يوم الجمعة الماضي، حلت الذكرى الأربعينية لوفاة المناضل الاتحادي الكبير محمد صبري. وبهذه المناسبة، نظم إخوانه في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بجهة الدارالبيضاء الكبرى، رفقة عائلته وأصدقائه، حفلا تأبينيا بالمركب الثقافي سيدي بليوط استرجع من خلاله المتدخلون خصاله النضالية ومناقبه الأخلاقية وثباته في المحن. وقد أجمعت كل الشهادات على خصال ونبل الرجل الذي لم يتغير بالرغم من المحن والمعاناة التي عاشها، ورغم أن ضريبة النضال التي أداها بصبر وثبات كانت باهظة. حضر هذا الحفل، الذي قدمه رفيق الفقيد محمد شوقي، وفد مهم من أعضاء المكتب السياسي وأعضاء اللجنة الادارية والمناضلون وممثلو الاحزاب السياسية والنقابات والجمعيات، وتضمن عرض شريط عن مسار الفقيد الحافل بالنضال . قال الحبيب المالكي، رئيس اللجنة الادارية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية: « مضت أربعون يوما عن فقدان المناضل محمد صبري. إنها لحظة مؤثرة ولحظة وفاء لمناضل جعل حياته نموذجا في السلوك والعطاء والتضحية السياسية والنقابية والجمعوية. وقد جسد المرحوم صبري المدرسة الاتحادية النبيلة في الأخلاق والقيم وفي الحلم الكبير والتغيير البنيوي. هكذا عاش وهكذا غادرنا.. مفتونا بحب الوطن وبالدفاع عن الحقوق العادلة، ومقتنعا بقدسية النضال الديمقراطي». وأضاف المتحدث في كلمته التي ألقاها باسم المكتب السياسي: « لقد ساهم المناضل محمد صبري في تأسيس النقابة الوطنية للتعليم مساهمة جريئة، وكان همه الأساس هو بناء مجتمع جديد على أسس القيم الكونية «. وعن علاقته بالمرحوم، قال المالكي : « تعرفت على المرحوم في منتصف السبعينات من القرن الماضي، لمست فيه الثبات على الموقف، فهو لا يتزعزع حسب تقلبات المواسم، ولمست فيه الصمود الهادئ أحيانا والغاضب أحيانا أخرى، ما لمست فيه بساطة الكبار والوفاء في الفعل بدون بهرجة، والصدق في الكلمة، والتبصر وبعد النظر بدون أنانية. وبمعنى آخر، فنحن أمام السي محمد صبري الانسان المتزن وشجاع، فهو عندما يتخذ القرار فإنه يفعل ذلك عن قناعة، ويدافع عن رأيه باستماتة. كما أن للسي محمد صبري خطا متينا وواضحا ومرجعيا في كل ما له علاقة بالانسجام الفكري والخلقي، حيث ربط طيلة مساره وأفكاره مع أفعاله، وقناعاته مع مواقفه، وتجلى ذلك في نضالاته المتعددة الأبعاد في أفق بناء مغرب قوي بمؤسساته، قوي بأحزابه الوطنية الديمقراطية، قوي بنقاباته وبمجتمعه المدني». وعدد المالكي مناقب الفقيد وطموحه في الإصلاح والتغيير، وهو طموح غير افتراضي، بل ملموس، حيث كان رحمه الله، في حركيته الدائمة يمارس الإنصات والفعل الميداني خلافا للثقافة السائدة. لقد كان مناضلا يمارس سياسة القرب. وكما نعلم جميعا، فاليوم، صارت السياسة والقرب توأمين أكثر من الأمس». واستعرض المالكي طريقة الراحل في الكلام وحركات يديه وقال: «أنا أتذكر حركات عينيه، نبرات صوته، قسمات وجهه. فكلها عناصر تجعلك تتذكره دائما وتستحضره دائما. وقد ظل السي محمد صبري «متعدد الحضور»، حيث ساهم في تحرير وصياغة وثائق حزبية نقابية، خاصة ما يتعلق بقضايا التنظيم والتعليم والطبقة العاملة وضحى بكل وقته في تأطير اللقاءات والتجمعات والتظاهرات وفي التحضير للمؤتمرات الحزبية إقليميا ووطنيا «. وأضاف المالكي: «كان محمد صبري نموذجا متميزا في تبليغ أفكاره، ومناضلا يفرض الاحترام داخل حزبه وإزاء خصومه. لم تستهوه الماديات ولا المناصب بالقدر الذي كان يشعر بنوع من النشوة كلما نجح لقاء حزبي أو تجمع جماهيري حضره جمهور غفير من المواطنين والمواطنات في إطار ذلك الصراع الوجودي الذي عشناه جميعا طيلة العقود الماضية. وموازاة مع هذا الوجود واصل الفقيد مساره النضالي على المستوى البرلماني كممثل للمأجورين وساهم بقوة في بلورة الشروط الضرورية لتمكين المغرب من اعتماد الخيار الديمقراطي كنظام للتداول، وكان خير مدافع عن الفئات الاجتماعية الهشة من عمال وصناع وحرفيين وتجار صغار ومتوسطين، تسكن قلبه الكبير مشاعر الالتزام القوي والرغبة في الارتقاء بالمغرب وتطوير تجربته على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية» . وختم الحبيب المالكي كلمته قائلا : « ظل المرحوم دائما مؤمنا بوحدة اليسار وبوحدة قوى المعارضة. فبنفس الروح ظل دائما متشبثا بوحدة حزبه وتماسكه، رافضا كل ملابسات ودوافع الخصام، وكان يدرك تمام الإدراك ان التشتت والبلقنة تكون دائما في نهاية المطاف في خدمة القوى الرجعية والمحافظة . وهو يعي رحمه الله كل الوعي ما تتطلبه الرسالة الاتحادية النضالية من أعباء، وما تفرضه من تضحيات والاخذ الدائم بمنهج الحوار والتجاوز الايجابي في اطار ضوابط حزبنا، هذا ما جعله دائما يؤمن بضرورة التغلب على المصاعب. وفوق كل هذا وذاك، تميز المرحوم بإنسانيته وبعواطفه الرقيقة وبتقديره للناس كل الناس، فكان انسانا يحب الحياة . أحاديثه وخطبه كانت تميل إلى الفكاهة والمرح وروح النكتة اللطيفة» . وقال إنها «لحظة مؤثرة ولكنها متجهة نحو المستقبل إذا استخلصنا الدروس والعبر من المسار الذي صنعه فقيدنا، واذا جعلنا من ذاكرتنا الجماعية مرجعا لضمان استمرارية حزبنا حتى يتبوأ مكانة يستحقها . « ومن جهته، استحضر أحمد وهوب،باسم الكتابة الجهوية لجهة الدارالبيضاء الكبرى، مناقب الفقيد محمد صبري ومساره المهني، فاعلا جمعويا ومؤطرا ومربيا ورجل تعليم من الطراز الرفيع. كما استحضر نضاليته وشهامته والتزامه في المسؤولية الحزبية والنقابية، حيث كان خير مثال لترجمة علاقة السياسي بالنقابي. وقال أحمد وهوب عن الراحل: «هو المتفرد في التزامه بأداء المهام التي يوكل إليه انجازها، وفي انضباطه لتوجيهات الحزب وقراراته بإخلاص وتفان ونكران ذات، وهو المتعدد في مجالات حضوره واشتغاله، انسانيا وجمعويا وسياسيا ونقابيا وإعلاميا في المرحلة الأخيرة من حياته . إنه مناضل اتحادي وأحد أبنائه البررة الذين أسدوا خدمات جليلة لحزبهم ولوطنهم في ظروف حرجة يعرف الجميع قساوتها، وخاصة في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي. ويضيف وهوب: «لقد جايل الفقيد قمما في النضال وفي المسؤولية الحزبية وجايل مناضلين أفذاذا.» وذكر وهوب بالمسار الجمعوي والسياسي والنقابي والانساني للفقيد محمد صبري الحافلة بالعطاء، مختتما كلمته بالقول :» فلتهنأ أخانا صبري في الدار الآخرة، ستبقى سيرتك العطرة نبراسا يهدي طريقنا، وسيظل عملك النبيل، الفريد والمتعدد، موشوما في ذاكرتنا، مقيما في أفئدتنا ومهجنا «. وفي كلمة معبرة تفاعل معها الحاضرون قالت زوجة الفقيد، فاطمة تازوت : « فمن وجع السنين سأتكلم عن نصف قرن. كان الفقيد توأما لروحي وشريكا لواقعي اليومي. لست هنا لأرثيه، ولكن لأستمد منكم القوة في اختصار حزني عليه. هو من علمني كيف ابتسم في وجه الجرح، وعلمني كيف أدفن أحزاني وانتصب، وكيف أصنع جسرا للعبور، وكيف أرى التراب تبرا وكيف أقهر الجوع والخصاص . لقد قال لي : « إن البسمة يا فاطمة تفل صلب الحديد «. وتضيف زوجة الفقيد: «إن مرجعيات السي محمد صبري لم تكن متعددة. هما اثنتان: مرجعية الشهيد المهدي بنبركة ومرجعية الشهيد عمر بنجلون . فأكبرت فيه من خلالهما صبره على الشدائد واحترامه لمن يخالفونه الرأي ووفاؤه لوحدة الصف النضالي وزهده وحبه للعيش البسيط، حتى أمضى حياته بخطى ثابتة، قلبا وضميرا. فلم يحن هامته يوما، ولم يخضع لجاه لحظة، ولم يركع لقهر أبدا. عاش وفيا لمبادئه ورحل وفيا لها . وتضيف فاطمة تازوت أنها قضت مع فقيد الاتحاديين «نصف قرن لعلاقة طيبة، وفي مسكن متواضع بنفس عمر هذه العلاقة، هذا البيت الذي كان عرضة للتفتيش والنسف وإضرام النار. وكما تقدم السن بي وبالفقيد كذلك شاخ الفعل السياسي وبهت الفعل النقابي في البلد برمته ، وبدأت التشوهات تطفو من حولنا، حيث غادرنا الكثير من الشرفاء منهم من أراحته يد المنون ومنهم من لملم جراحه وتوارى في صمت» . «غادر الفقيد الدارالبيضاء، تقول زوجته، ليشد الرحال إلى قرية صغيرة بالاطلس المتوسط، بحثا عن جرعة ماء صاف ولمسة هواء نقي، سرعان ما تحول إلى عشق لتربتها وأهلها البسطاء، يتلمس صدق المعاناة الحقيقية لأهلنا في البوادي . كان مسكنه ملجأ للموجوعين والمهزومين والمظلومين حتى صارت القرية الصغيرة نحو الأمل في هزم الخوف في النفوس والمطالبة بالحقوق» . وختمت زوجة الفقيد محمد صبري: «أحبه الناس وأحبهم، حتى الصغار منهم كانوا ينتظرون عودته يوم السوق الأسبوعي عبر الشعب والمنحدرات في انتظار قطع الحلوى. كان يزرع ويحلم بموسم خصب. سيفتقده الحاج الطاعن في السن وسيحن لقهوته وسوف لن يجد بعده من يطالبه بسرد بطولات التحرير التي عاشها. ويوم بلغ النبأ الفجيعة أحد سكان الدوار، انطلق أولائك الصغار من كل صوب كالفطر يقرعون أبواب بيوت الطين يتصايحون بعيون دامعة ويرددون « إموت بو حلاوة» أي « مات أبو الحلاوة» . رحل الفقيد وفي حلقه غصة عن رفاق دربه. كان يردد أسماءهم رغم التلف الذي أصاب خلايا ذاكرته الموجوعة. وكلما ابتعد عنا خطوة صوب العالم الآخر كلما خفت الصوت، كان يود أن يقول لهم كلمته الاخيرة ، أمهله الموت أياما وأياما ولكنه رحل ومعه رحلت الكلمة» . من جهته عبر صديقه الوفي محمد عبد الرحمان برادة عن ألمه لفقدان صديق يتذكر استقامته وابتسامته وتوقد نور عينيه، وقال بحزن كبير: «سأذهب لآخر مرة إلى غابة المعمورة لأخبر الاشجار والطيور والوديان بأنك لن تعود». واسترجع محمد برادة بدايات تعرفه على الفقيد محمد صبري، حيث كان ذلك في بداية الاستقلال، وفي عز نشوة التحرير وغمرة الانتصار والمظاهرات وعيد العرش والأحلام والآمال وعنفوان شباب واكب مراحل من التضحية والجهاد» . واستطرد: «كانت أناشيد الخلود والرموز والأفراح، وكانت غابة المعمورة حيث الأوراش والخيام وطلائع الكشافة والممثلون وفتيات الانبعاث وأطر من قادة وأبطال يدربون ويشرحون حب الوطن . هناك تحت أشجار الفلين تعرفت على الفقيد السي محمد صبري قبل خمسة عقود فقط. أدينا قسم المحبة والوفاء وتعاهدنا على استمرار التواصل رغم المسافات. كان يستقبلني بالأحضان في الدارالبيضاء، فتقوت علاقتي به وازدادت متانة بانسجام المبادئ والاختيارات ووحدة المصير وملتقى الآفاق» . «وحدهم الذين عاشروا السي محمد صبري مثلي، يحكي محمد برادة، يقدرون في الرجل النبل والوفاء والإخلاص والالتزام بقضايا الوطن والمواطنين بمنتهى التطوع والتواضع والزهد والتعفف. وكان نعم الموجه والمربي والحكيم والمبدع، ومثالا للكفاءة والجدية والعطاء، فنال ثقة وتعاطف كل الأطر والعمال، مما مكنه من أداء كل المهام بتفوق ونجاح وامتياز. إنه مثال المناضل الشريف». وقال محمد برادة في ختام كلمته: « كان بصدق مبهرا في تدخلاته مقنعا في تحليلاته ومدافعا عن المغرب ومقدساته. يواجه أساليب الاستفزاز والتضليل بالحجج والمنهجية الحضارية وبهدوء المناضل المتشبع بحب الوطن والمتمكن من قناعة الغيرة والتضحية في سبيل الوطن . لقد أدى السي محمد صبري الأمانة على أكمل وجه وظل دائما وفيا ومخلصا وشامخا مثل قمة ذلك الأطلس الذي اختاره للابتعاد عن صخب المدن وتلوثها مواصلا خدمة المواطنين في إطار جمعوي تطوعي هادف». أما كلمة عبد الكبير لبزاوي، الذي عاش الى جانب الفقيد في النقابة، فقد ذهبت إلى أنه ليس بالإمكان «اختزال نضال الفقيد وزخم عطائه النقابي في كلمات». وقال: «من منا يفصل بين السي محمد صبري والنقابة الوطنية للتعليم. فقد كان يجسدها وتجسده ويعتبر زمنه زمن النقابة وتاريخه تاريخ النقابة، ويتمثل ذلك في انشغاله الدائم بتلك التعبئة المستمرة والشاملة للشغيلة التعليمية من أجل مدرسة وطنية رائدة ووحدة فئات اسرة التعليم بفئاتها المختلفة» . وتابع البزاوي قائلا: «كان المناضل صبري من بين القلة القلائل التي لا يمكنك أن تفصل بينها وبين النقابة ومقرها حيث كان متواجدا ومرابطا في المقر. يرقن بإصبع واحدة. يكتب المراسلات ويطبع المناشير والنداءات والبلاغات والتوجيهات ويكاتب الفروع (102 فرع) ويشرف على الترقيات (حوالي 60 ألف) ويوزع الانخراطات (46 ألف منخرط). وبالإضافة الى هذا العمل الإداري المرهق، كان ينزل إلى الأقاليم لتأطير التجمعات وتعبئة أسرة التعليم . عاش في النقابة أكثر من منزله، وكانت النقابة تفوز بكل اللجن الثنائية وتحتل الصف الأول نضاليا، وكانت النتيجة ترعب وزير الداخلية آنذاك ويسأل عن المكان الذي تشتغل فيه النقابة ويرد «ريدو واحد غلبكم». ولم يكن للنقابة الوطنية للتعليم أن تنتصر، يقول لبزاوي، لولا خصال هذا الشهم النبيل السي محمد صبري. عمل في وحدة وانسجام وتضحية وعطاء وصبر وحماس وشجاعة ونكران ذات. فما احوجنا في هذا الزمن لهذه المناقب والقيم وما أروع التاريخ، زمن صبري.. وقال البزاوي: «كان المرحوم من مؤسسي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كما كان مؤطرا للتجمعات ومعبأ للعمال ومهيئا لاحتفالات فاتح ماي. كان يحمل الفكرة والقضية». وفي النهاية ختم طارق صبري (نجل الراحل) هذا اللقاء، بكلمة شكر فيها الجميع، وأدلى بشهادة في حق والده حيث قال: «هو الحاضر الثابت النظيف المعلم، منذ صغري كان لدي إحساس بأن أبي لديه وزنا مهما ، حيث كان بيتنا دائما ممتلئا. كان هناك نقاش مستمر وكان الداخل أكثر من الخارج، وبالخصوص في السبعينيات والثمانينيات» . ويتذكر طارق كلمات بقيت راسخة في ذهنه وهو طفل: التقرير الايديولوجي، الحزب، النقابة، النضال، الكفاح، حرية التعبي، إقطاع، الطبقة العاملة، الشعب، غرامشي، التقدم، التطور، المهدي بن بركة، عمر بنجلون». «لقد كان والدي، يقول طارق، مدرسة ومثقف على الطريقة والفلسفة الغرامشية، وكان حداثيايعمل ويتحرك بدون تعب وبدون نوم. . كان والدي ورفاقه في درب النضال يؤسسون لحداثة عملية وأخلاقية مرتبطة بالشعب.. الشعب المقهور كما كان يردد باستمرار . وداعا أبي لقد حملتك معي في ذاكرتي».