الشاعر عبد الكريم الطبال واحد من رواد الحداثة الشعرية العربية بالمغرب، وهو إلى ذلك شاعر مشاء. راهب يتحصن بمعبد القصيدة، وأيقونة شعرية تحرس مدينة الشاون الصغيرة- شمال المغرب- من عاديات اليباس. بعيد عن الأضواء لكن قصائده تجتذب إليها الأضواء من كل فج عميق. كل قصيدة جديدة له هي حدث ثقافي، أما الحوار معه، هو الصموت، فأكثر من حدث.. وفي ما يلي حوار تلقائي مع هذا الرجل الذي يفيض شعرا وحكمة. - لكل شاعر حكاية تشده إلى «الطفل الذي كانه»، فأي حكاية عاشها أو اخترعها الأستاذ عبد الكريم الطبال؟ - حكايتي باختصار هي حكاية قطرة الماء التي انوجدت أول ما انوجدت في رحم سحابة قديمة، ثم شبت في الرياح، ثم في الأمطار، ثم في المنابع وأخيرا شاخت في البحر. القطرة وإن طفلت، وإن شبت، وإن كهلت، وإن شاخت لا تزال هي القطرة الصغيرة في روح تلك السحابة.. ولذا حين أقول:إنني شخت يتكلم الطفل داخلي فيقول:أنا هنا وإن شخت أنت فحكايتي أعيشها ولست أخترعها. - في زمن العولمة وثورة تردي القيم والمفاهيم والفوضى غير الخلاقة، أي حصة تتبقى للقصيدة؟ - الشعر في هذا الزمن المختلف غير المؤتلف، في هذا الصوت اليابس المهترئ، في هذا الزمن الخريف الدائم.الشعر في هذه الفوضى غير الخلاقة هو سفينة نوح، هو طوق الحمامة، هو غصن الزيتون، هو نار أورفيوس، هو العنقاء التي لم تترمد، هو في روح الكون في فسيفساء الطبيعة، في جسد الإنسان ، في كل الجمال المنظوم والمنثور في كتاب الحياة. فالحصة العميقة كلها تبقى للشعر. - ماذا منحتك القصيدة وماذا سلبتك؟ - ما منحتني وما سلبتني. هي فقط أخذت بيدي وكنت على وشك الاغتراب، ثم ذهبت بي، ولا تزال، في طريق أحسب أني كنت أحلم به، أعيش فيه، قبل أن أجيء ، وربما قبل أن ترتكب الخطيئة. وفي كل مرة أتعثر في الطريق أرفع عقيرتي بالشكوى إلى القصيدة. - حين يتحدث ابن خلدون عن الحضارة يصفها ب»العمران البشري» حيث لا عمران بدون بشر. ولأن الشعراء هم حراس الأمكنة من التآكل واليباس، فهل هناك مكان في الدنى يضاهي حاضرة الشاون لديك؟ لمَ وكيف؟ - دائما كان الشعراء، كما قلتَ، حراسَ الأمكنة: فالسياب كان حارس البصرة، والمعتمد كان حارس اشبيلية، ولوركا كان حارس غرناطة، وآخرون وأمكنة أخرى. لكن الآن الشعراء فيما يبدو بدون أمكنة يحرسونها. الكون الآن في زمن العولمة الشعرية هو مكان الشاعر، والشعر الآن كما أتصور هو حديث عن الإنسان بلا اسم ، وحديث عن المكان بلا عنوان. فغرناطة مدينتي، وداغستان مدينتي، والمدن التي لم أزرها مدني. وأحسب أن «الشاون» توحّدت في كل مدينة، وكل مدن العالم واحدة، الآن، رغم السياسة ورغم الحدود. وإذا كان لا بد من حراسة فلا مكان للشاعر غير الكون الذي عليه أن يحرسه. - كيف ينظر الأستاذ الطبال إلى راهن الشعر العربي، والمغربي على الخصوص؟ أنظر إلى راهن الشعر العربي، ومنه المغربي، كما أنظر إلى الواقع العربي فرغم الاختلال والفوضى والتسيب هناك قوة شعرية رائدة، قد أقول: إنها كونية جلية هنا وهناك. - هل لي أن أضيف سؤالا أو سؤالين؟ - ممكن أيها الصعب. - ما السر، بظنك، في كون بعض النصوص الإبداعية، تظل متوهجة كنبيذ لاتزيده العتاقة إلا جودة، فيما نصوص أخرى ما تنفك تدوي رغم بريقها الخلّب؟ وما السر في كون بعض المبدعين يظلون مشائين عبر الأزمنة بينما آخرون تحاصرهم الحقب فيظلون محصورين فيها لا يبرحونها؟ - السر ربما قد يرجع إلى قوة الإبداع. وهو رهين بقوة الشعور وبجمالية الخيال وقبل ذلك بامتلاك اللغة وعمق الفكر. نعم هناك الشعر الذي يأفل مع أفول زمنه. وينطبق هذا كثيرا على الشعر المطلوب من أمير وحتى من حبيب، وينطبق كذلك على كل شعر حصر أفقه في أفق الوقت والمكان ، وبالأحرى الشعر الذي ليس شعرا. - لقد شاهدت انقشاع أوهام كثيرة، كما شاهدها مبدعون آخرون. فأي حلم لم يتآكل بعد لديك؟ - فعلا هناك أوهام كثيرة انقشعت: القومية العربية التي كنا نؤمن بها كما نؤمن بالدين هي الآن خرافة أو أكذوبة. والإخوان المسلمون، بإطلاق المعنى، تبين الآن أنهم ليسوا إخوانا للمسلمين. حزب البعث تبين أنه ليس حزب البعث. النهضة العربية ليست النهضة العربية. أين انتفاضة الربيع ؟ أين انتفاضة ميدان التحرير.....أين اليسار هنا وهناك؟ وأوهام أخرى تولد وتموت. الذي بقي وحده هو الأمل في الأجيال الجديدة التي ستأتي من صلب المستقبل. - وليس من صلب الحاضر؟هه. - ضحكتك كانت لي مرير - أعتذر لك ولا أعتذر لي. - ربما هذه كلها مجرد بذور قد تؤتي أكلها.