لابد أن يتذكر المرء بمناسبة الحديث عن الخطايا القضائية المقترفة بأحكام نهائية أو باعتقال مؤقت قبل صدور أي حكم الكلمة الرائعة للكاتب الفرنسي روبير راسيلاش: "العدالة هي ستة آلاف سنة من الخطايا القضائية". وأنا أسميها الخطيئة القضائية، لأن لفظ الخطيئة أبلغ من الخطأ في التعبير عن خطورة الانحراف عن الحقيقة في العمل القضائي حينما يصبح حكم المحكمة النهائي سندا لإزهاق أرواح الأبرياء بالرصاص أو الشنق أو الخنق أو الرمي بهم مددا طويلة في السجن قبل أن يقضي الله سبحانه بإظهار براءتهم و خطأ الحكم الذي صدر عليهم. وهي خطيئة أيضا حينما يقع إهدار قرينة البراءة لفائدة الأمن القانوني والاجتماعي ويوضع المتهم رهن الاعتقال المؤقت ويبقى مددا متفاوتة قد تصل إلى أعوام قبل أن يصدر حكم ببراءته أو أمر بعدم متابعته أو يطلق سراحه بمناسبة ظهور أدلة دامغة لا تبرر استمرار الاعتقال. ومن المؤسف حقا أن المغرب ورث من فرنسا بعد أن حصل على الاستقلال الفصول 566 وما يليه من قانون المسطرة الجنائية الخاصة بمعالجة خطايا القضاء، ثم بقي جامدا عند هذه المقتضيات دون أن يواكب ما وقع في فرنسا أو بلدان أخرى من تطور على طريق تغيير النص وترشيده حتى يكون متلائما مع المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان وعلى رأسها حق المعتقل أو المحكوم عليه في التعويض عن الضرر. وحتى يظهر للقارئ مدى جمود المقتضيات القانونية في التشريع المغربي وعدم تلاؤمها لا مع المواثيق المذكورة ولا مع توجهات الدستور الجديد ومحدودية التعديلات المقترحة، فإنني سأتطرق -في هذه العجالة- إلى مسألتين تاركا لغيري مسائل أخرى جديرة بالتأمل والمناقشة: الأولى: في غياب مسطرة التعويض عن الاعتقال الاحتياطي بالتعديل: هذا الاعتقال الذي غير الفرنسيون وصفه ووصفوه بالمؤقت بدلا من الاحتياطي في قانون 17/7/70 أقل ما يقال عنه إنه شر لابد منه. شر باعتباره عدوانا على قرينة البراءة، وعقوبة قبل صدور الحكم النهائي في القضية من خلال محاكمة تتوفر فيها جميع ضمانات حماية الحقيقة، وجرح نازف في حنايا البريء الذي يرى نفسه وراء القضبان وهو العليم بأنه لم يقترف جرما ولا إثما. ولابد منه لأن الاعتقال المؤقت تتحقق به ومعه حماية المعتقل أحيانا من الغير أو حماية الغير منه وتأمين المحافظة على الأدلة وعدم التأثير المعاكس للبحث عن الحقيقة و جسيد مبادرة السلطة العامة الفوري إلى التصدي للجريمة والعدوان سيما في حالة التلبس. غير أنه إذا كان هذا الإجراء الاستثنائي شرا لابد منه، فإن فرنسا في سنة 1970 بمقتضى القانون 643-70 بتاريخ 17 يوليوز 170 شرعت التعويض عنه وفتحت لضحيته الباب من أجل الحصول على تعويض عندما يصدر أمر بعدم المتابعة أو حكم بالبراءة أو يطلق سراحه بمناسبة أدلة دامغة قاطعة لكل جدل. ولم تقف فرنسا عند هذا الحد، بل إن القانون -حسب التعديل الطارئ في 30 دجنبر 1996 حسب القانون 1235-96- لم يعد يستلزم أن يكون الخطأ في الاعتقال الاحتياطي ظاهرا الغرابة ومتسما بقدر متميز من الخطورة وأصبح أي خطأ ولو لم يكن بهذا الوصف مبررا للتعويض. وقد آلت الأمور في سنة 2000 حسب القوانين 516-200 بتاريخ 15 جوان و1354-2000 إلى تعديل عظيم فتح الباب أمام المتضرر من الاعتقال الاحتياطي ليحصل على تعويض كامل عن الأضرار المعنوية والمادية الناتجة عنه كلما صدر في حقه حكم بالبراءة أو عدم المتابعة أو أطلق سراحه. والمثير للانتباه وفي نفس الوقت للإكبار هو أن الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التي وقع داخل مجال اختصاصها الاعتقال المسبب لضرر أصبح هو المختص حسب هذا القانون بالحكم في التعويض حكما معللا يكون قابلا للطعن أمام اللجنة الوطنية للتعويض عن الاعتقالات القائمة لدى محكمة النقض. أما بلدنا الحبيب، فإنه لم يلتفت لصرخات ضحايا الاعتقال التعسفي وآلاف وملايين مرافعات دفاعهم إلا بعد أكثر من واحد وأربعين سنة على تشريع التعويض عن الاعتقال التعسفي في فرنسا؛ وذلك حين أشرق في الدستور الجديد ومض عبارة عامة في الفصل 122 تنص على حق من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة. هذا المقتضى الدستوري حسم في مسألة مسؤولية الدولة والتي كانت مثار جدل بين من يجعلونها مسِؤولية عن الخطأ وبين من يعتبرونها مسؤولية بدون خطأ في إطار نظرية تحمل المخاطر وتقاسم الأعباء العامة أو مسؤولية نابعة مباشرة من القانون. غير أن التعديل الذي طرأ على التنظيم القضائي وعلى المسطرة الجنائية بفرنسا لم يجد له أي نظير في المشروع تعديل المسطرة الجنائية والتنظيم القضائي بالمغرب سواء في إطار إنزال الدستور أو التلاؤم مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي أقر الدستور له بسموها عن القوانين المحلية. وهذا أمر مؤسف، لأن الانتقال الديمقراطي في دولة الحق والقانون لا يمكن أن يتحقق دون الاعتماد على ربط المسؤولية بالمحاسبة وأقل ما في هذه المحاسبة تعويض المتضرر عن الاعتقال الاحتياطي حتى ولو تم -على الأقل- اشتراط أن يكون الخطأ فيه ظاهر الغرابة جسيما ومتميز الخطورة. ثانيا: في نقص التعديل المتعلق بمراجعة الأحكام القضائية النهائية: قد لا يكون من المفيد التذكير بأن النظام القضائي يرتكز على افتراض الخطأ القضائي؛ ولذلك شرعت الطعون العادية والاستثنائية في الأحكام. أما المراجعة، فإنها ترتكز على استحالة تجنب الخطأ القضائي حتى مع استعمال جميع طرق الطعن العادية وغير العادية. وهذه الاستحالة أصبحت حقيقة لا جدل منها؛ وذلك بناء على تكرر انكشاف الخطايا القضائية منذ قضية جون كالا الذي عذب وخنق ثم أحرق بساحة سان جورج بتولوز في العاشر من مارس 1762، إلى قضية درايفوس في مطلع القرن العشرين، إلى قضية دوترو في 2001 وقضية عمر الرداد قبل ذلك في التسعينات من القرن الماضي. هذه القضايا بفرنسا وغيرها هي التي جعلت المشرع الفرنسي يفتح الباب أمام ضحية الخطأ القضائي قصد مراجعة القضاء إن ظهر عنصر جديد من شأنه أن يثبت براءته أو قدمت مستندات كانت مجهولة خلال المناقشات من شأنها أن تثبت براءة الضحية. وكان أول تعديل من طرف فرنسا للفصل 622 من قانون المسطرة الجنائية الذي يعادل الفصل 566 من المسطرة الجنائية المغربية الذي ورثناه منها هو الترخيص للضحية بأن يمارس المراجعة بناء على السبب المذكور بعد أن كان الأمر مقصورا كما بقي عليه الأمر بالمغرب على وزير العدل. والجدير بالذكر أن تعديل المشرع الفرنسي للنص الذي كان معمولا به منذ سنة 1945 لم ينحصر فقط على فتح الباب أمام المحكوم عليه ليقوم بالمراجعة بناء على السبب المذكور ولكنه غير أيضا في السبب تغييرا جوهريا يعزز الضمانات الممنوحة لضحية الخطيئة القضائية. وهكذا، فإنه -و كما هي حالة النص المغربي لحد الآن- كان السبب الرابع هو طروء واقعة بعد صدور الحكم أو الكشف عنها أو إذا تم تقديم مستندات كانت مجهولة أثناء المناقشات "ومن شأنها أن تثبت براءة المحكوم عليه". هذه العبارة الأخيرة كانت تقف حاجزا أمام ضحية الخطأ القضائي ولا تتلاءم مع روح القوانين وتفسير الشك لصالح المتهم؛ ولذلك تم استبدالها من طرف المشرع الفرنسي بعبارة :"من شأنها أن تخلق الشك في الإدانة". وانصب تعديل المشرع المذكور أيضا على المسطرة في خصوص عرض الطلب على لجنة مختصة مؤلفة من قضاة مستشارين بمحكمة النقض بدلا من وزير العدل من أجل تفحص الطلب ودراسته قبل عرضه على الغرفة الجنائية بنفس المحكمة. هذا مع العلم أن قانون توري الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية في هذه السنة ارتفع بالنص إلى مستوى آخر حين دقق العبارة وجعلها: -من شأنها أن تخلق أقل شك- وذلك حتى يقطع الطريق على من يستعمل السلطة التقديرية في تضييق أنواع الشكوك واستبعاد ما كان قليلا منها. كما وأنه أنشأ محكمة للمراجعة وإعادة الاختبار علاقة بأحكام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان تتكون من ثمانية عشر قاضيا من قضاة محكمة النقض يترأسها رئيس غرفة النقض وباقي القضاة ينتخبون من طرف الجمعية العمومية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. وآخر ما يمكن التذكير به في هذه العجالة مما لم يجد له صدى لدى من أعد مشروع تعديل المسطرة الجنائية المغربية هو أن الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التي وقع في دائرة اختصاصها الخطأ القضائي هو المختص للبت في التعويض الكامل للضرر الذي تتحمله الدولة؛ وذلك في إطار محاكمة حضورية عمومية يصدر بعدها حكما معللا قابلا للطعن أمام محكمة النقض. وفي مقابل هذه التعديلات الجوهرية والكبيرة الني وقعت في فرنسا، فإن مشروع التعديل عندنا وقف عند حدود فتح الباب للمحكوم عليه ليمارس مسطرة المراجعة بناء على السبب الرابع بعد أن كان الأمر حكرا على وزير العدل طبقا للفقرة الرابعة من الفصل 567 من المسطرة الجنائية، وهو ما عدله المشرع الفرنسي في سنة 89 كما سبق القول. كما وأن مشروع التعديل أضاف إلى ذلك إسناد أمر النظر في المراجعة إلى لجنة مراجعة تتكون من ثلاثة مستشارين بإمكانها تعيين مقرر من بينهم وحصر اختصاصها في فحص توفر الصفة في مقدم الطلب وتوفر الشروط والوثائق المدعمة للطلب دون تجاوز ذلك إلى القيام بالبحث والتحقيق كما هو الحال عليه في القانون الفرنسي. وبقدر ما عمد التعديل إلى رفع الحجر عن المسطرة الذي كان مخولا لأحد أطراف الدعوى العمومية، فإنه ضيق على ضحية الخطأ القضائي حين ألزمه بأداء وديعة لا تقل عن خمسة آلاف درهم لا تندرج طبقا للمفهوم القانوني ضمن ما يمكن الإعفاء منه في إطار قانون المساعدة القضائية (الوديعة ليست رسما قضائيا). ومن المعلوم أن ضحايا الخطأ القضائي، في المادة الزجرية، غالبا ما يكونون من الفقراء المعدمين الذين زادهم السجن قهرا وحاجة.. فكيف، إذن، يقع إلزامهم بأداء الوديعة المذكورة إن توفر لديهم مبرر المراجعة التي من شأنها الإعلان عن براءتهم واستحقاقهم للتعويض؟ ومن الواضح أن التعديل احتفظ بعبارة النص وهي ضرورة أن يكون العنصر الجديد أو الوثائق المجهولة حسب الفقرة الرابعة من شأنهما إثبات البراءة وليس فقط خلق الشك في سند الإدانة أو أدنى شك كما صنع المشرع الفرنسي في التعديلات التي ادخلها على الفصل 622 من المسطرة الجنائية. كما وأن عدم صراحة النص الحالي للمسطرة وغياب الدقة به في خصوص تحديد الجهات المختصة للحكم بالتعويض كان ذريعة لتعطيل عدة مساطر واختلاف الرأي بين عدة جهات قضائية واكتواء ضحايا الخطأ القضائي بالانتظار القاتل أحيانا سنين.. وكان المؤمل أن يقع التعديل في هذا الجانب حتى تتضح الأمور ويتحقق إسعاف الضحايا في الآجال المعقولة والمناسبة لما خلفته الخطيئة القضائية بهم من أضرار جسيمة، علما بأن غياب ذلك من شأنه أن يطيل عمر الارتباك والاختلاف ويقوي ذرائع حرمان الضحايا من تعويض لا يمكن أن يساوي ما ضاع من عمرهم خلف القضبان لو انحصر الأمر بالسجن لا بما هو أشد. وأخيرا، فإن أي تعديل للوضعية الحقوقية المتعلقة بالمراجعة وجبر أضرار ضحايا الاعتقال الاحتياطي والأحكام النهائية الخاطئة إنما يأتي تعبيرا عن التعديل الذي طرأ على الإنسان سواء على ضفة الحاكمين أو المحكومين فيما يخص منظور إصلاح العدالة. إن هذا الإصلاح إن كان حقا إصلاحا ما هو في جوهره إلا العمل المخلص من أجل الحد من أخطاء العدالة وخطايا القضاء. * محامي بهيئة المحامين بالدار البيضاء