حينما تجد سيدة لم تتجاوز الأربعين بمخيمات تندوف وهي أم لأزيد من عشرة أبناء تقريبا، وأحيانا كلهم غير اشقاء، فلن تفهم الحكاية، فلا معنى للعنوسة وانتظار الأزواج ،لدرجة أن هناك من تجاوزت اكثر من 16 مرة، ألا حالا ناذره تزوجت فيها المرأة اربع مرات طيلة حياتها ،فهم يتعجبون لفتاة بلغت العشرين ولم يسبق لها الزواج، بل يعتبرون ذالك عيبا، إضافة الى أن أغلبهن تعيش بين دوامة الزواج والطلاق بشكل مستمر، ولا يمنعها عامل السن مهما بلغت من العمر ولا عامل الجمال مهما ضعف قبولها، أولا لان الزواج غير مكلف بالمخيم عكس حالة «سكان المناطق» كما يحلو لهم تسميتها، ثم لان مسألة الزواج والانجاب المستمر خطة اعتمدتها جبهة تحرير الساقية الحمراء و وادي الذهب منذ انشائها فهي نسعى لبناء شعب عبر هذه الاستراتيجية وبذالك منعت استعمال وسائل منع الحمل بل اعتبرته جرما و يعاقب عليه من طرف المسؤولين.... في العقدين الاولين بعد بداية التأسيس خضعت كل النساء لهذا القانون الاجباري حيث حتى ولو رغبت المرأة في الحصول على موانع الحمل فهي لا يمكنها أن تشتريها فذالك من المستحيلات، أولا لغياب صيدليات او محلات تجارية أنذاك بالمخيم، ثم لمنع تنقلهن ودخول الأجانب لعالمهم... ولان اغلب النساء أيضا لا تتوفر على ثقافة جنسية ولأنه يمنع عليهن الحديث في الامر سياسيا، إضافة الى اعتبار الموضوع من الطابوهات، ولو في الحياة الشرعية لم تكن المرأة قادرة على فتح الموضوع للنقاش حتى مع أقرب النساء اليها، فهي تخشى أيضا أن يصل الموضوع للقيادة وتتهم بالخيانة للوطن و انها «مندسة» من طرف الدولة المغربية لعدم مساهمتها في بناء الجمهورية التي يتوهمون انشائها عبر كثرة التوالد، فهم يحتاجون لوجود شعب حقيقي ويلزمون النساء على توفيره دون التفكير في راحة رحم هؤلاء النسوة .ولا مراعة لشعورهن ،فهن حكمن بأن تكون كل واحدة منهن ألة انجاب ... لكن مع مطلع التسعينات وبعد ظهور الجيل الثاني من النساء اللواتي تم تهجيرهن وتدجينهن بثقافات وهويات أخرى سوف يكون الأمر مخالف فهؤلاء الشابات لم يرغبن حتى في العودة الى المخيم فما بالك أن تفرض عليهن قوانينه اللواتي تعتبر بالنسبة اليهن رجعية وديكتاتورية مادامت تتحكم في أجساد النساء ... عن هذه الظاهرة التقينا مع بعض نساء تندوف منهم من عادت الى أرض الوطن ومنهم من أتت في زيارة خاصة لأنها مجبرة للعودة بسبب الأطفال أو العجزة من الابوين، ومنهن من اختارت الرحيل والاستقرار مع لاجئي أروبا بعيدا عن مشاكل السياسة وما يعنيها ،لكنهن جميعا يتألمون لحال اقتحام القيادة في حياتهم الخاصة، حيت كانت تراقب خيامهم «العريفات «لمعرفة ما ان منعت إحداهن زوجها التقرب منها ،فهي بذالك تبعده برغبة عدم الانجاب وليس بعدم وجود الرغبة أصلا في المعاشرة الزوجية ،فالمرأة انسان والمعاشرة السليمة تحتاج الى رغبتين فهي ممارسة للحب وعلاقة حميمية وليست ممارسة تحت الاكراه والا فيعتبر الامر اغتصابا حتى ولو تحت غطاء الزواج... الصدفة فقط جعلتني أنجب عشرة أطفال وتوفي منهم ثلاث... تحكي «مغلي «التي تبلغ من العمر 54 سنة حكايتها مع الزواج والولادة في الأيام التي قضتها في تندوف «لقد ذهبت رفقة والدي حيث كان عمري لم يتجاوز 6سنوات عام 1975 إذ كنا نسكن في أحد بوادي الداخلة «ببئرنزاران» وكانت هجرة جماعية تم التخطيط لها لأجل تأسيس الجمهورية الصحراوية، هناك من كان يعلم الى أين ذاهب وهناك من يقال له أنه سوف يسكن في مخيم جماعي «فريك» خاص بالصحراويين ،كما كان حالهم في قرون سابقة ،وهناك من أخذوه بالقوة في جوف الليل هو وعشرته وكل ما يملك ،المهم انني وجدت نفسي وسط أهلي في مخيم لم أكن اعلم لما هو موجود ،ولا مصيره ،و لأنني كنت من سكان البادية فأنا لم يؤثر في المناخ الاجتماعي بداية، أكثر ما تأثرت له هو زواجي المبكر مثلي مثل كل رفيقاتي وأيضا تعدد الأزواج، فانا تزوجت أزيد من 12 رجل لم أنجب معهم سوى 7 أطفال أحياء كل واحد منهم ينتمي الى قبيلة إضافة أنه توفي لي ثلاث أطفال بسبب سوء المناخ فأحدهم انجبته في قوة البرد القارس واثنين مع شدة الحرارة، الطفل الذي يمكنه أن يعيش في ظروف صحية نسبية أنذاك هو من يولد في فترة الربيع مع أنه لا يوجد ربيع ولا أمطار تلك الفترة... لقد عنينا سوء أحوال الطقس نحن النساء منتصف السبعينات وطيلة عقد الثمانينات ،ومع هاته المعاناة فالواحدة منا مجبرة على أن تحمل في أحشائها جنين أخر فور أربعينية الأول، ولا يمكنها أن تمانع ذالك وإلا اتهموها بالخيانة وكان لها سوء المصير، كانت لدينا نساء تدعى ب «العريفات» مهمتهن تأطيرنا السياسي وتأطيرنا أيضا على قواعد الثورة، ومن بين القواعد أن نساهم في توسيع دائرة الشعب عبر الإنجاب المستمر، حيث لا يمكن أن تمنع الواحدة منا زوجها من الاقتراب منها إلا فترة «الحيض» فالإنجاب هو الوسيلة الوحيدة التي بإمكانها ان تمكننا من النصر لقضيتنا، ومن رفضت عملية الانجاب فهي لا يمكن إلا أن تكون مندسة وعميلة تخدم مصالح العدو...» هذه هي القاعدة التي تصر العريفة على تلقينها للنساء حيث كل مجموعة تتكلف بها عريفة تسهر على تأطيرها واستشارتها وتمويلها بالأدوية الضرورية إلا دواء منع الحمل بالعكس تماما فمن تأخرت في الانجاب فعليها الاتصال بها لمعرفة الأسباب وتزويدها بالأدوية للاجل المزيد من الأبناء ... رغم انني ولله الحمد عدت الى وطني بسبع أبناء غير أشقاء، لكنني لازالت أحس بالحكرة بسبب عدم تمتعي كباقي نساء العالم بحقي في تنظيم نسل أسرتي، فأنا ولدت أطفالي وأنا طفلة أيضا، وفقدت ثلاثة أطفال أيضا حملتهم في بطني مرغمة وكان مصيرهم الموت بسبب القدر وسوء أحوال الطقس الذي فتك بحياة العديد من الأبرياء مثلهم، والحمد لله أنني احتفظت بأطفالي وسهرت على تربيتهم والا كان مصيرهم مصير العديد من الشباب الذين فقدوا الهوية وضاعت مشاعرهم الأسرية... لقد تم استدعائي للقيادة مرات بتهمة الخيانة ونعتوني «بالمندسة»... اعتبرت «مكًبولة «مسألة الاتهام بالخيانة أسهل جريمة يمكنها ان تلتصق باهل تندوف رجال ونساء، حتى وان لم تثبت فيهم الوسيلة المادية للجريمة ،فأحيانا يكون الامر بسبب غيرة أو تصفية حسابات شخصية لا علاقة لها بالمشاكل السياسية ،تقدم لك تهمة الخيانة للوطن من طرف من وكلت لهم مهمة الانصات للخيام أو المندسات الحقيقيات وسط السكان اللذين لا مهمة لهم سوى إيصال النقاش الدائر بين الاهل والجيران، كل التهم مفبركة كما قلت لكم واحيانا بدون سبب ولا علة، فما بالك ان اشتكى الزوج حقه الشرعي من زوجته فتلك تعتبر جريمة أكيدة وثابتة في حقها ،فلا اعتبار لشعور المرأة ان كانت لها الرغبة فتلك المعاشرة أصلا ،بالفعل ذالك زوجي وله الحق في فراشه ،لكن ليس اجباريا ،وليس بتدخل الاغراب في ذالك الموضوع ،فهي حياة خاصة ولا حرمتها ،ولا يحق للاحد اقتحامها فحتى الدين لم يأمر بذالك ... انا ذهبت الى تندوف فترة التأسيس و أنا شابة تعلمت في المدرسة الاسبانية بالعيون إضافة الى أن والدي علمني لغة الرفض حين تكون الأمور في غير صالحي ،وفخورة انني ورثت عنه قوة الشخصية وقوة البدن أيضا، فانا لا أرضى الجبن ولا الحكرة تزوجت ازيد من 16 رجلا و عشقوني أكثر من عشرين و سبب هروبهم قوة شخصيتي ورفع صوتي عليهم حين يريد أحدهم اضعافي، كم من مرة صرخت في وجه زوجي عندما لا تكون لي رغبة المعاشرة واعبر عن ذالك بعزلي للفراش، حيث اذهب لخيمة مستقلة أو قرب ابنائي ولما ينادني وأجيبه بعبارة «اتركني الان لحالي...» زوجي لا يحرك ساكنا، لكن القيادة سوف تستدعيني في اليوم الموالي ،لتسأل عن أسباب الرفض النوم مع زوجي؟ لأرد عليهم بسؤال أخر وهل اشتكى لكم هو ذالك؟ لو كان متضررا لقدم شكوى في حقي، ومادام لم يفعل فتهمتكم باطلة... الاشكال ان اغلب النساء لم تكن تملك القدرة على الاستشارة في الموضوع وقد تسبب ذالك في هالك لصحتها بسبب الانجاب المتكرر فالأطفال لا يحتاجون لحافظات وحليب الرضاعة فقط وانما يحتاجون للام تتمتع بكامل الصحة لرعايتهم وإلا سيكون لهم جميعا سوء المصير. للإشارة فقط فانا لم أنجب سوى 6 أبناء وبرغبة مني، كنت قد نجحت في التخطيط الذي فشلت فيه ألاف النساء في غياب وسائل منع الحمل... لوكنت أعلم انهم سو ف يولدون من رحمي لتربيهم الأجنبيات لما انجبتهم... في حين اعتبرت «أغلي جيلها» 60 سنة أن ظهور المنظمات الأجنبية للوساطة بين الأبوين والأسر المتعاقدة على استقبال الأطفال ساهم في تفشي ظاهرة الإنجاب المتكرر عند النساء بتندوف، حيث لم يبقى أي عذر للمرأة في عدم رغبتها في الانجاب فهي بمجرد ما يتجاوز الطفل سن الرضاعة إلا ووجد في استقباله أسرة أخرى أجنبية للتبني، ما جعل المرأة تتكلف بمهمة وحيدة وهي الحمل والإنجاب... لكن لم نكن نعلم الضريبة التي سوف ندفعها غالية، ونحن نأخذ فلذات كبدنا من أحضاننا ونقدمهم للغير، لا هم أهلنا ولا ينتمون لنفس عرقنا ولا ديننا، يتربى أطفال في أحضان بيئة لا تمت لهم بصلة، ونريد منهم أن يكون لنا أبناء طبعيين فذالك مستحيل فهذه الظاهرة لم تخدم مصالح الجبهة ولا الأسرة ولا الطفل ولا حتى أي طرف اخر... انا شخصيا قضيت أزيد من 14سنة وانا أبحث عن أبنائي بغية جماع شتات أسرتي التي تتكون12 فردا حيث ثلاث منهم كانوا يدرسون بكوبا و أربعة بإسبانيا، بينما الاخرون اكتفيت بتعليمهم بين الجزائر ولبيا ،حتى لا يكون مصيرهم هو مصير إخوتهم اللذين فقدوا قيم جميلة تعلمناها نحن مع أبوينا ولم نستطيع تلقيناها لهم بسبب سوء التدبير الأسري، فاغلب الاسر تعيش شتاتا بسبب المشاكل السياسية لهذا الملف فحتى من اختاروا العودة الى ارض الوطن يعيشون هذا الشتات فاغلب أبنائهم لاجئون بين الدول، لصعوبة التواصل معهم فترة هجرته عن المخيم ولصعوبة أيضا تهجير شاب تجاوز الخامسة والعشرين وهو يحمل جنسية اجنبية أخرى ،وثقافة أخرى ،وقناعات أخرى ،هذا ان كنت محظوظا ولازالت الصلة طبيعية بين الابوين وإبنهم ... فانا اختارت الهجرة هنا باشبيلية لمحاولة جمع كل أبنائي ،لان من هجروا المخيم لم تعد لهم الرغبة للعودة اليه ،ومن عاشوا تحت رعايتي سوف يأتوني أينما وجدت ،وحتى يسهل علينا التواصل كنت مجبرة للإقامة بالغربي ،حتى وان تأخروا في زيارتي فسوف أفعل المستحيل لزيارتهم خاصة وأن عامل اللغة ساعدني جدا في تخطي العديد من العقابات التي فشلت قريناتي بسبب مشكل التواصل في تخطيها ،الحمد لله انني حاولت انقاذ كلما يمكن إنقاذه وهو ان أحاول تأسيس نقطة وصل يمكن ان يصلني فيها كل ابنائي ،فانا أم وعلي ان أعيش امومتي حتى وان كبر الأبناء، واتابع مصيرهم أرغب في أن أتعرف على أبناؤهم فهم احفادي، فهناك من لا تعرف حتى مصير أبنائها بعد التهجير ،حيث هربت بهم الأسر المستضيفة بعد ان خرقت تلك الاسرة بنود الاتفاقية، بتغيير العنوان وأنا أحس بألم تلك الأمهات رغم معاناتهم في صمت فالقطة لا تنام الا حين تجمع قططها الصغيرة حولها فما بالك نحن البشر... المعاناة التي عانينها نحن نساء تندوف خصوصا بسبب تعدد أزواجنا وبالتالي تعدد أنسابنا اغلب أبنائنا غير أشقاء اخوة من الام فقك إضافة الى ان كل واحد منهم له عشرات الإخوة من الأب، وعليه فإن مسألة جمع شتات الأسرة، لم يهتم به الرجال فهو يوكل هذا الأمر للزوجة أو الطليقة، فهي فقط من لها كبد تحترق لفراق أبنائها، أما هو فسيكون سعيدا فقط لو عادوا في مستوى جيد ليكون فخورا بمستقبلهم... الإشكال الحقيقي أن من حثوا على تزويجنا قاصرات، ومن أجبرونا على كثرة التوالد، ومن ساهموا في تهجير أطفالنا، تخلو عنا عند معركة البحث عنهم ،فكنا نبحث عنهم لوحدنا نترافع في المحاكم ضد المنظمات والأسر المستقبلة لوحدنا ،نحن من ندفع ثمن المحامي أو نبحث عن محامي متطوع لقضايانا الإنسانية هاته ،تخلى عنا الجميع حتى الدولة المغربية لم تكن ذكية في تناول هذا الملف الإنساني الشائك الذي ضاعت فيه أجيال من الشباب ومعه اكتوت العديد من الأمهات بفقدانها لهم ،فإحساس أن تفقد ابنك وهو على قيد الحياة أشد ألما من أن تفقده بفعل الموت...