في أضمومته السردية، الصادرة حديثا - بدعم من وزارة الثقافة الأردنية -، سيلفت انتباه قارئ «مرايا الليل» للقاص والناقد الأردني سمير أحمد الشريف الغلاف الأنيق للكتاب، على رغم قتامة لونه وكآبته، وسيلمح تلك اليد الممدودة نحو قاع العتمة.. بحثا عن قطرة ضوء، تبدد الوحشة والصقيع. وقد يصاب بعض القراء بخيبة أمل، بعد قراءة سفر هذا الليل السردي؛ فالعنوان مخادع، ومراياه لا تعكس سوى الغبن والألم والانكسار بدل المسرات السرية، بل إن الكاتب يحرك شخوصه في واضحة النهار، لكنه نهار أشبه بالليل.. فجاءت النصوص عاكسة خيبات لا نهائية لشخوص تنتظر غودو/أملا قد يأتي، وقد لا... يأتي. ولا غرو أن يكتفي سمير الشريف بتشريح أزماتهم، دون أن يتورط - كما كتبة التلفزيون السذّج- في تخيل نهايات سعيدة (فنتازية) تنتشل كائناته الورقية من تعاستهم، وسيندهش القارئ بأن الكاتب الأردني سلط ضوء كشافه على أوضاع إنسانية مزرية، لا ترتبط بحدود جغرافية معينة.. سيتخيل كل قارئ عربي أن سمير الشريف كتب عن مواطنه المغلوب على أمره، وليس عن تعساء الأردن ومعذبيه. إنها معاناة الإنسان العربي التي تتشابه وتتكرر في كل رقعة في هذا الوطن العربي، كما لا ينسى الكاتب جرحنا التاريخي والجغرافي (اللا يندمل): فلسطين المخذولة، التي حضرت في: «نص شنب»، «سطور»، «مناسبة». إن الكتابة تعبير عن «أمنيات أحبطها الواقع، فنكتبها تعويضًا لا شعوريًا عما فاتنا»، هكذا يختم سمير الشريف نصه - وكذلك مجموعته القصصية- «سطور». في هذه القصة القصيرة يكتب القاص الأردني سيرة الغياب الفادح عن الوطن (فلسطين)، والعيش في مخيمات اللاجئين، وسرعان ما يجد السارد نفسه رجلا قبل الأوان.. بعد أن لزم الأب فراش المرض، وكانت القراءة - ثم الكتابة فيما بعد- بديلا عن واقع بائس، مترع بالإخفاقات. لذا جاء أغلب شخوص «مرايا الليل» عاجزين عن الفعل، عاجزين حتى عن الحلم، والتمني... في محكيات «لحظات» يفضح القاص أساليب التزييف والخداع، كأنما ليربط القارئ فيما بعد تلك الممارسات المشبوهة بمعاناة الإنسان المهمش. يكتب عن المسؤول الذي يتحدث بإسهاب عن ضرورة حماية البيئة أمام الكاميرا، ولا ينتبه إلى ضرورة الابتعاد قليلا، ليخرج من الكادر أكوام الأزبال، فتفضحه الصورة، بينما الشرطي الفرح بلقاء المذيعة الشقراء ينسى شارة المرور، ولأن اللقاء إذاعي - يفضحه الصوت هذه المرة- حيث تتعالى أصوات منبهات السيارات لعطل الإشارة. بينما الناخب الذي مد عنقه متشدقا بنزاهة انتخابات المجلس القروي، يمد يده لاستلام قائمة الأصوات، التي جاء بها أتباعه مقابل حفنة من النقود للصوت الواحد. أما الأب الذي يتباهى بالدرجات العليا لابنه في الامتحان، فتريه زوجته ورقة الإملاء التي عجز فيها ابنه عن كتابة اسمه صحيحا. في قصصه القصيرة جدا، يبرع الكاتب في اقتناص المفارقات، كما في نصوص/ومضات «حالات»، ففي مشهد الحرب، حيث أصوات المدافع لا تتوقف، والجثث تتعفن في الشوارع.. عند تناقل وكالات الأنباء خبر جرح مراقب دولي تتدخل كل الأطراف لإنقاذ الجريح !!. أما في العرس فعندما لعلع الرصاص كما الزغاريد في السماء، تساءل أحد الواقفين : «أين كان هذا الرصاص عندما... «، بيد أن رصاصة طائشة لم تترك له فرصة أن يكمل سؤاله الاستنكاري. وفي «نصوص» نقرأ نص «عنوة»، حيث يلجأ الشاب العاطل، بعد أن مل الجيران من إرسال بقايا الطعام إليه، ويأتيه نفس الرد من الشركات، يضع الموسى في جيبه ويخرج، وأمام بسطة خضر، يتناول كيسا يملأه ويغادر، وحين ناداه البائع المذهول، «تحسس موساه كاتما أنينه المجروح». أما الأم/العاهرة في نص «براءة» فتلوذ بالصمت أمام أسئلة ابنتها المستفسرة عن غياب أبيها، وعن الغرباء الذين يزورون البيت، ويعطونها مالا، وترجوها الصغيرة ألا تغضب : «سأذهب إلى الدكان البعيد، وأشتري لهم علب السجائر». في قصة «راتب» يستلم الموظف الجديد راتبه الأول، فيدس في يد محاسب المصرف بعض النقود، ثم يصطدم بفتاة تستوقفه شارحة له يتمها، وبعدها تنزلق يده إلى جيبه عند رؤية المقعد الذي يبيع العلكة، ثم المرأة التي تنيم أطفالها بين أرجل المارة، والطفل الذي يحوم الذباب حول وجهه، والشاب المنقطع عن ذويه، وعقدت الدهشة لسان سائق «التاكسي» حين عادت يد الموظف الجديد من جيبه خاوية. في أقصوصة «اشتعال» تنهار الأحلام بعلاقة إنسانية، تنهي رحلة العذاب، حين تترك فتاة الحافلة لبطل للسارد قصاصة تعتذر له فيها لأنها وجدت فيه كثيرا من أخيها الذي يضيء عتمتها. في نص «جوع»- وهو ق.ق.ج- يحس الأب بالمرارة، لأن أبناءه لم يتذوقوا اللحم للشهر الرابع على التوالي، ويتحسس قروشه أمام الجزار، وأمام تلبسه بحيرته وتردده، تشجع، وقال له :» أحتاج عظمات للكلاب ببيتي». ثمة الكثير من النصوص اللافتة في هذه الأضمومة، سواء القصص القصيرة أو القصص القصيرة جدا، والتي تستحق أكثر من عرض موجز، علما أن هذه الورقة تطرقت لبعض ال (ق.ق.ج)، وللاستئناس، نقتطف من المجموعة هاتين القصتين القصيرتين جدا: مناسبة أمسك جهاز التحكم.. البساطير تملأ الساحات.. غمرته قشعريرة ألم.. ضغط زر التحويل، كان المحاضر فرحا بإعلان القدس عاصمة للثقافة، قبل أن يحوّل مؤشر المحطة، التصقت بصقة بمنتصف الشاشة تزامنا مع براعم الدهشة التي نمت في حدقات الجالسين. محطات في صيف ما.. دقت باب العمر الذكرى الخمسون في يوم ما هاتفها مطمئنا على صقيع وحدة تكفن لياليها. في لحظة ما، هاتفها عارضا صداقتها. ردت بحزم : أصادق كلبا ولا... في لحظة ما أنَّ جرس بابها.. خرجتْ.. ألفت كلبا صغيرا في سلة بالباب وبطاقة تهنئة بأمنيات لعام جديد.