفي أحسن الأحوال، بالتهوين من حدته. التواصل وحرب المرجع يتعلق الأمر هنا بتلك الحرب الضروس الدائرة رحاها دائم،بين مرجعياتها المتعددة والمختلفة.ذلك أن تعدد المرجعيات واختلافها هو مصدر انقلاب التواصل على دلالته المعجمية،حيث تتضاعف ضراوة الحرب،خاصة حينما يكون الهدف مشتركا بين أطراف التوافق/الخلاف.أي هدف الفوز بالغنيمة المشتركة.حيث تحاول كل مرجعية إفناء غريمتها.علما بأن هذه الضراوة قد تتراجع نسبيا،كما يحدث أن تختفي تماما،في حالة استقلال كل مرجعية بأهدافها /بغنائمها الخاصة بها.أحيانا يحدث أن يقع تصادم عنيف بين هذه المرجعيات ذات الأهداف المختلفة،حينما يتم من قبيل صدفة ما،أو ضرورة طارئة،اعتماد نفس الطريق المؤدي إلى مفترق فضاءات الأهداف المتناقضة.ذلك أن التعايش بين النقائض ولو في مساراته المرحلية،يكون متعذرا ومستحيلا.ومع ذلك، وبموازاة هذه الحرب،ثمة تواصل أخر شبيه بمحفل تبادل المفاتيح التي تُمكِّن أيدي اللاعبين،من حرية اختراقهم لبيوت غوايات الآخرين سواء كانت متوزعة على مدارها، أو قائمة خارج حدود هذه المدارات. ذلك أن التواصل الفعلي،هو الذي يكون مؤسسا على قواسم مشتركة،و أيضا على قصدية تحقيق اندماجات تلقائية في أنساق اليومي و الكوني،بعيدا عن أية نوايا ملغمة تذيب بعدوانيتها كل القنوات المحتملة لأي تواصل محتمل.كما أن التواصل الفعلي،هو ذلك الذي يحدث خلسة،وضدا على أية إرادة مسبقة مع أي طرف كان.أعني تواصلك اللامنتظر مع فكرة، مع إيقاع،مع هندسة، مع أفق كينونة واعدة،أو مع نملة بنفسجية تتنزه بين تجاعيد جبهتك الحديدية أيها الوقت، من أنت؟ لذة الغرق في طوفان التواصل والآن هاهي ذي وتيرة التواصل ترتفع إلى أقصى حدودها،ما من شيء أمسى مقتنعا بضرورة خلوده المؤقت للصمت،ما من شيء مقتنع بركونه إلى خلوة انطواء تأملي في الذات أو معها.الأصوات تتعالى من كل جهات الخليقة،مويجاتٍ تتداخل في مويجاتها كي تتلاطم تحت سقف السماء،محدثة ذلك الدوي المزلزل،والموحي باحتمال تطاير شظايا وشرارات تعمي شعلها البصائر.كل شيء محموم بالرغبة في الحديث إلى أي شيء، وعن أي شيء،و المهيمنة ذات الحظوة الكبرى أمست مجسدة في الحديث وليس في الإنصات . كأنما الإنصات أضحى عبئا ثقيلا يتفاداه الحجر كما يتفاداه الطير.. الحديث .اللغو.التراشق بالإشارات الحمراء والوردية والزرقاء، هي الغاية الأولى والأخيرة لكل تواصل ،و ثمة ذلك الخوف المتأصل من انحباس الطوفان في قمقم اللاتواصل. كما ثمة الألم البارد المنغرس في أوتار الحنجرة، فضلا عن الحمى التي تطارد الرغبة في البوح. جرثومة التكالم وسلطة الحديث الداخلي يتعلق الأمر هنا، بذلك التلوث الناتج عن تضاعف التصاعد العشوائي للفائض التواصلي، بفعل تلك المراكمة المحمومة لسيول جارفة من التواصلات، التي تكرهنا التقنيات الجديدة على تنفيذها،ضدا على إرادتنا.إنها التقنيات الآمرة والناهية بوجوب إثبات خروجنا الحتمي من دائرة الصمت،باعتبار أن الهدف المركزي للتواصلات الحديثة، هو إخماد جذوة الأصوات الداخلية التي تعود الكائن على إيقادها، كلما تجددت رغبته في مكاشفة ذاته بذاتها ،وكلما مال إلى استكناه ما يجوب دواخله من أسرار، بالإنصات الهادئ والعميق إلى ما يعتمل فيها من أسئلة.إن الحديث الداخلي هو الحديقة الخلفية التي يجدد فيها الكائن ترتيب أولوياته ومحتملاته ،حيث هناك فقط تعلن نواياه عن استثنائية حضورها إلى جنب حدوسه وافتراضاته،بعيدا عن تنصتات الآخرين.إنها حالة الاستئثار بحظوة مغلق لا حق للآخر في الاطلاع عليه ،والذي يحرص التلوث التواصلي عل إفساده تمام الإفساد ، خاصة وأن هذا الأخير يشتغل على أرضية الاختلاق، المفرغة من أي هاجس إشكالي.أرضية تتناثر عليها رؤوس خطابات مقطوعة ومقصية من أي أثر للحياة أو الموت. حيث لا يشفع لها سوى الواجب الاختلاقي للكلام .الرؤوس المقطوعة لهذه الخطابات،تتعدد وتتنوع تبعا لتعدد وتنوع اهتمامات الجهات/المنابر الصادرة عنها،وتبعا لشبكة العلاقات الاجتماعية والقطاعية التي تقيمها مع ذواتها ومع الآخرين . إنها تنهض من ذلك الفراغ المدقع الذي يستحدث تدريجيا مع امتدادات وتقاطعات حبال الكلام المؤدية إلى تنشيط حياة كائناته الجرثومية، التي يمكن أن تتحول على امتداد عدوى التكالم إلى مواضيع قادرة على تفجير حروب ومكائد،أو زرع رياحين في وهاد مقفرة .إن هذه الخطابات تتحول مع الوقت، إلى ضرورة استشفائية حيث تتحول جرثومة التكالم إلى حالة مزمنة، تظل بحاجة دائمة إلى شبه مراقبة ومتابعة ذات طبيعة عيادية. إن فائض الحاجة إلى التكالم حينما لا يستجيب لأوامر التقنية الممسكة بتلابيبه،يتحول رأسا إلى حالة انتكاسية ،كما يمكن أن يتحول إلى طاقة تتسبب في إحداث انفجارات مجانية وعشوائي،سواء على المسويات الإقليمية أو الدولية. دوامات الدلالة بموازاة هذا الالتباس الحتمي المهيمن على كل تواصل محكوم بحتمية تعايشه مع أضداده،تحضر اللغة بطاقتها الهائلة والخيميائية،والتي يحق للكائن بمقتضاها أن يقف تحت ظل ما من ظلال هذا الكون،وأن يعيش تجربة عبور المرآة فور اهتدائه إلى مدخلها،فهي التي تضيء طريقه في قلب المتاهة الكبرى،التي هو مطالب بالتجوال فيها دونما دليل، ودونما تخوف من فقد أو موت .طبعا هذه الطاقة جد متعددة ،وتعددها يتجاوز طاقة الكائن مادامت حدود تملكه لها مشروط بقوانينه الطبيعية التي ليس له أن يتجاوزها أو يتمرد عليها إلا في حكم النادر.لأن تجاوز هذا الحد الطبيعي، قد يؤدي إلى تخريب القناة الواصلة بينه وبين الأخر،كما يمكن أن يؤدي إلى التحكم المضاعف في أكثر من مسار،وفي أكثر من أرض، مادام امتلاك اللغة يعني امتلاك أهم شرط من شروط الكينونة، التي تتجاوز حدود التواصلات البسيطة والعملية. ومع ذلك فالكتابة ومن منطلق رؤيتها المغايرة لعلاقة اللغة بالوجود، تسعى إلى تجاوزها عبر تصعيدها لآلية تشغيل لغتها الخاصة بها.وذلك من خلال هدمها للأنظمة التواصلية ، بفعل تربصها الدائم بذلك الإرهاق الطبيعي الذي يسري في أوصال اللغات المعطوبة والمعنية بمغادرة المشهد. وهو هدم، يعتمد على منهجية مخطط لها سلفا،وعلى درجة كبيرة من التلقائية والعفوية،التي بالرغم من عدم إعلانها بشكل واضح عن قوانينها، إلا أنها تتدخل بشكل مباشر من أجل عرقلة مهمة إنجاز ذلك التطابق الدلالي المفترض وقوعه عادة بين المتواصلين .إذ أن أي تعديل أو تغيير عفوي أو مبيت ولأي سبب من أسباب القول، لا يمكن إلا أن يندرج في سياق منهجية الهدم والتحويل ،حيث يفقد التطابق في المقاصد دلالته ووظيفته،فور تنامي آلية اشتغال عملية التواصل،التي تتحقق عبر سلسلة متتالية من التشعيبات والتفريعات والتوليدات،الناتجة عن تدرج مستويات الاستدلال والحجاج والاستنتاج والبرهنة.وكلها عناصر تؤثر بشكل مباشر،في استحداث دوامات دلالية تتضاعف حركيتها عبر ما يعتمل فيها من تعارضات و تناقضات و تقاطعات. وهو ما يؤدي إلى تصديع وتشريخ الأرضيات التواصلية التي تسعى الخطابات المقيمة خارج الكتابة إلى النهوض عليها .. مع التأكيد على أن الأمر لا ينحصر فقط في البنيات النحوية التي توظفها الدلالة في اشتغالها على ذاتها .لأن لبناء النحوي، يظل مجرد وسيط، بالرغم من أهميته وضرورته و ملحاحيته ،كما انه يظل مجرد خادم ملحق بفضاء الدلالة.من هنا يمكن القول، إن البحث عن الانزياحات التي يتعرض لها التطابق في الخطابات التواصلية،لا ينبغي أن يظل محصورا في البنية النحوية للجملة،بل -وهذا هو المهم - يجب يتجاوزه إلى مستويات تبنين الدلالة المستقلة بأنحائها. الأصل المتشامخ للوجود في السياق ذاته سنغامر بالقول،إن الكتابة تستقل نسبيا بوجود تواصلاتها عن تواصلات الوجود.إنها تختلق وجودا موازيا له،لأنها تمتلك من الحضور ما يكفي لأن تكون نده الفعلي والحقيقي .إنها لا تكتفي بممارسة وظيفة الإشارة إليه أو تناوله بالتحليل والتأويل، كما لو كان مرجعها المركزي ،مادام القول بهذا المرجع،يظل من وجهة نظرها محض تحريف صارخ لطبيعة علاقتها الفعلية به. وهي علاقة تتجسد أساسا في إعادة إنتاجه، بما تعنيه إعادة هذا الإنتاج، من محو شبه تام لأصله الأولاني،الذي لا يظل محتفظا بغير طيفه السيمولاكري.إن فتح الطريق باتجاه الإطاحة بسلطة هذا الأولاني هو ما يؤرق الكتابة .لأنه أولاني خال من صفاء أي القول. أو بالأحرى، لأنه جماع أقوال تتبادل في ما بينها شريعة التفكيك . خلو الوجود من قول مركزي وبالتالي ، اكتظاظه بحشود لانهائية من الأقوال / الخطابات ، يحبط أية محاولة داخلية أو خارجية لتأطيره . تجذر هذا الإحباط هو ما يجعله أصلا متشامخا ومتعاليا على كل محاولة حقيقية للتخفيف من غلوائه . حيث تظل الصيغة المتيسرة لذلك هي إعادة إنتاج الكتابة له ، من منطلق إعادة إنشائه وفق قواعد وقوانين الكتابة وليس وفق قوانينه هو .من هنا تصبح الكتابة أصلا مغايرا، أي وجودا مولدا للوجود الذي ينتقل في نهاية المطاف من موقع الأصل إلى موقع الفرع .إنه بكل بساطة نوع من قلب الأدوار المستند على قناعة منفتحة ،مفادها أن ما من حركة إلا وتسير في سياق تحولها إلى أصل .الشيء الذي لا يتحقق إلا من خلال مغادرتها لأصلها الأولاني، واجتيازها لاختبار الفرع .وهذه الدينامية ضرورية لضمان حد أدنى من الاستمرار، من أجل المحافظة على ضوء حضورها في شاشة الكلام .إذن يتعلق الأمر بحتمية الاندماج في السيرورة المحكومة بتحولاتها، حيث يظل مفهوم الأصل والفرع، مجرد نقطتي ارتكاز لا تكفان عن ممارسة انتقالاتهما المتعددة . الكتابة وعنف الخطاب تنفلت الكتابة من قلب الدوامات العملاقة التي دأبت الخطابات على إثارتها،وهي منشغلة بإفناء بعضها البعض،وطبعا دون أن تكون بالضرورة جزءا من هذه الخطابات،أو الدوامات،ودون أن تكون منتمية للغاتها أو رؤياتها الفكرية والجمالية.لا يتعلق الأمر هنا بمجرد استقالة من الوجود،ولكن أيضا بضرورةٍ حتميةٍ للتواجد على مسافة تسمح بإعادة فرز الأصوات من أصدائها ، والصور عن ظلالها، من أجل معاينة هوية الفرق المندس في المابين،قبل أن تعاود تسللها إلى قلب الدوامات ذاتها،لتمارس لعبتها التنكرية داخلها مجددة تماهياتها الظرفية مع الغرابات والبداهات المستسلمة لنشوة التزاوج والتمازج في أفق إطلاقها لتباشير دوامات مضادة ومغايرة، ليست سوى دوامات الكتابة المنفصلة عن دوامات الخطاب وتواصلاته .