{ الصحافة التونسية تقول إن عرض آخر ساعة حقق معادلة صعبة للغاية في إرضاء ذوق النقاد والجمهور في آنٍ معاً كيف ترين إلى هذا التعليق؟ أول شيء أريد أن أقوله إنه منذ البداية لم تكن لدينا الرغبة لا أنا ولا مخرج العرض عز الدين قنون في أن نلقن درساً للجمهور، بل كانت المسرحية بمثابة دعوة لهذا الجمهور إلى رحلة جميلة ومتعبة في الوقت نفسه، فالخطاب الدرامي وليس الخطاب المسرحي حاول أن يكون في الوقت نفسه فلسفياً ويومياً في اللحظة ذاتها، وذلك عبر التعاطي مع الموت بصفة تغريبية. صحيح أن «آخر ساعة» وصل إلى مختلف الشرائح والأعمار والمشارب الثقافية إلا أن هناك مستويات مختلفة من التلقي كل بحسب انتماءاته ومعتقداته، لقد أراد «آخر ساعة» أن يقهر الموت ليقول إن الحياة أجمل، هذا الموت الذي يبكينا ويزعزعنا في كل لحظة أرادت المسرحية أن تسخر منه لتقول إن الحياة أقوى وإن هناك علاقة حساسة بين الموت والحياة، لذلك لا أتورع بالقول إن كل عمل مسرحي هو صراع مع الموت الذي يريد أن يأخذ هذا الفن إلى الهلاك، أي عمل مسرحي يقوم على التجريد ويحترم الجمهور وبحد ذاته صراع مع موت الفن عموماً. { ولكن ألا تعتقدين أن المسرح في العالم العربي في حالة احتضار هو أيضاً.. نحن شهود عيان على أن المسرح (قاعد يطلع بالروح)، المسرح العربي يعاني سكرات الموت ومن أمراض تنخر به من الداخل والخارج حتى من المسرحيين أنفسهم، وهناك استقالة معلنة لكثير من الفنانين الذين أصبحوا يتخبطون في الارتجال والاستسهلال والأنماط المضحكة المبكية، مسرحنا أصبح وجبة لا تشبع، وليس لها رائحة ولا طعم. الخشبة ليست وعاءً { هل النص هو الصيغة الحركية الأولى للعرض المسرحي؟ كيف تفهمين ذلك؟ بالنسبة إلي هناك ثلاث مراحل أعيشها في كتابة النص المسرحي، المرحلة الأولى هي مرحلة المخاض للولادة الأولى حيث يكون النص فيها ما قبل كتابته دراماتورجياً، هنا أستطيع أن أكتب كل شيء عن أي شيء.. الأشياء التي تبكيك في المساء، الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم في الصباح، الموظفين أمام مكاتبهم، الوجوه في المقاهي أمام فناجين القهوة، يمكنك أن تعيش الواقع وتترجمه في جمل تكتبها منذ البداية لخرافة ما أو لقصة ما قبل الدخول في شخصيات العرض، أو ما نسميه بالبناء الدرامي، في «آخر ساعة» مثلاً، كتبت على مدار سنة كاملة نصاً لا توجد فيه أية شخصية حتى الشخصية الرئيسة »نجمة« لم تكن موجودة، أعني أن الجنين الدرامي موجود لكن من دون أن نعرف جنسه أو هويته. المرحلة الثانية تكون عندما أفكر في تحويل هذا النص الما قبل دراماتورجي إلى بناء الشخصيات مع مخرج العمل، إذ يبدأ مع الكاتب بهيكلة وتحديد ملامح الشخصيات المطلوبة، تاريخها، ميلادها النفسي، قدرتها على التعبير، طريقتها في التفكير، وبذور الصراع الموجودة في دواخلها، هنا يحدد المخرج تلك الخطوط العريضة للشخصية المسرحية بحسب احتياجاته، وبحسب التطلع العام للنص المكتوب. المرحلة الثالثة والأخيرة عندما تنطلق عملية التدريبات، في هذه اللحظة نأخذ بهذا النص ونلقي به على الخشبة ليحتك بديناميكية المسرح وبالتطور الدرامي لكل شخصية، فالنص كتابة غير منتهية وغير ثابتة، هي كتابة تتطور وتنمو في اتجاهات مختلفة وصولاً إلى ما أدعوه بالحقيقة المسرحية، وهي حقيقة حركية بعيدة عن حقيقة النصوص المكتبية الأدبية، الكتابة هنا تعني كتابة الخشبة، كتابة الممثل، جسده وصوته، فهذا الأخير في حاجة إلى نص يصبح ملكاً له، لا أن يلصق عليه، وأكاد أجزم أن هذه المرحلة هي من أهم المراحل في الكتابة المسرحية، إنك تعمل على وضع الكلمة في فم الشخصية، وهنا عليك كمؤلف مسرحي أن تختفي وراء الشخصيات لتقتل الأنا الكاتبة وتتحدث الشخصيات بدلاً منك، تتحدّث من تلقاء نفسها من دون أن تتدخل معها. أريد أن أقول شيئاً هنا هاماً للغاية: هو أن الخشبة ليست وعاءً تقبل كل شيء، بل هي غربال يأخذ ما يريد ويسقط ما يريد، نعم للخشبة حقيقتها كما للمخرج حقيقته أيضاً ولقاء هاتين الحقيقتين هو حاصل واحد ونهائي (العرض المسرحي)، أقصد أن النص ليس العرض بل هو جزء من العملية المسرحية التي تشكل فيما بعد العرض بكامل عناصره ومكوّناته المعروفة من ديكور وإضاءة وموسيقا... الضحك على الموت { في «آخر ساعة» هناك تعامل مع الموت كحساسية مختلفة وهناك تعرّض لمعتقدات اجتماعية ودينية؟ نحن في النهاية نتاج المعتقدات والعادات، نتاج لما يريد الآخر أن يكونه، نتاج لأفكارنا النقدية أو الرجعية على حدٍ سواء، فالإنسان هو الوعاء الذي يصب فيه كل شيء منذ الولادة، اسمه، دينه، مدرسته، اتجاهاته، ثم يأتي الخوف من هذه المعتقدات، فهناك الخوف من السلطة، والخوف من الدين والخوف من التعذيب، الخوف من الآخرة.. إلى آخره. شيئاً فشيئاً يرتفع هذا الحائط »الخوف« ليحدد لنا ما يمكن أن نكون وما يجب عليه أن نكون، الموت هنا وفي جميع المجتمعات وخصوصاً الإسلامية يشكل حافةً سحرية للعب المسرحي، وموضوع «آخر ساعة» كان فيما وراء الموت، تلاحظ أن بطلة العرض تسخر من هذا الما وراء برجوع حبيبها الميت الذي ينتظرها في الآخرة مع جماعة الحور الموجودين في الجنة. جانب السخرية هذا أتى من رفض أن نقضي حياتنا القصيرة في التفكير بما بعد الموت، فحتى هذه اللحظة لم يعد أحد من الموت ليخبرنا الحقيقة، أو عما حدث بعد رحيله، لذا كان على العرض أن يقول دعونا نعش الحياة وبعدها (كل واحد يدبر راسه)، أقصد «عش لدنياك كأنك تعيش أبداً وعش لآخرتك كأنك تموت غداً». أنا مع هذا القول للإمام علي، لأنه يختزل فلسفة إنسانية تدعو إلى الحياة وليس إلى الموت. الموت كلمة تمثل ما تمثل من دموع وأوجاع ومآسٍ عربية، لكنني لم أقدم موتاً واقعياً إذ لم يكن هناك من داعٍ إليه في «آخر ساعة» ، بل أحببت أن يصل للمتفرج كصورة كاريكاتيرية دافعة بالجمهور إلى أن يضحك على الموت، لقد ضحكنا من هذا الموت أنا وعز الدين قنون، وكان في نيتنا إذلاله وقهره، لذلك هناك من قال أثناء خروجه من الصالة (لقد حببتمونا بالموت) ، فإن تمكنت من كتابة نص غيّر مفهوم الجمهور عن الموت فسأكون أسعد كاتبة في العالم. { لكن في طرحك هذا كان هناك تماس مع المؤسسة الدينية، ألم تخشي ردود الفعل؟ عندما تكتب يجب أن تقبل بكل ردود الفعل وكل الاحتمالات، فعلى الكاتب أن يتحمل مسؤولية كلامه، وأنا كفنانة أطالب بحريتي مقابل كل الانتقادات، أقبل حرية الآخر في إبداء رأيه دون أن أحيد عن إرادتي في الكتابة، لأن هذي الكتابة فعل لا يقبل المساومة، فعل خارج وليس فعل منضوٍ تحت أية راية مهما كانت صفتها. { تقدمين صورة مغلوبة للأب في »آخر ساعة« وكأن هناك انقطاعا بين جيل الآباء والأبناء في تونس؟ أولاً الأب يمثل خطابه في «آخر ساعة» خصوصاً في أرضه المغتصبة عندما يقول «الزيتون يمّا الزيتون» نفكر في زيتون يتناثر ويذبح، صحيح أن كلام هذا الأب كلام كلاسيكي، ولكنه يتكلم عن الأرض والتراب وجبال الزيتون كشخصية بنت حياتها من أجل هذه الأرض، إذ ليس هناك علاقة بين هذا الأب الذي ينادي بأرضه وزيتونه مع ابنه الموسيقي عازف الغيتار الكهربائي، هناك قطيعة بين الإرث الذي تركه الأجداد لنا وبين الجيل الجديد، إنما أردت أن يتكلم هذا الأب التونسي في «آخر ساعة» ليس عن زيتون تونس وحسب، بل عن زيتون آخر هناك في فلسطين يسقى دماً كل يوم، تركناه وأدرنا له ظهرنا ذاهبين في جنون الحياة وصخبها وأشيائها المهترئة المبتذلة، الأرض هنا تحمل رمزية إنسانية وعطاءً وحباً، هذه هي شخصية الأب الذي لا يسمعه أحد، شخصية كل إنسان يحاول التمسك بجذوره، شخصية لا تريد أن تفقد طريقها وألا تُقتلع من مكانها رغماً عنها، وبصرخته (الزيتون يمّا الزيتون) في هذا المقطع بالذات أردت استرجاع صورة رأيتها على التلفزيون لعجوز فلسطينية تحضن شجرة الزيتون أمام الجرافة الإسرائيلية، هذه الصورة حركت بي تاريخاً كاملاً من الذل والخوف والهزائم العربية، ولذلك كتبت شخصية الأب على هذا النحو الذي رأيته في »آخر ساعة« حيث يمتد هذا المشهد من الزيتون التونسي إلى الزيتون الفلسطيني كشجرة اقتلعت بالقوة. الحرية { (نحبك يا بلادي مهما عملتِ ومهما ظلمتِ ومهما خصيتِ وذليتِ مهما بكيتِ) مقطع مؤثر تردده شخصية نجة في «آخر ساعة». هل كنت تريدين أن توجهي رسالة إلى أنظمة شمولية معينة؟ إنني أعتبر أن قصص الحب بين البلاد وساكنيها وإن كانت تحمل الكثير من التعب فيها الحلاوة وفيها العذاب، حيث أردت من خلال ست مفردات أن أقول إن الانتماء إلى الوطن سيكون مدهشاً وضرورياً إذا استطعت أن أقول ما أريد لهذا الوطن. من هنا لا أعتبر ما قلته في «آخر ساعة» رسالة لسلطة أو نظام، لأنني إذا كنت محتاجةً إلى رسالة سيكون هناك في الطرف الآخر من توجه إليه هذه الرسالة، وأنا أملك من الشجاعة ما يجعلني أوجه كلامي بشكل مباشر، فالمسرح هو المساحة التي تعطيني إمكانية القول والفعل، لكنني لا أريد أن أختبئ وراء كلمات مسرحية لأعبر عن مواقفي الشخصية السياسية أو غير السياسية، الفن لدي ليس رسالة بل مشروع، ولذلك امتهنت المسرح لأنه يوهمني بأنني حرة، الحرية لا تعني لي فقط أن أقول لا، الحرية بالنسبة إليّ هي أن أتخلص من عُقدي ومن التابوهات التي فرضها عليها الدين والمدرسة والعائلة، وأن أظهر بالصورة التي أحبّها، وليس كما يريد لي الآخر أن أظهر، الحرية أن أعبر مشاعري وأن أرى نفسي في الآخر كي أحترمه ويحترمني. { كيف بنيت علاقتك ككاتبة مع مخرج من طراز «عز الدين قنون» لا سيما في «آخر ساعة»؟ الثقة كلمة مهمة في أي علاقة إنسانية إذ يجب أن تكون هناك ثقة بين الكاتب والمخرج، ويجب أن يعرف الكاتب أين يقف ومتى تنتهي حدود تدخلاته، ربما تكون هناك استشارة بيني وبين «قنون» أثناء البروفات، لكن ليس لدي الحق في التدخل كيف سيصبح عليه العمل المسرحي وكوني كنت ممثلة في عرض من كتابتي كنت أنزع ثياب المؤلفة وألبس ثياب الممثلة، فهذه العلاقة ليست لها صلة بمفهوم الدكتاتورية أو الديموقراطية بل هي تحديد للمهام كي تكون العلاقات واضحة ومحددة، ويعرف كل شخص ما هي المهام المناطة به، طبعاً عندما تبدأ بالعمل مع مخرج كعز الدين قنون يعشق الممثل إلى حد الخرافة تسلم نفسك لهذا الرجل كطين بدائي يقوم هو بتشكيله، فإذا لم تكن هذه العلاقة متوفرة سينتهي كل شيء ولن نستطيع تقديم فرجة مسرحية بكل ما تعني الكلمة من معنى. التجريب المسرحي { عرض «آخر ساعة» نال في تونس ثلاثة جوائز ذهبية عن أفضل عمل متكامل وأفضل نص وأفضل ممثلة واعدة ل «ريم الحمروني» ، هل نعتبر ذلك صعوداً لتجمع مسرح الحمراء مقابل تجمعات مسرحية في تونس كتجمعات توفيق الجبالي وفاضل الجعايبي وآخرين؟ مسرح الحمراء يثبت وجوده ويشتغل منذ عام 1980 مع «عز الدين قنون»، وهو مسرح ملتزم بخياراته ومواضيعه، لكنه لا يستكين للنجاح، وذلك ما شهدته مع «عز الدين قنون» في كل عمل يحاول أن يقطع مع المعروف والمعهود فهو ورغم نجاحاته العديدة في عروض مثل «الحب في الخريف» أو «رهائن» لم يتوقف عندها بل انطلق في بحث هائل في التجريب المسرحي من أجل إيجاد طرح جديد، في كل عمل هناك مغامرة، الأهم من ذلك أن «قنون» مخرج يعمل بصمت ليقدم مسرحاً غاضباً، لذلك لم تفاجئنا الأركاح الذهبية الثلاثة التي نالها عرض «آخر ساعة»، فجائزتنا الأولى أخذناها من الأقلام التونسية والسورية واللبنانية التي كتبت الكثير عن العرض، حتى أن الصحافة التونسية قالت إن هذا العرض كاد يحصد كل الأركاح الذهبية التي تقدمها لجنة من أهم الفنانين والنقاد التونسيين، أما الذين عبروا عن استيائهم لأن هذه الجوائز منحت ل «آخر ساعة» وما أثير في وسائل الإعلام من استنكار وغضب كان نتيجة جهد بذله الإعلام الفضائحي في تونس بمهاجمة اللجنة، وأقول إن إفلاس البعض من المسرحيين التونسيين ستقابله الثرثرة والاتهامات لأنهم لا يملكون سواه، هذا لا أستغربه وقد دفعنا ثمنه في عام 1998 أنا وعز الدين قنون عندما رفضنا الانصياع للواقع الجديد ليتعرض بعدها مسرح الحمراء للإغلاق مدة سنة ونصف، إلا أننا رغم ذلك رفضنا الشغل في التلفزيون وتقاسمنا الرغيف سويةً، إننا نعي أن العمل في المسرح يستلزم دفع ضرائب كثيرة، لكن هذا مبدأ لا نحيد عنه لكوننا نساهم في إرساء ثقافة تقف ضد الابتذال والتهريج لمقاومة الأعمال السوقية والتجارية، هذه الأعمال الرديئة التي تريد أن تقدم الثقافة كطبق مسموم للعقل يفتك بالإنسان أكثر من السم المادي الذي يصل إلى الأمعاء، لذلك لم نغير مواقفنا أنا وعز الدين مهما كانت الأثمان باهظة، إننا نحمل الحلم ونعيش فيه، ونعيش بسببه أيضاً، لذلك يجب أن ندافع عن خبزنا المسرحي كقوت حياة وأمل في آن معاً. (عن جريدة «السفير»)