مغامرةٌ جميلةٌ هذه التي نركبها بترجمة هذا الكتاب. ومن جوانب الصعوبة في هذه المغامرة ما يواجه هذا النوع من الكتابات المترجمَ به من صنوف الصعاب والمعيقات، بحكم كثرة ما يثير من مشكلات، بله إشكاليات، لاتصاله بالحفر والمساءلة بقضايا لا تزال من صميم راهننا المغربي. إن من الصعب دائماً، أن نترجم كتاباً وضعه أجنبي في تاريخنا القريب، ولاسيما ما كان منه داخلاً في فترة ما قبل الاستقلال بقليل؛ تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب، التي لا نزال لا نعرف فيها، إلى اليوم، كتاباً جامعاً نسلم معه بشيء من اليقين. وأما الكتاب الذي آثرناه بالترجمة في هذا المضمار فهو كتاب «?الفرنسيون الأحرار في المغرب المأزوم»، الذي يُطلِعنا على صفحةٍ من العلاقات الفرنسية المغْربية، ظلتْ غير معروفة جيداً، مع ما هي عليه من أهمية وبروز في تاريخ القضاء على الاحتلال. صفحات سوَّدتْها حفنةٌ من فرنسيِّي المغرب، ساندوا، في الأزمة التي عاشَها المغرب في السنوات الأخيرة من عهد الحماية، مطلبَ المغاربة في الاستقلال، الذي اعتبروه مطلباً عادلاً ومحتَّماً ليس منه مفر. وقد انخرط هؤلاء الأحرار الطوباويُّون، المخالِفون للاتجاه الذي كان يسير فيه الرأي السائد عند مواطنيهم، انخراطاً لم يعْبأوا بما كان يحفل به من مخاطر؛ بما فيها المخاطرة بحياتهم، في معركة ?سلمية ساعدتْ على إحقاق الحق، كما كانتْ منشأَ صداقات ثابتة ودائمة بين هؤلاء الفرنسيين وبين الوطنيين المغاربة. آن ماري روزيلي تلك كانت سنوات 1950؛ وقت أن كانت فرنسا تنهض في جَهْد ومشقة، من سنوات الحداد والدمار والخراب، التي نابتْها من الحرب العالمية الثانية ومن الاحتلال. ويستعيد الفرنسيون الحريةَ، ويستردون الجمهورية. وما أكثر أولئك منهم الذين كانوا، في ذلك العالم المضطرب، يعتقدون أن في الإمكان العودةَ إلى زمن ما قبل الحرب؛ ذلك الزمن الهنيِّ الرغيد، رغم متطلبات الحياة اليومية بالغة الصعوبة وحالة الاقتصاد الميؤوس منها. وظل الفرنسيون، من اليمين واليسار على حد سواء، يطوون جنُبَهم على حنين حارق إلى الأمجاد التي كانوا ينعمون بها في الأمس. ثم لم يلبث ذلك الحنين أن خلَفه همٌّ وانشغال بالحفاظ على ما كان الإمبراطوريةَ الاستعماريةَ الفرنسيةَ. ذلك بأن التغيُّر طال علاقات القوة، كما طال الذهنيات. وإذا الحلفاء من أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين، كما نستدل من خطاب الجنرال دوغول في برازافيل، قد صاروا يَعِدِون بالتعجيل باستقلال الشعوب المستعمَرة، التي كانت، إلى ذلك الحين، ترزح تحت وصاية قوة من القوى الأوروبية. وهلَّلتْ هذه الشعوب، في آسيا كما هلَّلت في إفريقيا، لهذا الالتزام من الحلفاء، وشدت عليه بالنواجذ، وطالبت أوصياءَها القدامى بتحقيقه. وتلك كانت فترةً من المشاورات والتوترات التي كانت تتحول، أحياناً، إلى صراعات ستطبع مسيرةَ تلك الشعوب في سعيها إلى التخلص من ربقة الاحتلال. والمغرب ظل صديقاً مخلصاً وفياً لفرنسا على امتداد تاريخهما المشترك. وقد أصبح، يومئذ، يتحقق له من النضج ما يؤهله للوصول، بسرعة، إلى تحقيق سيادته الوطنية. والجنود المغاربة قاتلوا ببسالة، إلى جنب رفاقهم الفرنسيين، في جميع المعارك التي شهدتْها إيطاليا، ولاسيما المعارك التي دارت رحاها في إقليم بروفانس. ويظل المهاجرون المغاربة في فرنسا، إلى هذا اليوم، يمثلون أكبر نسبة من المهاجرين وأكثرها تميُّزاً. وقد كان في الإمكان أن تؤول السلطات في المغرب إلى نظام ملكي منبثق عن نخبة مثقفة ديمقراطية وتحررية على نحو أصيل، من دون صدامات، ومن دون تلك الحوادث التي ترتبت عنه، والتي ليس يدخل في موضوع كتابنا أن نعيد التذكير بها في هذا المقام. وحسبنا أن نقول إن عمل الوطنيين المغاربة لم يكن يلقى التفهُّم ولا القبول دائماً، من مواطنينا، سواء منهم من كان مقيماً في المغرب، أو ? وبوجه خاص ? أولئك منهم الذين كانوا مقيمين في فرنسا، على الرغم مما كان يتصف به هؤلاء الرجال من الخصال والمزايا اللائحة التي لا تشوبها شائبة. ولأقتصر على التمثيل لما أقول بعبد الرحيم بوعبيد، الذي سنح لي، في ما بعد، وتحديداً في شهر فبراير من سنة 1956، أن أنشر مقالاً في الاحتفاء به، عندما أصبح أول سفير للمغرب المستقل في باريس. لقد كان بعض الرجال والنساء، في المغرب، كما في فرنسا (التي كان يُزاد إلى اسمها، أيامئذ، وسْم «البلد الأصلي»)، ومعظمهم ينتمون إلى اليسار الاجتماعي والديمقراطية المسيحية، ممن يجمعون إلى حدس القلب النباهةَ السياسية، يتعاطفون مع العمل التحرري الذي كان ينهض به الديمقراطيون المغاربة. لكن من أسفٍ أنهم لم يكونوا سوى أقلية، يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون بعكس الشعور العام الذي كان سائداً عند الفرنسيين غير المطلعين. وفي تلك الظروف، وفي ذلك الجو الذي كانتْ تغلب عليه غرائز المعاداة، وكسل الرأي [العام]، جاءت لزيارتي، ذات يوم من سنة 1953، صحافيةٌ شديدة التحمس وشجاعة؛ تلك هي آن ماري روزيلي، فعرضت عليَّ موضوع كتابها هذا، وما لبثتت حتى أقنعتْني به، ثم سلمت إليَّ نصاً، قمت بنشره في صحيفة «لو مين ليبر»، بصفتي رئيسَ تحرير تلك اليومية الجهوية التي كانت تصدر في جهة الغرب (فيما آثرت صحف أخرى، من شدة حيطتها، أو من فرط خوفها من القناعة التي كانت تحملها تلك الصحافية، والحماسة التي كانت تعبِّر بها عنها، أن تمتنع عن نشر ذلك النص.. تم أعقبت ذلك مقالاتٌ أخرى، تضيء التحول الذي تشهده الأوضاع في المغرب. وبذا أمكنني أن أتعرَّف على عمل الفرنسيين الأحرار في المغرب، وهم الذين سيتعرَّف قراء هذا المؤلَّف على أسمائهم تباعاً، بتوالي الشهادات الواردة فيه، مرفقة بشهادات بعض أصدقائهم المغاربة. لقد أحببت معركتهم، وتتبَّعتها، في يسر وسهولة شديدين، ولاسيما أنها تلتقي، بدون شك، مع التقليد الجمهوري الذي نشأْت وترعرعْت فيه، ثم توقفت، في عام 1943، على مقربة من مدينة الدارالبيضاء، بين من سيكونون في المستقبل جيوشَ التحالف التي ستجتاح أوروبا، فإذا بي أقع في حب المغرب والمغاربة. وهذا يعني أنني أجد متعة وسعادة في المشاركة، ههنا، في تقديم التحية لأولئك «الجنود الرواد». إن دوري كشاهد يظل، بالمقارنة مع الأدوار التي لعبها أولئك الفواعل سالفي الذكر، دوراً متواضعاً جداً. لكن الشعور بأنني كنت نافعاً، وبأنني قدمت ما يشبه الكفالة أو الضمانة إلى رجال يتحلون بالكرم وبعد النظر، في وقت لم يكن قد أُقِرَّ لهم بعدُ، بهاتين المزيتيْن، يمثل بالنسبة إليَّ ذكرى سعيدة.ذ فليتقبَّلْ مني هذه الشهادة ههنا، كلُّ أولئك الذين أدين لهم بالامتنان. ولتدم العلاقات الودية بين المغرب وفرنسا. جون شوتم صحافي وأحد قدماء المقاتلين في تجريدة لوكليرك.