لاشك أن الطبيعة هي أول ما يجدب انتباهنا ويستأثر باهتمامنا, فهي أول ما تقع عليه حواسنا، وأول ما نلاحظه من ظواهر، لهذا فقد توجه العقل الإنساني، أولا وقبل النظر في نفسه، نحو العالم الخارجي، فكانت الدهشة، فهل تنبع الفلسفة حقا من الدهشة كما ادعى أفلاطون؟ أم من التعجب الذي اتخذ منذ ليبنتز وشيلينغ حتى هايدغر صورة السؤال المتافيزيقى الأساسي: لم كان وجودا ولم يكن عدما ؟ أهي تعبيرا عن رجفة الإنسان أمام الموت؟ أم عن غربته في العالم وغربة العالم في عينه؟ هل تصدر التجربة الأليمة حين يحس الهاوية التي تفصل الأنا عن الانت كما زعم كيركجارد؟ أم عن عاطفة متقدة للوجود الذاتي كما نفهم من كتابات نيتشه؟ هل تأتي من حيرته من فعله وتساؤله عن معناه؟ أم أن الإنسان حيوان ميتا فيزقي كما عرفه شوبنهاور؟، تدفعه الحاجة والفطرة لطرح أسئلة لا يمكنه أن يجيب عنها, ولا يمكنه أن يتخلى عنها كما أضاف كانط؟ أم هي السؤال - المنهجي - العقلي عن مشكلات تعذبه؟ أم أن مهمتها الوحيدة هي علاج الفيلسوف نفسه من الفلسفة, كما ذهب إلى ذلك فتغنشتين؟ هذا الفيلسوف هو ضمير العصر المثقل بالذنب حسب نيتشه ؟ أم الحكيم البصير والمتخصص في «الكل» و «العام»؟. أتكون الفلسفة في النهاية هي عصرها معبرا عنه بالأفكار وفقا لما ذهب إليه هيغل؟ أم أنه أصبحت في عصر العلم الذي نعيشه ترفا لا داعي له، وثرثرة لا غناء فيها ؟ وأخير هل هي تعلم الموت كما في عرف أفلاطون، أم تعلم الحياة بحسب اسينوزا و ياسبرز؟ أم هما معا؟ (1) من المستحيل أن نذكر كل تعريفات الفلسفة على مر التاريخ، وقد نساءل أنفسنا: ماذا نفعل أمام هذا الحشد الهائل من التعريفات؟ بما ننتفع من سؤال تختلف حوله الإجابات؟ أليس تعدد الفلسفات نفسه «فضيحة» كما ذهب إلى ذلك كانط؟ الفلسفة بطبيعتها متعددة الأهداف، وبرغم طموحها إلى المطلق، فهي أعمال بشرية و مؤقتة ومحدودة، كسائر أعمال البشر، وبالتالي فإن المرء يجد نفسه مدفوعا إلى اختيار فلسفة ما وتفضيلها على غيرها. واختيار الإنسان لإحدى الفلسفات يتوقف على طبيعته كإنسان كما يقول نيتشه. لعل أهم سؤال ينبغي أن يتخذ الإنسان من خلاله موقفا إزاء العالم، مادمنا لا نملك السماء، على حد تعبير سيمون دو بوفوار، إلا لأننا نطير فيها، ولا البحر إلا لأننا نسبح فيه ولا الأرض إلا لأننا نزرعها (2 ) ، كذلك فإن علاقتنا بالآخرين وبالعالم ليست مفروضة علينا من قبل ولا هي ثابتة على نحو معين بل هي حاصلة متغيرة لما نؤسسه ونفعله ? هو سؤال القيم . فقبل كل موقف نختاره، أو قرار نتخذه، نسأل أنفسنا: ما قيمة ما نعرف؟ وما قيمة ما نفعل؟ وما قيمة ما نحققه ؟ إن فهم الإنسان على حقيقته يعود إلى فهم القيم التي تمسك بزمامه وتوجهه. فهي بمثابة الفروض والآراء التي تقتضى التحقيق والإثبات. و من سمات القيم في عصرنا أنها متعددة ومتعارضة بل ومتغيرة يعجز المنطق المعتاد على التنبؤ بها أو ملاحقتها. لقد تسللت القيمة إلى معجم الفلسفة من أبواب متعددة، وتحت أسماء مختلفة، ولكنها لم تعد مبحثا شرعيا، من مباحثها إلا منذ زمن قصير يكاد لا يتجاوز القرن التاسع عشر. غير أن الآراء التي تدور حولها لم تتبلور بعد، وما تزال احد موضوعات الفلسفة المعرضة للنمو والتطور. اعتبر كارل لوفيت في كتابه « من هيغل إلى نيتيه» الفيلسوفين يميلان حدا فاصلا في تاريخ الفلسفة فهيغل يبدو بعيدا جدا عنا، بينما نيتشه قريبا جدا منا، وفي نفس المصدر ذكر أن إوديف في كتابه «على درب زرادشت» يعتبر هيغل يمثل الماضي التاريخي في الفكر الفلسفي (3) . وإذا كان مشيل فوكو تنبأ بأن القرن العشرين سيكون دولوزيا,فإننا نزعم من جانبنا أن القرن الذي نحياه سيكون نيتشويا بامتياز. وسيكون مبحث القيم وإعادة التقييم هو سؤال الفلسفة الحقيقي، وبالتالي فإن مهمة الفلسفة هي تحويل البحث في الوجود إلى المبحث في القيمة والتقييم. ولهذا من المهم جدا أن نعيد طرح سؤال القيمة، وأن نفحص من خلال طرق أشكلة الفن سؤال المعنى الذي أخفى أحيانا الوجود الواقعي للأشياء الفنية. وعليه لا شك أن هذا التساؤل يبقى دائما ممكنا و فاعلا عند النظر إلى البعد الجمالي للوجود. يتجاوز اهتمام الفلسفة بالفن مجرد التفكير في الأسس وفي معنى تجربة معينة، وطابع الفن يطرح أسئلة جوهرية تتعلق بسؤال إنتاج القيم في دائرة تقاسم المعنى، ونسق علاقات الفيلسوف بالفنان وبالبعد ألتشييدي لنشاطهما(4). إذا كان اليوم ممكنا اعتبار الفلسفة خلق للمفاهيم بالمعنى الدولوزي، فان هذا يعود إلى الحضور المحتشم والمعلن أحيانا أخرى بأن الفيلسوف قد نشط دائما في مناطق الفن . صحيح أن النصيب الأكبر من النظرية العامة للقيمة المحدثة، تدين بقسط كبير إلى الفلاسفة الكانطيين الكانطيين الجدد، لكن نيتشه في نظرنا وحده الذي استطاع أن يتيح لهذا المصطلح إذاعته واستساغه بين الناس. إنه المسؤول عن سيادة القيمة تصورا أسمى وأقصى للفلسفة. إننا لسنا مضطرين يقول تايلور بين أن تكون لنا فلسفة أو لا تكون، الاختيار الحقيقي هو هل نصوغ نظرياتنا الفلسفية أو قيمنا عن وعي، وعلى اتفاق على مبدأ معين ومفهوم؟ (5 ) . قد تكون قيمة الفكر أكثر دلالة وأشد أهمية من حقيقتها، ولعل اللاحقيقة تحمل من القيمة أكثر مما تحمله الحقيقة. فالقيمة لا توحي بما هو مطلق، بل تسلم بقيمة اكبر أو أقل في الدرجة، كما ليست هناك أية مشقة أو حرج في التحدث عن قيمة موجبة أو سالية. تصور الخير والشر، إلى التصريح بأن هناك من السمو ما يجاوز الخير و الشر معا. مثلما أدى به غموض ما هو أخلاقي إلى اعتبار نفسه» لا أخلاقي». صفوة القول أن تصوراتنا للقيمة تتطلب مراجعة: القيمة تتغير بتغير الظروف، بينما الخير مطلق، لا يتحول ومن ثم نقول على غرار ماكنزى بأن القيمة تعبير عن كل ما هو قابل للتعديل والتحويل في عالم متغير متعدد العلاقات (6 ) . إنه حال الفلسفة وتاريخها، فلم لا يكون سؤال القيمة هو السؤال الأساسي الجدير بأن تطرحه الفلسفة اليوم؟. هوامش : 1 - هذه الأسئلة وغيرها، أوردها عبد الغفار مكاوي في كتابه لم الفلسفة ؟ الصادر عن منشأة المعارف بالإسكندرية.1981 2 - أميرة حلمي مطر، مقالات حول القيم والحضارة. مكتبة مدبولي. القاهرة ص 6 بدون تاريخ. 3- كارل لوفييت» من هيغل إلى نيتشه» ترجمة مشيل كيلو، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق 1998، ص 8 . نقلا عن: أحمد عبد الحليم عطية، الملتقى، العدد 16 ماي 2007، ص 130 . 4 - رشيدة التريكي، الجمالية وسؤال المعنى» ترجمة وتقديم إبراهيم العميري، الطبعة الأولى، 2009 ص 15. 5 - صلاح قنصوه» نظرية القيمة في الفكر المعاصر» دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1987، ص 31 . 6 - ن.م. ص 36 .