العاصفة الفارغة لخفّتها، تركض مسرعة وراء شيء لم يعد أمامها لقد سبقته بأميال وما زالت تعدو في أثره.. *** أريد أن أُقرّ. أكتب الآن قصائد، أنا في حيره من أمرها. اليوم علمت بوفاة سميح القاسم الذي سبق لي أن قابلته في أكثر من مناسبة. هل يكون عقوقاً مني أن أتذكر فوراً محمود درويش؛ أن أجدد حزني عليه. ذلك الحزن الذي لم أظن أنني أملكه. لقد تحول درويش إلى ما يشبه شخصية عامة، لذا كان صعبا أن نعرف الشعور الخاص الذي نملكه حياله؛ الشعور الخاص الذي خلفه فينا. *** أصرخ. لا أسمع صوتي. هل كانت صرختي جوفاء؟ *** رحيل الصديق عبارة عن موت صغير لك، أما رحيل غير الصديق فهو أمر مربك، لأن الموت الذي محا الخصومة لا يترك مكانها سوى ذلك الشعور الملتبس الأشبه بالذنب؛ لا يترك سوى تلك الوحشة الجرداء، التي يصفر فيها الموت؛ وسوى ندم، غير مفهوم وتقريباً، على لا شيء. *** أشكر الذين توقفوا عند يوم ميلادي، أنا أيضاً، وبفضلهم، توقفت اضطراراً. إنه لقاء نبدو فيه جُزَيْئاً صغيراً بالقياس إلى الزمن، لكننا مع ذلك لا نستطيع الفرار من مواعيده. إنها دقيقة الحضور أو على الأقل هي ذكرى مسبقة للحضور. قد تكون قابلية الانخداع لدى المثقفين أكبر من سواهم. لكل منهم هفوته التي لا نعرف متى تقع. الراديكالية التي لا يخلو منها المثقفون قد تتحول في لحظة إلى عمى أو، بكلمة أخف، إلى سذاجة. *** التقيت لتوي زائراً فرنسياً. دار بيننا حديث متشعب تناول كل شيء مقروء، كنا معا نستحضر ما كنا قرأناه: أسماء من هيراقليطس حتى بيار جان جوف، كانت تمر خاطفة أو متمهلة في أحاديثنا. اكتشفنا نحن الاثنين، اللذين نلتقي تقريباً للمرة الأولى أننا نملك ماضياً مشتركاً. شيء آخر؛ كانت القراءة حياة كاملة، بل هي الآن، نسبياً، حياتناً. *** هذا صباح صعب. سيزول بطريقة أو بأخرى، ليس الزوال دائماً كريهاً. *** كم سنة مرت على رحيل بسام حجار. أنسى عدد الأعوام مع أنني منذ تلك السنة لم أفعل سوى أن أراكم فوقها. لقد فقدت هناك جزءاً مني. على طريق الحياة، من الصعب أن نجمع أجزاءنا. *** اليوم أنا غاضب. ربما لأني أخطأت من حيث لا أحتسب. إنها أخطاء إجبارية لم يكن أمامي إلا القيام بها. لم يكن ممكنا تجنبها. لا أعرف عواقبها، وليس الاعتذار عنها ممكنا. خطأي الأول أنني حدّثت أحدهم عن أخطائه. ليس بالإمكان التراجع عن شيء كهذا. لا يمكن مسح الألم الذي سببته. ألمي لذلك لا يكفي. *** البعض يوازن بين عددين من القتلى ليتخذوا موقفاً. الموت لم يعد يعني شيئاً. إنه ليس أكثر من كادح في خدمتنا. بالأحرى لم تعد الحياة تساوي أكثر من رأي. التعصب جعلنا كذلك. *** غادر أنسي الحاج. ينبغي أن نعيد قراءته. أحسبه لم يُقرأ بما يكفي. كان نصه دائما موصوما بالاستغلاق. مَنْ يقرأ »ماضي الأيام الآتية« لن يجد نص أنسي مستغلقاً. سيجده، على العكس، قريباً وعارياً ومباشراً. إنه يكاد يكون نصاً برياً؛ عودة إلى نوع من براءة اللغة. *** »الآخرون هم الجحيم« حقاً، كما قال سارتر. ينبغي أن نكون مفرطين في الجدية لنقول ذلك. ألا نحتاج إليهم لتسليتنا على الأقل. لماذا علينا أن نحملهم كقضية أو كعبء. يكفي أننا معهم لا نخاف ليلاً. *** كتبت أخيراً قصائد. لا أعرف فعلاً إذا كانت تستحق. توقفت من ثلاث سنوات و أكثر. كنت من قبل في غمرة عمل تراكمي، كان تقطُّعَه جزءا من تراكمه. الآن لا أعرف من أين أبدأ. لا أعرف إذا كانت هذه فرصة؛ فرصة أن نبدأ، نبدأ حقاً، بدون أن نحمل على ظهرنا ماضياً، أي ماضٍ كان، أم أن ذلك نوع من السقوط؛ السقوط في متاهة لا نعرف فيها أين نحن، فلا نستطيع أن نتحرك أو نبدأ من أي مكان. مع ذلك أنا سعيد بعودتي، رغم أني لم أكن تعيساً بتركي للشعر. في النهايه الكتابة مشروع يائس، فأنْ نقول أنفسنا والغير في وقت واحد أمر قد لا يعني الغير أو قد لا يكون مهتماً به. ثم إن الطموح إلى صنع شيء يعمِّر أكثر منا أمراً ليس واقعياً. * عباس بيضون شاعر وصحفي لبناني، ذو نكهة شعرية تميزه عن مجايليه من الشعراء. يكتب القصيدة النثرية بتمكن جسور، بصنعة بالغة الدقة إنما يحسن إخفاءها في تلافيف النص، فيبدو عفوياً في التأمل، يرصّ الحكمة على أختها ليكوّم جبلاً ويتفيأ ظلاله... مكثفاً، رائقاً، فلسفياً جداً، يبدو الشاعر عباس بيضون في معظم ما كتب، لكنه في أحايين قليلة يغادر تخوم الفلسفة ليتجول في حقول العاطفة، يقطف بعض ثمارها، ويوزعها في قصائد إفصاحية، استبطانية، ذات نكهة ضبابية تشبه أحلام الغيب، حتى وإن بدا لوهلة، أنها موغلة في المألوفية والعادية.. ذلك أنها تحمل من الدلالات الخفية، ما يجعلها قابلة للتأويل المشاكس.. يطول حبل الكلام على صاحب »صُور« و»الوقتُ بجرعات كبيرة« و«الموت يأخذ مقاساتنا« الذي حاز »جائزة المتوسّط« عن فئة الشعر. وربما تفلح هذه المختارات في اختصار مدار القول.