محمد عفيفي مطر.. مسيرة نصف قرن من الإبداع الشعري الشديد التميز والثراء والخصوبة والعمق والمتشعب الدلالات والرؤى. في حضرة هذا الشاعر المالك لطاقة شعرية خلاقة، والمحتل لمكانة رفيعة بين شعرائنا المعاصرين، نحن أمام تجربة شعرية فريدة عصية تستفز قارئها وتثيره، فهي ليست، أبداً، في متناول كل يد قارئة، لأن صاحبها من أكثر المبدعين وعياً بأن الكتابة الجيدة الممتازة ليست بالفعل الهيِّن أو اليسير، بل هي عمل شاق حقا. هو الذي ضاق، منذ بداياته، بالمألوف المتداول والمكرس، والتمس لنفسه السير في الطرق الوعرة للبحث عن الإنجاز الشعري الحقيقي، آخذاً على عاتقه التزود العميق من التراث الإنساني قديمه ووسيطه ومعاصره، إبداعياً وفلسفياً. من ثمَّ جاءت منجزاته الشعرية مدهشة مغايرة لغيرها على مستوى الرؤية والجسارة اللغوية والمعمار الشعري والإيقاع، حافلة بروافد بالغة الرحابة والغنى، متسمة بالفرادة والتمايز والخصوصية. إن الكتابة عن المتون الشعرية المطرية مهمة شائكة محفوفة بالصعاب، تُلقي المزيد من العناء والجهد على كاهل الباحث الذي يسعى لقراءتها ومقاربتها. فهي لن تفتح له بعض مغاليقها وأسرارها بيسر، بل قد تصيبه بالإحباط حين يجد نفسه عاجزاً عن متابعة سياقها المعنوي أو الشعوري. كما أنها لن تمكنه من الوقوف على أبعادها الفنية والفكرية المتعددة المتشابكة دون مكابدة ومعاناة وجهد بالغ، ذلك لأنها متون مدججة بمعرفة شمولية، تحيلك، بعد معايشة مديدة شاقة، على مرجعيات وحقول معرفية بالغة التنوع، وعلى أمكنة متعددة، ونماذج إنسانية تنتمي لأزمنة شتى، ومقامات شتى، وعلى حشد من العناصر الفنية الشعرية والمستعارة من أجناس مختلفة نحت بها منحى درامياً. كل هذا أسهم في تسربلها بغلالة كثيفة من الغموض، ولكنه غموض مدهش خصيب مثمر. إننا إزاء مبدع تميز بين شعراء جيله بالعطاء الغزير، وأمام متون شعرية تكتنز في ثناياها عوالم عميقة الأغوار، يتداخل فيها الماضي بالحاضر في تناغم مع استشرافات مستقبلية، وتمتزج فيها الجدة والحداثة بالأصالة، امتزاج التجربة الذاتية بأزمة الواقع الذي تعيشه، كما تنوء بالعديد من الرؤى والأفكار والمواقف، وتحفل بالعديد من القيم الجمالية والسمات الفنية الأصيلة. أمام كل هذا، فإننا لا نستطيع أن نضع أيدينا على دقائق كونه الشعري الأثير في بناء تجربته الشعرية، أو الإحاطة بتفاصيل عوالمه المتشابكة المعقدة، بل سنكتفي، في هذه الوقفة، بالإشارة فقط إلى بعض المميزات والقسمات الفنية والفكرية التي انفردت بها هذه العوالم الشعرية المطرية الباذخة، والتي تستحق كل واحدة منها وقفات مطولة من أجل محاولة الاقتراب منها وسبر أغوارها، هي التي تبلورت في معظم دواوينه، وتبدت لنا فيما سيأتي. «وهل لغةٌ تُشعلُ النار في حطب الشعر..». يستطيع المتلقي المتخصص أن يتلمس كشوفات شاعرنا المتميزة على مستوى اللغة، ومدى اهتمامه بها كأداة للتشكيل الجمالي، ووعيه الخاص باعتبارها طاقة قابلة للتفجير، ذلك أن القصيدة الجيدة هي التي تمتنع بأنفة وكبرياء على لغة النثر. من ثمَّ جاءت لغته مكتنزة ذات طاقة حركية وإيحائية، تؤكد أن مهمة الشاعر الحقيقي هي إشعال الحرائق في اللغة. فهذه اللغة تولد لدينا إحساساً بالدهشة عبر إقامتها لحوار تتوحد فيه الأشياء، حوار يوحد بين مصاهرة العشق والموت (فهل لغةٌ تتوقّدُ فيها مصاهرةُ العشق والموت..). لقد تحولت اللغة عند شاعرنا بوحشيتها وتحطيمها للمألوف، إلى طاقة ذات قدرة تصويرية ضاجة بالتوترات والأحاسيس النفسية عبرخلقها، مثلا، لشخصية غريبة ذات إيقاع كوني، كما هو الحال في خلق شخصية «ظلمائيل»: لظلمائيل عينان مُرَمّدتان بالشمس القديمة والسديم الأول المحمول في نقالة الخلقِ مُفتّحتان في الأرض التي لم تختمر طمياً ولم تخضرَّ صحراءَ وتائهتان تحت مجرّة الفوضى ومُعتمتان تركض فيهما نار الدهور وتُمطر السحبُ القديمةُ ظلمةً ورؤى وأضواءَ... وهذه اللغة أسعفته في توظيفه التراث عصرياً بمنحه شفافية لها دلالاتها المرهفة، كتوظيفه لمطلع موشحة لسان الدين بن الخطيب المشهورة: جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس والتي جاءت مشحونة، بفعل قدرة اللغة على التقمص، على الشكل التالي:
أقبل الموتُ بوجه وقناعْ ضَمّني وهو يغني بالوداعْ لزمان اليأس بالأندلس: (جادك الرعبُ إذا البرقُ رمى رُمحهُ بين الضحى والغَلَسِ فأحال الصمتَ ناراً ودما. آه يا ليلا زجاجيَّ العيونْ أطفئ الآن عيون الحرسِِ...). كما تتحول اللغة لترسم حالة نفسية لها أبعادُها الطبقية: وأنا فزّاعةُ الطير بأرض الفقراءْ كنتُ في قلب العراءْ مُستحمّاً بعراك الطير في الريح، ومحشواً بأوراق التقاويم وأسلاب السَّفرْ. ولم يكف الاستخدام اللغوي عند شاعرنا عن أن يستفيد من التجربة اللغوية الصوفية عامة، لخطورتها وأهميتها عندهم، ومن كشوفات شيخه الجليل العذب ابن عربي في عالم الحروف خاصة، لما لها من دلالات وخواص وأسرار عند تركيبها وانفرادها. من ثمَّ جاء استثماره لها، واستخدامه إياها كدوال ورموز: قاف: آخرُ العشق وأول القتال، آخر الغرق وأول القراءة. تاء: طبق للخبز وجفنةٌ للدمع والدم، آخر السُّحت وأول التراب. لام: صرخةٌ معقوفةٌ وجسدُ امرأة يتقبَّض بالشهوة ورشا الطيران في الريح وامتلاء الحمل وتحدِّي الولادة... ألم يقل سيِّدي محيي الدين بن عربي في فتوحاته المكية (الجزء الخامس من السفر الأول) عن عالم الحروف: «اعلم ? وفقنا الله وإياكم- أن الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا. وعَالَمُ الحروف أفصح العالم لساناً، وأوضحه بياناً. وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف في العُرف». كما صاحب شاعرنا، في هذا المجال، نصوصاً «للنفري» بلغتها الآسرة، وقد جاءت متوازية مع العديد من قصائده يحدها بعلامات تنصيص، ديوان (والنهر يلبس الأقنعة) نموذجا. ولقد كان الشاعر محمد عفيفي مطر، لأسباب فنية وجمالية قبل كل شيء، من الشعراء المعاصرين الأوائل التفاتاً وتوظيفاً للنصوص الصوفية باعتبارها نصوصاً أدبية ترقى في، أحوال كثيرة، إلى مرتبة الشعر الصافي، وهو ما يتجلى، مثلا، في استخدامه للغة حافلة بالإشارات والرموز، لغة تشتغل بمهارة بالغة على صياغة عالم شعري مثقل بالرؤى والدلالات والأخيلة. لقد كان للتصوف اليد الطولى في إنقاذ الشعر الذي وصل، في منتصف الستينيات من القرن الماضي، إلى مرحلة الجمود على يد الشعراء الوقائعيين وأدعياء الالتزام، حيث أنقذ القصيدة العربية المعاصرة من مألوفية لغتها وآلياتها الجامدة وأفكارها المعروفة مسبقاً، ومنحها رعشة اللغة البكر بحساسيتها وتوترها وجرأتها الفريدة على ولوج معالم النفس المنفتحة على الغامض والغريب والمستعصي على المنطق والمضاد للنثر. « أصدقائي امرؤ القيس علقمةُ الفحلُ والنّفَّريُّ الغريبُ المشرَّدُ بين قرى مصر والبصرة، السُّهر وَرديُّ زوجُ ابنتي وأنا طالب الثأر من قاتليه وممن يُعيدون تطويقه بالحصار المعاصر والأسئلة...». تكشف المسيرة الشعرية المديدة لشاعرنا محمد عفيفي مطر عن مدى ارتباطه الحميمي بالعديد من الشخصيات التراثية الإنسانية حتى أصبح بعضهم إخوة له في العمل الإبداعي ونواة صلبة في التشكيل والتعبير، وعوناً له على صياغة رؤياه للواقع الراهن، بل وسلاحاً مسعفاً في مواجهته لهموم الذات والجماعة. لهذا أعتقد، من جهة، أن الاقتراب من هذه الشخصيات، والتعرف على مساراتها عن قرب، بتجلياتها المتنوعة، يعتبر من المداخل الأساسية للولوج إلى شعاب تجربته الشعرية لاستكناه أسرارها والوقوف على كنوزها الوفيرة. ومن جهة أخرى، سيسهم، لا محالة، في أن يخفف من وطأة غموض وتعقيد متونه الشعرية وتأبيها على متلقيها قارئاً وباحثاً في آن معا. وللتأكيد على ملاحظتنا السالفة، نورد أسماء بعض هذه الشخصيات التي وقفنا عليها، وهي التي ستحيلنا، بكل تأكيد، على تراث بالغ الرحابة زمنياً ومكانياً ورمزيا: ((ألقبيادس ? أمبيذوقليس ? سقراط ? جلجامش ? هرقليطس ? زيوس ? أخيل ? عشتار ? هوميروس ? أورفيوس ? هكتور ? عزريل ? أبوالهول ? ترزياس ? أوريديس ? خنوم ? زرادشت ? دانتي ? المسيح ? امرؤ القيس ? ذو الأصبع العدواني- علقة الفحل ? السمندل ? زرقاء اليمامة ? جعفر بن عُلبة الحارثي ? عمر بن الخطاب ? الخضر ? الحسين الكربلائي ? الحسن بن الهيثم ? حمدون القصار ? الحلاج ? النفري ? ابن الفارض ? الخيام ? السهروردي ? معاوية بن أبي سفيان ? المتنبي ? غيلان الدمشقي ? ابن رشد ? الأمويون ? هشام بن عبد الملك - محيي الدين بن عربي ? الإشراقيون الهرامسة ? البرمكيون ? أيوب ? الواسطي ? جويا ? اللورد بيرون - الإسبان - ماريا تريزا ? لوركا ? بدر شاكر السياب ? محمد عبيد (شهيد الثورة العُرابية) ? علواني (صديق الشاعر) ? أنور المعدّاوي ? حسن وجليلة ? شامل باسييف ? رحمة (طفلة الشاعر) )). إن هذه العينة من الشخصيات التي سعى الشاعر لاستدعائها واستثمارها في متونه الشعرية كوسيلة تعبيرية وضرورة للتحديث، ستمدنا، كذلك، بفكرة عن ألوان المعرفة، بتنوع أصولها وثمارها وأمكنتها، التي انفتحت عليها منجزاته الشعرية، خاصة إذا علمنا أن الشاعر قد حرص، طيلة عمره الإبداعي، على القراءات الصعبة في التراث اليوناني الفلسفي والأدبي، والتراث الفلسفي والكلامي العربي الإسلامي، وتوقف بعمق شديد عند العديد من أعلام التصوف، وصاحب طويلاً دواوين أسلافه الكبار من الشعراء العرب الذي أحبهم، وتواصل مع الفكر الغربي الحديث بكل تياراته، كما انفتح على الإبداع الشعري الغربي الحديث قارئاً ومترجماً للعديد من نماذجه. لقد كان لكل هذا الموروث حضوره المشع البهي في منجزات شاعرنا الإبداعية، مما مكنها من أن تنهض على تفاعل أبنية ثقافية وحضارية ونصوص دينية وأساطير ورموز جمة. إن استدعاء الشاعر محمد عفيفي مطر للموروث الإنساني، بكل معطياته وعناصره، كان حاضراً في متونه الشعرية حضوراً له قيمته التي لا شك فيها.. غير أن استثماره وتوظيفه للتراث العربي الإسلامي بشقيه الفصيح والشعبي، ظل يحظى عنده بمكانة ومساحة خاصتين، فأكد بذلك على هويته العربية والمحلية، خاصة فيما يتعلق بتوظيفه الشخصيات والأحداث والنصوص التراثية. لقد كان له هذا التراث بمثابة الينبوع الزاخر بالتجليات والإبداع على أكثر من صعيد، حيث انكب على استجلاء ما فيه من قيم وقوى، مستعيناً بها، ومن خلالها، على التعبير عن جراح الذات والجماعة، وعن تصدعات الواقع المزري الذي تعيشه الأمة. لأن هذا التراث بالذات هو الأكثر شيوعاً، حيث يعيش في وجدان الناس وقلوبهم، وهو الجسر النفسي والروحي والعقلي الأساسي القادر أن يحقق التواصل بين الشاعر وبين متلقي شعره. لقد اختلف التعامل مع التراث عند شاعرنا باختلاف مراحل وأطوار التفكير والفهم. وتميزت كل مرحلة عنده بحضور لافت لجانب معين من هذا التراث دون تغييب لجوانب أخرى منه. فقد تجلى، منذ بداياته، ذلك الارتباط الكبير بالمأثورات الشعبية من حكايات ومواويل وسير وملاحم وأساطير شعبية عربية وخرافات، وهذه الأخيرة ? على سبيل المثال- كانت مادة أساسية لديوانه (يتحدث الطمي) ولقصيدته الطويلة «الحصان والرأس» وغيرها من قصائد المرحلة. إن دواوين الشاعر الأولى كانت بنت هذه التجربة، وهي التي ارتوت متونها من زخم وغنى ينابيع هذا الموروث بأشكاله وشخوصه ورموزه ولغته المجازية، فأكد الشاعر بهذا، من جهة، على أهمية هذا الرافد الشعبي في الإبداع الإنساني (ألم يكن لكتاب «الغصن الذهبي» فضل بالغ في تعريف المبدعين المعاصرين بتراث الإنسانية الشعبي، وخاصة جانبه الأسطوري؟)، ومن جهة أخرى، أكد على ارتباطه القوي ببيئته المحلية وتراثها التي تحمل من السمات البيئية والجغرافية ما يميزها عن غيرها، وإن كانت العديد من المأثورات الشعبية، وإن تناءت الأمكنة واختلفت الأزمنة، تتسم بسمات عامة ووجوه من التشابه تشترك فيها معظم الشعوب العربية، وتكاد تكون متقاربة في أهدافها وغاياتها ومواقفها. لم يؤسس شاعرنا محمد عفيفي مطر عالمه الشعري على استلهامه فقط لموروث بيئته المحلية التي فتح عينيه عليها، والتي ما زال مرتبطا بها لحد الآن، بل توجه، منذ البدء، إلى فتح نوافذ متونه الشعرية على العديد من الخوالد الثقافية الإنسانية سواء الموغلة في القدم أو المعاصرة، فهي التي من شأنها أن تفتح أمامه آفاقا رحبة لا خصاب مسارات إبداعه، وتجديد أساليبه، وتعينه، في نفس الآن، على أن يوسع من نظرته لنفسه ولما يحيط به. وسأخص بالذكر هنا ? تمثيلا لا حصراً- حضور مبدعين اثنين انجذب إليهما الشاعر في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، حيث ترك كل واحد منهما أثراً معيناً عليه. أما أولهما فهو الشاعر «لوركا»، أحد الأعلام الكبار في الشعر العالمي الحديث، الذي احتل مكانة متميزة عند ثلة من شعرائنا المعاصرين (السياب - عبد الصبور ? البياتي ? سعدي يوسف ? درويش - القيسي...) وكان له تأثيره البين في العديد من المتون الشعرية العربية المعاصرة. لقد توقف شاعرنا عند المنجزات الشعرية والدرامية لهذا الشاعر الغرناطي الأندلسي، هي التي من المحتمل جداً، أن تكون قد نبهته مبكراً، إلى قيمة توظيف الموروث الشعبي المحلي في متونه الشعرية، وإلى تلك اللغة التصويرية المجازية التي يعرف بها أهالي البادية، وإلى استيحاء عناصر الطبيعة المحلية بكل تكويناتها وحركيتها. وفي هذا المجال ألم يتعامل شاعرنا عفيفي مطر، هو الآخر، مع هذه العناصر الطبيعية المحلية بصوفية أثيلة؟ (اللبلاب ? الجميز ? الآبار ? السواقي ? الدود ? المنقوع ? الطمي ? الطمث ? البهائم ? العطش ? العشب ? الحمائم ? المهرة ? النهر ? الخيل ? الأغنام ? العيون ? الدجاج ? الأرض ? النوق ? الحقول ? العاصفة ? السنابل ? الجوع ? الثدي ? السرو ? النطفة ? العباءة ? الأحجار ? القصب ? الطحلب ? القمح ? الطين ? النخل ? الرعب ? الليل ? الصهد ? الريح ? اللبن ? الخلاخل ? البومة ? الخرافة ? الحفرة ? الشجر ? الحصى ? الغمامة ? الصخر ? العنكبوت ? الأعشاب ? الغيطان ? الرضاعة ? الوشم ? العنقود ? القواديس ? الوتد ? الغرق ? الحراس ? الطقوس ? الجيفة...). هذه عينة، من معجمه اللغوي، التي تحيل على بيئة الشاعر، وتدل على ذلك الارتباط الوثيق بها، هي التي ترددت في دواوينه الأولى خاصة. في هذا السياق، من الضروري لدى الحديث عن هذا التأثير المحتمل بالشاعر الأندلسي، الإشارة إلى أن معظم منجزات «لوركا» الإبداعية قامت، في ركن أساسي منها، على تشبعها بالأغاني الشعبية القديمة والأساطير الغجرية والبطولات والطقوس والخرافات والملاحم المنتمية للبيئة الشعبية المحلية الأندلسية الفريدة بألوانها المتنوعة، وغيرها من عناصر الموروث الشعبي، وعناصر الطبيعة التي لم يبتعد عنها «لوركا» أبداً، بل حملها الكثير من المعاني. ألم يقل «لوركا» مرة «لقد تعلمتُ الشعر من تلك الحكايات والأساطير الخيالية التي كانت تهدهدنا بها أمهاتنا ومربياتنا، ولكم غالبنا النعاس ونحن نتابع بخيالنا فارس الحصان الخشبي يغوص بعيداً في أعماق الظلال». فمن هذه الخصوصية المحلية الفريدة، بكل عناصرها، استطاع «لوركا» بعبقريته الفذة وإبداعه العظيم أن يتبوأ مكانة متفردة بين شعراء العالم المعاصر، وأن يرتفع بوطنه إلى أقاصي الكون. إذا كان الأثر اللوركوي، وما تسرب منه في متون محمد عفيفي مطر يحتاج إلى اقتفاء واستقصاء، فإن شاعرنا هذا كان واضحاً عندما ذيل قصيدته (جريمة في غرناطة) من ديوانه (من دفتر الصمت)، بما يلي: «في القصيدة إحالات وإشارات كثيرة من شعر لوركا ومأساة حياته وموته، وليس هدفي من القول أن أسجل مراحل حياة وحكاية موت فحسب، ولكنني دائماً أجعل الموضوع الرئيسي للقصيدة تكأة أستند إليها لأقول ما أقول، راجياً أن تحمل الكلمات في طواياها غمغمة قلبي أنا، وليس الموضوع إلا منطلقا للإفضاء». لقد استحضر شاعرنا، في هذه القصيدة، غرناطة ليعالج من خلالها موضوعاً أساسياً هو الحرية. فغرناطة هي المدينة التي شهدت، غداة الحرب الأهلية الإسبانية، ظروف الموت التراجيدي للشاعر الإسباني الأندلسي العظيم. فلوركا، الذي وهب حياته للحب والحرية وعبر عنهما تعبيراً عميقاً، هو، هنا، تجسيد لإيمان المبدع بقضية الحرية إلى حد الاستشهاد من أجلها. وغرناطة، كذلك، يمكن اعتبارها رمزا لكل مكان آخر في العالم يفتقد فيه الإنسان حريته ويسعى للقبض عليها، مندداً بالطغيان وأعداء الحرية. كما استدعت غرناطة، بوضعها ذاك، إلى ذهن الشاعر المأساة الإنسانية التي كان يعاني منها الزنوج في «هارلم» (حي الزنوج بنيويورك) هذا الحي الذي كان قد أوحى للوركا بإحدى أهم قصائد ديوانه (شاعر في نيويورك) وهي بعنوان «أنشودة إلى ملك هارلم» حيث اصطدم بواقعه الكريه الذي يعج بالبؤس والقذارة. القصيدة المطرية انطوت، من جراء كل هذا، على أجواء من عالم العنف والدم والموت المفجع: أسبان ? يا ويلي ? يسقون خناجرهم من قلب الأسبان. أما الشخصية الثانية التي استحضرها شاعرنا في أواسط الستينيات من القرن الماضي، فالأمر يتعلق بالشاعر والفيلسوف والصوفي والخطيب الإغريقي القديم «أمباذوقليس» (نحو 490 ? 430 ق.م)، الذي عاش في جزيرة صقلية، قبل أن يُحكم عليه بالنفي لنضاله من أجل قيم الحرية والديمقراطية، ولدفاعه عن المستضعفين من شعبه، حيث أخذ يطوف بأرجاء إيطالية الجنوبية. وقد كتب قصيدتين ضمنهما فلسفته هما «في طبيعة الأشياء» و»الطهارات». وقد قيل إنه قضى بأن ألقى بنفسه في فوهة بركان «أتنا»، هو الذي كان يؤمن بفكرة التناسخ. إن هذه الشخصية ذات التجربة الفكرية والثقافية والحياتية الخاصة، كانت محوراً أساسياً لديوان شاعرنا (ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي). لقد توقف محمد عفيفي مطر عند مواقف وفلسفة وموضوع انتحار «أمباذوقليس» المنتمي للموروث الثقافي الإغريقي والإنساني، لا ليكتب تاريخ حياة هذا الشاعر الفيلسوف، ولكن ليستعير صوته ومواقفه وبعض وقائع حياته، ليسقط عليها مرحلة تاريخية معاصرة عايشها شاعرنا، حيث اتخذ منه قناعاً للتعبير عن موقفه النقدي العميق من أوضاع سياسية واجتماعية كانت قائمة في وطنه إبان مرحلة الستينات، تلك الأوضاع الخاطئة التي تميزت بالقهر والغيظ ومصادرة الحرية، وساهمت في تشويه الإنسان، وحدّت من انطلاق قدراته وإمكاناته. لذلك جاءت معظم قصائد هذا الديوان، قبل هزيمة 1967، تعبيراً مخلصاً وصادقاً عن الشعور المروع بالمرارة والخيبة والحزن إزاء مجتمع يعمه الفساد، لم يستطع شاعرنا عفيفي مطر أن يفلت من إسار تلك الظروف والأوضاع التي سادت المرحلة، لإيمانه الشديد بأن الإبداع الحقيقي مسؤولية ومعاناة واختيار ونبوءة، فهل نستطيع القول بأن مثل هذه القصائد الصادقة كانت إرهاصاً بما حدث بعد ذلك من هزيمة ضارية؟؟. إنني أجد من الضروري الإشارة إلى أن هذه الإسقاطات التاريخية التي وظفها شاعرنا، أوشكت أن تكون سمة من سمات العديد من الأعمال الإبداعية التي سادت في تلك اللحظة التاريخية. حيث كانت سلاح المبدعين في الإفلات من سيف الرقابة المسلط على انطلاقتهم، وعلى حريتهم في التعبير عن أنفسهم وعن مواقفهم تجاه واقع أصيب بانتكاسات شتى. ولقد نجح شاعرنا فنياً في إلباسه الحاضر ثوب الماضي باستخدامه الإشارة الثقافية والصوت والقناع وإثباته، كمدخل للديوان، لبعض من الشذرات المتبقية من كتابات صاحبه الفيلسوف القديم. ويمكن استثناء قصائد محدودة سادتها أحياناً المباشرة الجهيرة والهجاء النقدي الحاد. قصيدة «صوت الخيبة» نموذجاً. نستطيع أن نؤكد في نهاية هذه الفقرة، ما ألمحنا إليه في البداية، بأن التراث العربي الإسلامي بمصادره المتنوعة، كان دوماً يحظى بسمو مكانته وإشراقه وغنى قيمه عند الشاعر محمد عفيفي مطر، حيث ظل عنده هذا التراث رافداً إبداعياً أصيلا نهل منه بغية اكتشاف طاقاته وإمكانياته ودلالاته المتجددة، من أجل إثراء رؤيته المعاصرة، واستدعائه وتوظيفه لأشد المواقف والنصوص والنماذج دلالة على أهم القيم التي يجسدها في شعره، ألا وهي قيم الحرية والعدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية. إن ثمة العديد من القصائد التي اتجهت هذا الاتجاه، سنقتصر هنا على ذكر بعضها، حيث نلتقي بشيخ الملامتية المتصوف حمدون القصار (ديوان: من دفتر الصمت)، وبالحسن بن الهيثم وعلاقته بالحاكم بأمر الله في مصر من خلال تصديه لموضوعة الفكر في مواجهته للسلطة (ديوان: كتاب الأرض والدم)، كما يواجهنا موقف غيلان الدمشقي الذي فتح الساحة بالدم، حيث وظف الشاعر قولة الإمام جعفر الصادق حين كان يرى «غيلان» «هذا الفتى دمه بين عينيه، وإنه لمقتول» مستعيراً وجه وصوت «غيلان» الذي صار ضمير كل الجياع والرافضين الباحثين عن العدالة (ديوان: والنهر يلبس الأقنعة). وهناك تجربة تراثية كاملة تتمثل في استدعاء الشاعر لشخصية عمر بن الخطاب واتخاذه قناعاً يقدم من خلاله همومه ومواقفه ومشاغله الآنية المرتبطة بقضايا الجماعة والعصر، مستحضراً، بالطبع، مواقف ومنهجية الخليفة الراشد فيما يختص بتعامله مع السلطة والعدل والحرية والمشكلات الاجتماعية. لقد كان عمر بن الخطاب شخصية أساسية في ديوان (شهادة البكاء في زمن الضحك). كما لا يفوتنا، في هذا المجال، الإشارة إلى استغلال شاعرنا للنص القرآني وإفادته الجليلة من هذا المصدر الذي وجد فيه مجالاً خصباً، وذلك من خلال توظيفه العديد من تراكيبه وأساليبه، واستحضاره لمواقف وأحداث معينة، حملها أبعاداً دلالية خاصة مغايرة لدلالتها الأصلية. وما ديوان (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) سوى نموذج لتوظيفه الاقتباسات المأخوذة من القرآن الكريم. في الختام لابد من الإشارة إلى أن تعامل شاعرنا فنياً مع العناصر التراثية المستخدمة في شعره، قد تعددت طرائقه وأنماطه، حيث تمثل في الإشارة الثقافية والاقتباس والتضمين والتنصيص والتحوير، ووضع اليد على العديد من الشخصيات ليتحدث هو شخصياً من خلالها أو إليها عن طريق الجدل والمواجهة والحوار، أو الحديث عنها. يعتبر عنصر المكان من السمات المميزة لمتون شاعرنا محمد عفيفي مطر، وأحد أشكال التعبير لديه عن الذات والجماعة، وإن لم يحظ بأي عناية من لدن دارسيه. فمن خلال الدواوين التي بين يدينا، استوقفتنا مجموعة من الأمكنة التي استضافها الشاعر، ومنها خاصة (غرناطة ? طليطلة ? دمشق ? بغداد ? الحجاز ? تونس ? قرى مصر ? البصرة ? الريف ? سدوم ? النيل ? قصر الحمراء ? إسبانيا ? طيبة ? إرم ? هارلم ? سراييفو ? الأهوار ? نينوى ? الفرات ? أنجلترا ? لندن ? سجن لاظوغلي ? الزنزانة ? ملجأ العامرية ? رملة الأنجب...). ومما يلاحظ على هذه العينة أن جغرافية شاعرنا المكانية منبثقة، في بعضها، من تجربته الخاصة ومعرفته الشخصية، مما أضفى عليها نوعاً من الخصوصية والتميز، والبعض الآخر استخدم كإشارات ثقافية. غير أنه حمّلها، جميعها، العديد من مواقفه وعواطفه ومشاعره. ففي قصائده الأولى، وكما لاحظنا في فقرة سالفة، سعى الشاعر إلى تلوين متونه الشعرية بألوان البيئة الريفية التي ينتمي إليها عن طريق العديد من الأوصاف الخارجية للطبيعة، ومن خلال الصور الرمزية المستمدة من حياة تلك البيئة، وهي صور خصبة غنية تمكن الشاعر من عرضها في بناء فني عميق. فإلى هذه البيئة تنتمي قريته (رملة الأنجب) التي يمكن اعتبار حضورها، سواء بالاسم أو بالإحالة على بيئته بشتى عناصرها، أهم مكان ارتبط به الشاعر بالكثير من الوشائج المتينة، إلى درجة الالتحام به، والتعبير من خلاله عن إحساسه الشديد بآلام وعذابات الإنسان الفقير في الريف المصري، كنموذج لنفس الإنسان بالوطن العربي، وإدانته لتلك الظروف القاهرة والقاسية التي تهدد، دوماً، ذلك الإنسان بالجوع، داعياً إلى تغيير وتخطي تلك الأوضاع المأساوية، حالماً بعالم يسوده العدل بين الجميع. ألم يضع شاعرنا ديوانا كاملاً عن هذه الثيمة، يحمل عنواناً دالاً على ذلك (الجوع والقمر). وإذا كانت «رملة الأنجب» مكاناً يمتاز بالألفة والحميمية، برغم كل معاناته، فإن (سجن لاظوغلي) حيث «مستحدث التعذيب بالكيمياء» و»أنهر الدم» و»الجلاد»، يُعد مكاناً مرفوضاً وكريها يستحق الإدانة، هو الذي شغل حيزاً كبيراً في ديوان (احتفاليات المومياء المتوحشة)، وهو نفس المكان الذي قضى الشاعر بضعة أشهر داخل إحدى زنازنه، حيث تعرض لأنواع شتى من التعذيب. والديوان السالف الذكر بقدر ما كان تجربة ذات خصوصية في القصيدة العربية المعاصرة، لا أعرف مثيلا لها، فقد كان، في نفس الآن، جوابا إبداعياً بالغ الحساسية، عن سؤال طفلة الشاعر الصغيرة «رحمة» التي لم تكف عن سؤال والدها حول ذلك الأثر الدامي على عظام أنفه بعد خروجه من السجن. وإذا كنا، في فقرة سابقة، قد أشرنا إلى أمكنة مثل (غرناطة ? إسبانيا ? هارلم)، وما حملته من أبعاد رمزية في بعض قصائده. فإنَّ الشاعر قد التجأ إلى استحضار أمكنة أخرى، بعضها يمتاز بامتداده التاريخي العربي والإسلامي، للتعبير، من خلالها، عن مواقفه ورؤاه، وتعاطفه الإنساني البليغ إزاء الفواجع والانكسارات والمآسي التي تعرضت لها تلك الأمكنة وناسها. نعتقد أن وقفتنا هذه مع شاعرنا الفذ محمد عفيفي مطر ستكون ناقصة إذا نحن لم نُشر، ولو باختصار شديد، إلى بعض الخصائص الرئيسية الأخرى التي حفلت بها منجزاته الإبداعية، والتي سنختصرها كالآتي: أولا: إن المتفحص لطرائق تشكل متونه الشعرية سيلاحظ أنها، ومنذ البدايات، قد ابتعدت، في معظمها، عن التقريرية والمباشرة، وعن رتابة وهيمنة الصوت الواحد ذي الإيقاع المفرد، متخذة لنفسها منحى درامياً، وذلك بإغناء جوهرها الغنائي بالعديد من العناصر الدرامية التي لازمت الكثير منها، حيث شكل الأسلوب الحواري أحد التقنيات الأساسية في بناء بعضها، والذي جاءت بعض أطرافه إما بين شخوص أو بين عناصر من الطبيعة، كما اختار الحوار الداخلي «المونولوغ» لبعض مقاطع قصائده ذات الأصوات المتعددة. وتنوعت الأصوات وتزاحمت لارتباطها بتعدد المواقف والدلالات في قصائد أخرى. إضافة إلى توظيفه للجوقة قصد التعقيب على الأحداث والأفكار، وإفادته من عناصر سردية وقصصية، واستحضاره للعديد من الشخصيات للتقنع بها، واستثماره للعبة الضمائر حيث نلاحظ، في العديد من نصوصه، تلك المراوحة والتداخل بينها، والتي قد تكون تجسيدات لأزمنة متعددة، أو توزيعاً لضمير «أنا» الشخصية الموظفة في القصيدة، الشيء الذي يذكرنا بوسيلة بلاغية معروفة هي «الالتفات». لقد استطاع شاعرنا بوعي واقتدار فنيين عاليين الإفادة من شتى العناصر والمعطيات التي تنتمي إلى فضاءات أجناسية عدة، مما حقق لمتونه الشعرية أكثر من قيمة فنية وموضوعية، هي التي امتلأت بالحرارة والدرامية، وبالتشعب في الرؤى، وبالأصوات في تصارعها وتجادلها، وبعالم فكري انطوى على مواقف وهموم ومعاناة جمة. ثانيا: إن متلقي هذه المتون الشعرية يمكن، كذلك، أن يستخلص أنها بقدر ما توحي بامتلاكها الشديد لتجربة إيقاعية نابعة من ثقافة عميقة متشبعة بالثراء الموسيقي للموروث الشعري العربي القديم، فهي قد تميزت، بحكم ملامح الجدة التي تطفح بها، بتجريبها لأشكال وأنماط موسيقية جديدة، الشيء الذي يجعل منها حقلا لكل دراسة إيقاعية، لأنها تلخص تجربة عامة في التشكيل الإيقاعي لأهم التجارب الشعرية العربية المعاصرة، وبشكل خاص عند جيلي الرواد والستينيات. ولستُ أغالي في ذلك ما دامت أغلب الإجراءات البنائية لموسيقى الشعر تختزلها تلك المتون. ولكون شاعرنا من أهم الشعراء المعاصرين تمكناً من الموسيقى وأغناهم بالإيقاعات، فإنه لم يترك إمكانية إيقاعية أو عروضية إلا وجربها، فجاء منجزه الشعري بالغ الثراء والتنوع. وقد تجلى بعض مما ألمحنا إليه، في كتابته لقصيدة التفعيلة ذات النمط البسيط (البحور الصافية) بكل أوزانها لكونها من أكثر الأنماط الإيقاعية شيوعاً عند شعراء التفعيلة، إلى تجريبه، باقتدار واضح، للقصيدة ذات الأوزان المركبة (النمط المركب) التي جاءت عنده بالصيغة التفعيلية الحرة، أو على سمت البنية العروضية التقليدية بكل جزئياتها، وهذه الأخيرة حضرت في بعض متونه بشكل واضح، وبآخر مراوغ على المستوى الطباعي، وهناك التداخل العروضي بين البحور في القصيدة الواحدة. أما القافية بأنماطها المختلفة، فقد حرص الشاعر عليها وشكلت عنصراً بارزاً من عناصر التشكيل الموسيقي لديه. إضافة إلى تجربته مع تقنية التدوير كعنصر إيقاعي من أبرز ما تميزت به متونه الشعرية، حيث اتخذ عدة أشكال، من تدوير جزئي يتم عبر جملة شعرية أو مقطع معين من القصيدة، إلى تدوير كلي ينساب بمرونة في مقاطع القصيدة كلها، الشيء الذي لا يجب معه البتّة اقتطاع هذا الأسلوب عن دوره الوظيفي المرتبط بالمحتوى الفكري والعاطفي للشاعر. أما التكرار، فإلى جانب وظيفته في توليد المعنى وتماسك النص الشعري، فقد تمّ الاعتماد عليه اعتماداً كبيراً في تحقيق الإيقاع الضروري لبناء لغة القصيدة/ القصائد، وقد كرس الشاعر، لهذا الغرض، مجموعة من الأنماط التكرارية بمستوياتها المختلفة. وهناك لا يغيب عن بالنا، توظيفه للعديد من الأنظمة الإيقاعية المبتدعة، والتي كان لها بالغ الأثر في تشكيل متونه إيقاعياً ومنحها الكثير من التميز, ثالثا: تحقيق الشاعر لمفهوم وحدة الديوان، وليس المجموعة الشعرية، ذلك أنه عمد، حتماً، إلى الاختيار الواعي والمدروس لقصائده قبل أن يضم كل مجموعة منها في ديوان خاص. بحيث يقترن كل ديوان لديه بتجربة فريدة ذات خصوصية، وبسياق زمن معين، ويتميز على مستوى الرؤى وزوايا النظر وطرائق الأداء، حتى بات كل ديوان يسعى، بقسماته وملامحه الخاصة، إلى تأكيد اختلافه عن سابقه. وهذا لا يعني، طبعاً، الفصل الحاد أو الانقطاع الكلي بين دواوينه جميعها التي هي، في الأخير، محصلة تجربة شعرية متميزة بعوالمها الإبداعية البالغة السمو والثراء والخصوصية ومقَاماتها المدهشة.