هو الذي شغل الدنيا وملأها في حياته ومماته، إنه الزعيم الوطني والأممي، والقائد الاتحادي، الشهيد المهدي بنبركة. حتى أولئك الذين خالفوا هذا الزعيم القائد، أو عادوه، في حياته، يقرون معنا جميعا، أن الرجل من عيار استثنائي ملفت للنظر، ولا تخطئه العين، لما كان يتمتع به من مزايا شخصية لا ينضح بها سوى رجال التاريخ الكبار، وهم في أغلب الأحوال، قلة قليلة في عطاءات الشعوب عامة. قد يختلفون مع الرجل في هذه القضية أو تلك، وقد لا يرون فيه هذه المزية أو تلك، ولكنهم في النهاية يعترفون بأن الرجل كان من أبرز أولئك القادة القلائل الذين جادت بهم تلك المرحلة التاريخية في عز عنفوان وحيوية حركات التحرر الوطني وشعوب العالم الثالث. وكان من المتوقع، كما يحدث لكل القادة الكبار، ولا سيما بعد مماتهم، أن يحاول من في قلوبهم حسد أو ضغينة، البحث عن شيء ما، ولو كان مصطنعا وملفقا، لتبخيس رمزيته وتاريخه في نظر الأجيال اللاحقة. إنه وجه آخر من وجوه استمرار الصراع الاجتماعي والثقافي حول الرموز والقيم والحقيقة التاريخية. ولا جدال عندي في أن وصول أمة من الأمم إلى تقدير مشترك، أو متقارب، لكل قادتها ومفكريها وأبطالها، بإيجابياتهم ونقائصهم، علامة من علامات السوية التاريخية لهذه الأمة، ومؤشر على رشدها ونضجها، وضمانة لصحة وعافية ذاكرتها الجماعية، والتي على خلفيتها تخوض معاركها المستقبلية. وفي كل الأحوال، فإن الصيرورة التاريخية نفسها تتكفل بضبط التوازنات بعد كل اختلال تعسفي مرحلي ... ولنا من دروس تاريخ الأمم أمثلة في هذا الشأن لا تنضب. بكل تأكيد، أن الشهيد كان يجمع في شخصية مزايا عديدة، قلما تجتمع، وبامتياز، في شخص واحد. ومع ذلك، فالسعي الجماعي لتمثلها، وبما يتناسب وشروط الحاضر، يظل ضرورة مطلقة، تتيح لنا دائما إمكانية إنجاب قادة من طراز المهدي وعبد الرحيم وعمر وغيرهم من القادة الشهداء الأحياء. في هذه المقالة، سأقف قليلا عند أربعة خصائص لدى الشهيد المهدي بنبركة: أولا: أنه كان عقلاني التفكير والممارسة. ثانيا: أنه كان رجل دولة بامتياز. ثالثا: أنه كان رجل عالمي الفكر والممارسة. رابعا: أنه كان رجل تنظيم وبامتياز أيضا. (...) لقد عرف المهدي لدى الأجيال التالية «باختياره الثوري» الذائع الصيت. وعلى غير ما قد يتبادر إلى الذهن، في مجرد العنوان، من إيحاءات ضيقة الأفق، فإن ثورية هذا الاختيار كانت تقوم، بالتلازم مع مضامينها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، على ركيزتين لا فكاك بينهما: -من جهة، المنظور الديمقراطي في بناء الدولة الحديثة. -ومن جهة ثانية، العقلانية في التفكير والممارسة السياسية. إن مدخل الحداثة لدينا، كان ولا يزال، منذ أن حصل المغرب على استقلاله وإلى اليوم، بناء الدولة الحديثة القائمة على كل لوزامها المتعارف عليها في البناء الديمقراطي الحق. ومن يعود اليوم إلى «الاختيار الثوري» للشهيد بنبركة، فإنه سيجد لا محالة، أن هذا الاختيار من ألفه إلى يائه ليس إلا تعبيرا صادقا عن هذا المنظور الديمقراطي التأسيسي. وهنا لابد من كلمة توضيحية تطال بعض الانتقادات التشويشية والسطحية، كالتي تقول، بأن المهدي «كان متعطشا للسلطة ويحمل عقيدة الحزب الواحد» هكذا إذن وبجرة قلم، يتم التغاضي عن المادة التاريخية كما كانت على أرض الواقع، ويتم قلب حقائق الصراع الملموسة لصالح من كانوا يؤسسون فعلا لاحتكار السلطة ضد الديمقراطية وبتعددية مزيفة ومناوئة لها. ليس هناك نص، ولا تصريح، ولا موقف للشهيد (أو لحزبه) يجيز مثل هذا الطعن، إنما هو مجرد تأويل ذهني وصوري وبعدي لمرحلة تاريخية كانت التجارب التقدمية في معظمها ذات أنظمة غير ليبرالية. وحتى عندما يكون الجدل على هذا المستوى الشامل، فإنه ينبغي على المرء أن يتحلى بالكثير من التواضع والحذر في إطلاق الأحكام القطعية جزافا، احتراما لنضالات تلك الشعوب ولموضوعية التاريخ. أما الحقيقة الموضوعية عندنا، فهي على النقيض التام من ذلك التلف التأويلي، لأن ما كان ينتقده المهدي (وكل التقدميين والوطنيين) بوضوح، أن الحركة الوطنية التي كافحت من أجل الاستقلال، والتي تحملت كل مشاقه وتضحياته وأعبائه، وجدت نفسها، دون سواها من حركات التحرر الوطني، محرومة من ثمار كفاحاتها، بكل ما يعنيه ذلك من حمولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية. ولذلك، لم تكن التعددية عندنا، في جانب كبير منها، تعبيرا عن تطور ديمقراطي طبيعي، بل كانت أداة من أدوات الحرب الضروس ضد الديمقراطية بالذات. إنها الصيغة التنكرية للحكم لفرض احتكار «الحزب الواحد» بتعددية مزيفة. تلك كانت هي الحقيقة التاريخية الموضوعية التي لا ينبغي أن نتلاعب بها اليوم بتأويلات ذهنية بعدية خارجة من الرأس لا من الواقع الملموس. ولو جرت في إبانه انتخابات نزيهة وبدستور ديمقراطي فعلي، لكانت النتيجة المؤكدة لصالح الحركة الوطنية والتقدمية، ولكانت تجربتنا أقرب إلى تجربة الهند منها إلى تجربة الصين وما شابهها. والمهدي كما هو معروف، كان معجبا بالتجربة الديمقراطية التحررية الهندية، كما إعجابه بالتجارب التحررية الأخرى. ولو جاز لنا، نحن أيضا أن نستنبط ما كان سيكون عليه في البدء مسار التاريخ الفعلي لبلدنا، لذهب تأويلنا إلى ترجيح ما هو قريب من التجربة الهندية بالنظر لخصوصية بلدنا ولوزن الحركة الوطنية فيها. والمهدي لم يكن مغفلا لتلك الدرجة ليتغاضى عن تنوع الحركة الوطنية وعن موازين القوى في البلد، كما يحاول البعض أن يصوره بعد مماته ! ومن المجافاة والتجني، أن يعجن نضال وميزات هذا الرجل الشامخ في مجرد طموح شخصي «شغوف للسلطة»، أكان بهذه العبارة أو بمرادفاتها وكأننا في هذه الحالة نجرد المهدي من كل أخلاقيته التضالية التحررية. إذ لو كانت السلطة هي «عطشه الوحيد» كما تحاول هذه المقولة أن تمرر إلينا خلسة، لكان باكرا جالسا في قمتها، ولما انتهى نهاية الشهداء، زعيما معنويا لشعوب القارات الثلاث !! (...) تحدثنا إلى حد الآن عن المرتكز الأول في اختياره الثوري. أما عن المرتكز الثاني في عقلانية تعاطيه مع ديناميات الواقع المغربي، سياسيا وفكريا، فشواهده كثيرة، ليس أقلها، وهو العارف جيدا بتفاصيل ومكنونات المجتمع المغربي وقدراته الذاتية، أنه كان من أوائل القادة الذين دافعوا عن المشاركة في الانتخابات التشريعية الأولى، حتى وهي في شروط غير ديمقراطية. ولقد كان من العسير على العديد من المناضلين، في مخاضات ذلك الزمان، أن يتفهموا مثل هذا السلوك العقلاني. ولنا مثال آخر، في الأمل القوي الذي كان يحدوه بغية الوصول إلى تسوية تاريخية «بين المعارضة والدولة آنذاك، في ضوء الاستخلاصات الرسمية والشعبية من أحداث 23 مارس الكبرى. تسوية تاريخية، أو مصالحة تاريخية، كانت ستتيح له العودة إلى أرض الوطن، وستفتح للمغرب آفاقا جديدة، لولا يد الغذر والخيانة التي قامت بعملها الإجرامي بقطع الطريق على هذا المسعى باختطافه وتغييبه إلى الأبد... هذه العقلانية في الفكر والممارسة هي التي كان ينعثها البعض بالنزعة البرغماتية القوية في شخصية المهدي، بينما هي في الحقيقة نزعة عقلانية لأنها تظل محكومة بالمبادئ وبالأخلاق وبالنظرة الاستراتيجية البعيدة المدى. وستجدون في نفس الاختيار الثوري علامة أخرى دالة على شخصية المهدي، وهي تلك البارزة في نفوره من التبني السهل، أو الدوغمائي، لنوع من الاشتراكيات الشائعة في عهده، في محاولة منه لكي يعطي الاشتراكية مدلولا مغربيا ملموسا يتناسب والحاجيات الوطنية الملحة، بعيدا عن كل أدلجة مزيفة تستر من الخبايا أكثر مما توضح من الحقائق، وأكثر مما تعطي من حلول واقعية لمعضلات التخلف والديمقراطية في بلدنا. ولا مراء في أن بعض تلك الحلول قد تخطاها الزمن الدولي والوطني. وهي في الأصل كانت حلولا قابلة للتغيير بتغير الأوضاع نفسها. فهل كان ذلك نزوعا تجريبيا متأصلا في شخصية المهدي؟ نعم، ولكنه كان أفضل من قرينه المنافس الدوغمائي السائد آنذاك ! ثمة قضية أخرى لها راهنية خاصة في الزمن الحاضر: لقد انركب على نقد المهدي ل»أنصاف الحلول» مفهوم خاطئ تبنته الأجيال اللاحقة، ظنا منها أن المهدي كان ضد كل «أنصاف الحلول» وكيفما كانت، بينما كان نقده الحقيقي ضد تلك التي تتم بين «الجدران المغلقة»، بلا مصارحة ولا مجاهرة للجماهير، تشرح الدوافع، وتفسر السلبيات والإيجابيات، وتطرح الأهداف المستقبلية المنطوية عليها تلك المساومة الاضطرارية أو الاختيارية. ويمكن لنا أن نخمن مدى جسامة الخطأ الذي وقعت في متاهاته الحركة الراديكالية الناشئة على هذا الفهم المغلوط. بينما السياسة الديمقراطية بوجه خاص تقوم في أساسياتها، وبمعنى من المعاني، على «أنصاف الحلول» ! ما نريده في الخلاصة العامة، وكذلك من هذا التذكير الأخير، طرح السؤال الراهن التالي: إذا كانت ميزة الاختيار الثوري، أنه سلك نهج التحليل النقدي العقلاني والديمقراطي لبنية الممارسة الحية ولمجرياتها العملية، بكل صراحة وشفافية، وبالحضور الدائم للأفق الاستراتيجي، الشيء الذي أعطاه فاعلية وديمومة لا تضاهى من غيره، ألسنا بحاجة اليوم، بعد التجربة التوافقية وما تلاها، أن نعيد النظر في مراجعة تقييمة شاملة وجذرية لهذه التجربة، بإيجابياتها وسلبياتها، وبنفس الجرأة والصراحة والنفس الثوري، كما عالج المهدي «أنصاف الحلول السابقة»؟ ثم، أليست هذه المهمة من مسؤوليات قيادات التجربة الذين عاشوها من الباطن، إن صح هذا التعبير، وبالتالي، هم الأدرى بخباياها وعوائقها الداخلية، إن جهروا بذلك بلسان التجربة الحية اللاذع ، لا بالعموميات والشعارات العامة الملساء التي لا تنبت زرعا ولا تحيي ضرعا ! أسئلة، أزعم أن «الاختيار الثوري» يطرحها علينا من جديد ! (...) في الفقرة السابقة، شددت على الجانب العقلاني في تفكير وممارسة الشهيد المهدي بنبركة، والعقلانية عندي، على تنوعها، ليست إلا طريقة في التفكير ومنهجا للعمل، تقر، وتحاول أن تستنكه موضوعية الواقع ومنطقه الداخلي الخاص. غير أن العقلانية لا تمنح صاحبها شيك «الحقيقة» على بياض، ولا تعصمه بالتالي من الخطأ. ومن هذه الزاوية إذن، كان من المسلم به لدي، أن للمهدي أخطاءه كأي إنسان آخر. ولا أخفي على القارئ أني تجنبت الخوض في نقاش تفصيلي لما اعتبره البعض أخطاءا سياسية جسيمة للمهدي، لعل مثلها الشهير، موقفه المبدئي المدين لحرب الرمال التي وقعت بين الجزائر والمغرب، لأني اعتبرت أن الظرف غير صالح لمثل هذه المناقشة، مع أن الموقف بحد ذاته قابل لقراءات أخرى. نعم، لقد كان الشهيد بنبركة، أيضا، رجل دولة بامتياز، مع أن الظروف لم تسمح له بتحمل المسؤولية المباشرة في الدولة. ولكنه كان رجل دولة من طراز آخر، بما أنه كان، هو، وأقرانه من القادة الاتحاديين، يحمل، ويحملون معه مشروعا ديمقراطيا تحديثيا : في أن تكون الدولة متصالحة مع شعبها، حديثة وديمقراطية في مؤسساتها، دولة منصتة لنبض الجماهير وفي تواصل دائم معها. دولة تعتبر المشاركة الشعبية وتعبئتها أداتها الرئيسة في كل الحلول التي ترومها لتجاوز معيقات التنمية والتخلف. والمهدي من هذه الزاوية كان بحق رجل الدولة السياسي، ذا الصلة العميقة بالجماهير، والحامل للمنظور الشعبي الديمقراطي في التدبير والبرمجة والإدارة. وما طريق الوحدة والتي أشرف على برمجتها وشقها إلا إحدى علائم هذا الطراز الذي كانه من رجال الدولة الحداثيين. نستحضر هنا هذا الجانب في شخصية المهدي، ونحن ماضون في طريق بناء صروح الدولة الحديثة. ونسوقه ونحن نفكر في الحكامة الجيدة وسياسة القرب وكل المفاهيم الديمقراطية الجديدة / القديمة، بل نسوقه وحديث المفاضلة بين التكنوقراط والسياسيين جار ويعود بنا خطوات إلى الوراء. كل هذا من أجل أن نؤكد على أننا بحاجة ليكون لدينا كقوى اشتراكية العشرات والمآت من رجال الدولة على الطراز الذي كان عليه المهدي في المزاوجة بين المعرفة التفصيلية بقضايا المجتمع وحلولها الممكنة، وبين العلاقات العضوية الدائمة مع الجماهير والقدرة على استثمار كل إمكانياتها وإبداعاتها. غير أن هذا الشرط لا يمكن إنجازه بنجاح إلا إذا تمكنت القوى الديمقراطية من إعادة الاعتبار لعلاقتها بجماهير ها وقواعدها الشعبية، بما هي ركيزتها السياسية وهويتها الاجتماعية والأيديولوجية. وفي ظني أن القوى الديمقراطية هي المؤهلة والجديرة بإرجاع الثقة للجماهير في العمل السياسي، قبل أي طرف آخر، لأنها هي التي لها المصلحة الأكيدة والعضوية في ذلك. وبالتالي فالمسؤولية مسؤوليتها بصرف النظر عما إذا تحققت الإصلاحات السياسية والمؤسساتيه، أم إذا تأخرت من جديد. وما عليها إلا أن تختار طريق الأولوية لإنعاش الحركة الشعبية، لأن في ذلك إنعاش لها قبل غيرها .... (...) لقد بلغ الشهيد درجة العالمية كأحد القادة الكبار لحركات التحرر الوطني على الصعيد الدولي. ولعلكم تتذكرون جميعا أن حديث الاختطاف، جرى، في الوقت الذي كان فيه المهدي يعد لمؤتمر تضامن شعوب القارات الثلاث الجامع لكل قوى التقدم فيها، والمزمع عقده في كوبا. وهو التوقيت التي يشير بأصابع الاتهام إلى من كانت لهم مصلحة في تخريب هذا الحدث العالمي الكبير وتغييب صانعه وزعيمه، ومن بينهم المخابرات الإسرائيلية. ولا ننسى أن المهدي بنبركة كان من الأوائل الذين نبهوا باكرا إلى خطر التغلغل الإسرائيلي ومخططاته في إفريقيا، وكان بطبيعة الحال ممن تصدوا لخطورة الكيان الإسرائيلي، وعملوا على إفشال كل مخططاته، وممن ناصروا الحق الفلسطيني في كل مكان. إنه الخطر الذي أضحى اليوم قائما ومتجذرا ومؤكدا. وما ينبغي تمثله في هذا الصدد، إضافة لكل الخلاصات السياسية الضرورية، ما كان يتمتع به المهدي من وعي كوني تندرج في جدليته قضايانا الوطنية. إنها الوطنية المنفتحة على الهموم والنضالات الإنسانية جمعاء والمدركة، أن مصائرنا، مهما كانت لها من خصوصيات، فهي محكومة بنفس التاريخ العام للبشرية جمعاء، إن كان في سنن التقدم أو في معضلات التأخر، وأنها في المحصلة مرهونة بتحالف وكفاح كل قوى التقدم الحضاري على المستوى العالمي. فما أحوجنا أن نرتقي بوعينا الفردي والجماعي إلى هذا المستوى الكوني، وأن نستعيد معه للقوى الاشتراكية دورها الطلائعي في كل القضايا العادلة العربية والإفريقية والدولية. (...) لم يكن المهدي يتمتع بكل تلك الخصال السابقة وحسب، بل إلى جانب كل ذلك كان أيضا رجل التنظيم بامتياز. صحيح أن الظروف لم تسعفه لا بطول العمر ولا بالمكوث المستقر في المغرب في الفترة التي عاشها بعد تأسيس الاتحاد الوطني، إلا أن خبرته وألمعيته التنظيميتين في زمن الحركة الوطنية الاستقلالية وتأسيس الحركة الاتحادية بارزتا الوضوح. ولعل من خصائص قدراته التنظيمية أنه كان يحسن ويبرع في تشجيع واستثمار كل الطاقات والمواهب الفردية لدى الحزبين، سواء كانت شعبية أو مثقفة. فكان بالتالي صانع الكادرات الحزبية والمواهب المناسبة في أمكنتها المناسبة. وما التنظيم في جوهره، وفي كل مستوياته، ومهما اختلفت أشكاله ومؤسساته وقوانينه ومساطيره، سوى المهارة في تنمية كل المواهب والعطاءات والقدرات الفردية والجماعية. ومن تم تأهيل قاعدة لا تتوقف عن الاتساع والتزايد في الكادرات الحزبية العالية المواهب في كل المستويات والمجالات. وهذا يشترط في المناضل الحزبي، وفي القيادي، أن يكون مخلصا ومتجرد الذات وصاحب قضية لا صاحب موقع ومصلحة فردية ضيقة، كما هو الشأن في عدة حالات اليوم. ربما لشروط تاريخية في الماضي، كانت الكاريزمات القيادية لأمثال المهدي وعبد الرحيم بوعبيد وغيرهم، تعوض عن النقص التنظيمي المؤسسي، في ظروف كانت هي الأخرى تتسم بالتلقائية الشعبية العارمة. أما اليوم، وفي ظروف نضال معقدة، ثقافية واجتماعية وقيمية، وبدون أن ننكر دور الأفراد في التاريخ، فإن الأمر يحتاج إلى عمل جماعي مؤسسي تنظيمي ديمقراطي وحديث، لكنه بنفس الروح النضالية والأخلاقية التي كانت للمهدي وللقادة الكبار.