تحقق الحلم المصري، أو جزء منه بالوصول إلى دار الكنانة، وبداية العمل من أجل الحصول على الباكلوريا، ومتابعة الدراسة في الجامعة (56/ 1957).، كيف تدبرتم تفاصيل الإقامة هناك، وترتيب الصداقات الجديدة ؟ قبل أن ندخل رحاب المدرسة الثانوية، كان أمامنا حوالي خمسة شهور من الانتظار، لأننا وصلنا القاهرة وسط العام الدراسي. التحقنا أولا بدار المغرب، التي كان يسكنها الطلبة المغاربة، وهي دار كان قد استأجرها مكتب المغرب الذي كان يسيره علال الفاسي وعبد المجيد بنجلون وأحمد بلمليح. لكن سرعان ما طردنا، لأن صاحب الدار رفع دعوى لاسترجاع داره لأسباب لا نعرفها. قررنا بعد هذا الخروج من الدار، أن نؤجر دارا سكناها: برادة وأومليل وعبد الرحيم السقاط ومحمد المزكلي وأنا، قبل أن يلتحق بنا إسماعيل أحمد. قضينا شهورا جميلة من الطرب نستمع لعود السقاط وكمان إسماعيل وصوت المزكلدي. وكانت تصلنا، من حين لآخر، حوالات بنكية من الأهل، عن طريق البنك الإنجليزي بطنجة التي كانت مدينة دولية. بعد أن أصبحت لنا سفارة وطنية يديرها السيد عبد الخالق الطريس، ومعه إدريس بنونة، ومحمد المفتي (أخ الشاعر والزجال حسن)، استأجر المغرب دارا جديدة انتقلنا إليها جميعا، إلا السقاط وإسماعيل أحمد اللذين استأجرا دارا خاصة، لأن مداخليهما تحسنت، خاصة مداخيل إسماعيل الذي أصبح عازفا ضمن الجمهور المصري بالإذاعة. في ما بعد، عاد السقاط والمزكلدي إلى المغرب، والتحق إسماعيل بجوق المطربة السورية سعاد محمد، وطاف معها بلدانا كثيرة، منها الأردن وتركيا. وعندما أراد الدخول إلى المغرب بعث إلي يطلب مني أن أكتب له أغنية وطنية اشترط أن تكون على وزن قصيدة أبي القاسم الشابي الشهيرة: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر فلبيت الطلب وأرسلت إليه نشيدا هذا مطلعه: أنا المغرب الشامخ المفتخرْ لحريتي قد ركبت الخطرْ رجالي كماة فلا غاصبٌ بأرضهمو إن تعدى ظفرْ فشعبي عريق وأرضي دُررْ ذكرت ضمن رفاق تلك المرحلة، الفنانين السقاط والمزكلدي وإسماعيل أحمد. هل كان اللقاء الأول معهم بالقاهرة؟ كان اللقاء الأول هناك مع المرحومين السقاط وإسماعيل أحمد. أما المزكلدي فكنت أعرفه من قبل، حين كان يزور القنيطرة بمناسبة احتفالات عيد العرش التي ينظمها حزب الاستقلال. للإشارة فالثلاثة كانوا يتابعون الدراسة بالمعهد الموسيقي. وماذا عن انخراطكم في نظام التعليم المصري ؟ شهادتنا الثانوية سمحت لنا، إذن، بدخول قسم البكالوريا، أو الثانوية العامة كما تسمى في مصر. كانت المدرسة تسمى الحسينية، وتقع في حي العباسية. وكنا خمسة مغاربة : محمد برادة، علي أومليل ، عبد الفتاح بوعبيد، (ابن عم عبد الرحيم بوعبيد) ، عبد الحق الفيجيجي، والباقي مصريون منهم ثلاثة أقباط. على المستوى الشخصي والتعليمي، كيف عشتم أيام الدراسة الأولى بمدرسة الحسينية؟ كان نظام الدراسة صارما. يبدأ كل صباح بتحية العلم حيث يقف التلاميذ، ووراءهم موظفو المدرسة والمدير، الذي كان ضخم الجثة، مهيب الصوت. لكن هذا كله لم يمنعنا من خلق جو خاص بنا في القسم. أذكر من مظاهره شيئين : أولهما حصة الفرنسية، وكان مقررا فيها مسرحية «أندروماك» لراسين، ورواية «كولومبا» لبروسبير ميرمي. ولعل اختيار هذه الرواية يعود إلى دورانها حول قضية الثأر الشائعة في الريف المصري. كان أستاذ المادة فرنسيا اسمه بومبيدو، وكان يحلو له أن نتحلق حوله، خاصة نحن المغاربة، فيهيم في شرحه، وتعليقه دون الاهتمام بباقي التلاميذ الذي لم يكونوا مهتمين باللغة الفرنسية. أما المظهر الثاني فهو درس الترجمة، و كان يقوم به أستاذ اسمه كمال الدسوقي. درس في فرنسا، وكان في مقتبل العمر، كثير الحيوية. وقد اكتشفنا فيه حبه للموسيقى، وعيشه في قصة حب. وكان من زملائنا في القسم عازف ماهر على الناي، هو فؤاد الشاذلي. عرفنا به للأستاذ الدسوقي، فكانت نهاية درس الترجمة، وبداية درس جديد هو سماع الموسيقى، فما إن يلج الأستاذ باب القسم حتى يطلب منا أن نغلق الباب ونترك شقا صغيرا من النافذة نراقب من خلاله مكتب المدير، ثم ينادي الأستاذ: أنت فين يا شاذلي؟ يخرج الشاذلي الناي من محفظته، ويشرع في العزف إلى أن يبدأ الأستاذ في طلب أغنية بعينها، وهي أغنية « توبة» لعبد الحليم حافظ. وما إن تنتهي حتى يصيح أستاذنا منتشيا: والنبي كمان مرة يا فؤاد.