إن الحديث عن الفقيد الأستاذ الباحث والمفكر والفيلسوف المتميز محمد عابد الجابري لا ينحصر في ما كتبه وبحث فيه فقط ، بل وكذلك في ما تركه من أثر وتأثير وفي ما أحدثه في محيطه المحلي والوطني والعربي والإسلامي والعالمي .. من خلال ما طرحه وأثاره من قضايا فكرية وتراثية وإنسانية واجتماعية .. متشعبة وشائكة .. ومن إشكالات علمية وإبستمولوجية متنوعة ومختلفة .. أثارت بدورها كثيرا من الأسئلة والتساؤلات والردود والقراءات والانتقادات والكتابات .. المؤيدة والمعارضة .. العميقة والدقيقة .. والسطحية والقدحية والإيديولوجية والانفعالية .. الموضوعية والعلمية .. والذاتية الضيقة والوثوقية ..إلخ وقد كان كذلك المرحوم لا يهتم بالرد المباشر بقدر ما يحول ذلك إلى « مشاريع « ومواضيع مهمة وأساسية .. في مجال البحث والدراسة والإنتاج الفكري الفعلي .. إلخ . ونحن نتحدث عن فقدان أستاذ الأجيال وعن بان لمدرسة فكرية فلسفية تراثية وإبستمولوجية ..متميزة ومهمة ، لا في الفكر المغربي والعربي والإسلامي فحسب ، بل وفي الفكر الإنساني كذلك . وفي هذا السياق سياق الذكرى التاريخية العظيمة لوفاة هذا المفكر والفيلسوف المتميز ، الذي كرس حياته للتعليم والبحث والمعرفة .. ملتزما بذلك التزام الباحث المفكر والمعلم العضوي الذي حمل على عاتقه رسالة إنسانية نبيلة يشهد له بها التاريخ . وهكذا ، إذاصح القول بأن كل الناس يتذكرون ، ولهم ذكريات متنوعة ومختلفة .. فهذا لا يعني إطلاقا أن كل الناس يكتبون ويدونون ويبدعون .. في مجال السيرة الذاتية أو في مجال من المجالات الأخرى . إن إبداع الكتابة في فن السيرة الذاتية هو عبارة أو بمثابة القيام برحلة سهلة أو شاقة وصعبة ومضنية .. في حياة المسافر، وذلك بالاعتماد على الذاكرة وعلى ما تراكمه وتختزله من ذكريات بعيدة وقريبة .. وعلى مدى قدرته على استعادتها في زمن غير زمنها .. ومن هنا صعوبة الكتابة الموضوعية والإبداع الصادق والجاد والملتزم .. في هذا الفن المتميز ، بالإضافة إلى وظيفة اللغة ومنهجية الكتابة في سياق الذاكرة المتذكرة . ولكن وبالرغم من هذه الأشياء والظروف والشروط الصعبة نجد الذات المبدعة والكتابة الباحثة .. تتحدى هذه المصاعب والعراقيل ، وذلك بفضل ممارستها الكتابة ، بحثا عن تأكيد وجودها وحفر أنشطتها وذكرياتها حتى لا تموت بموتها الطبيعي والحتمي . وهكذا ، ففي فن السيرة الذاتية ، كما رأينا ، يمكن الحديث عن جدلية الفكر والواقع وعن الذات والموضوع أي عن الإنسان وواقعه المعيش.. إنما نسيج مركب ومتداخل لا يمكن الحديث عن عنصر منه دون نسيج مركب ومتداخل لا يمكن الحديث عن عنصر منه دون حضور العناصر الأخرى ، إنه أساس وحدة الشخصية المبدعة وتطورها . هكذا يصبح فن كتابة الذاتية هو الوعي العميق بالوجود الذاتي في الماضي والحاضر .. المعبر عن التجربة الإنسانية الحياتية الواعية بدورها في خضم هذه الحياة المعيشة والمتشعبة من جهة ومن جهة أخرى الطريق المساعد لفهم ومعرفة الذات لهذه السيرة الذاتية . يقول الأستاذ المرحوم محمد عابد الجابري في آخر غلاف كتابه « حفريات في الذاكرة من بعيد « الصادر عن مطبعة دار النشر المغربية ، سنة 1997 الطبعة الأولى الدارالبيضاء . « ... وعملية إعطاء المعنى لمعطيات الذاكرة كما للقطع الأثرية عملية تتعاون عليها عدة عناصر : هناك أولا السياق الذي توضع فيه الذكرى ، وهو مجرى حياة يعاد بناؤه وتقوم فيه الذاكرة بدور ، ويقوم فيه العقل المحلل والمؤول بدور . وهناك ثانيا الدلالة النفسية والاجتماعية للذكرى في علاقتها مع مكوناتها الخاصة من جهة ومع الأفق الذي يعطيه لها التحليل من جهة ثانية . وبذلك تكتسي الذكرى المسترجعة بعدا إنسانيا يحيل إلى الإنسان كإنسان وبعدا اجتماعيا يحيل إلى مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي ..وقد يندمج البعدان معا في سياق واحد . وهناك ثالثا لغة العرض وأساليب التأويل . إن الأمر يتعلق بنص غير مقالي ، غير فلسفي ولا علمي ، وبالتالي لا مكان فيه للاستدلال « البرهاني « .. إنه نص بياني يعرض ذكريات شخصية ويتغذى من مخزون ثقافي معين ، ويوظف الصورة والإشارة والتلميح والرمز ، إلى جانب ما قد يكون هناك من تدفق العفوية وإبداع السليقة « . ويضيف قائلا في « مواقف « العدد : 78 يناير 2010 ( من ملفات الذاكرة ) ص 65 و 66 « لقد صادفت ذلك ، أعني قراري بالتوقف عن مواصلة الكتابة في موضوع « أزمة الاشتراكية في البلاد المتخلفة « أنني كنت قد سجلت في كلية الآداب بالرباط مع أستاذنا المرحوم محمد عزيز الحبابي موضوعا لنيل دبلوم الدراسات العليا ، وكان حول « نقد ابن خلدون لمناهج المؤرخين الذين سبقوه والتبشير بعلم جديد سماه : علم العمران البشري « ومن هنا اشتغالي بابن خلدون في ذلك الوقت يحقق لي « ضرب عصفورين بحجر واحد كما يقول المثل : تحضير الدبلوم الذي يمكنني في الالتحاق بالجامعة أستاذا باحثا من جهة ، والتعرف على حقيقة آراء ابن خلدون في التاريخ والمجتمع العربي الاسلامي ، ...» ويضيف قائلا في ص : 67و68 : طبعه ككتاب في مصر ، وبالتحديد في إحدى دور النشر المعروفة ك « دار المعرف « وفي هذه الحالة كان لا بد من تزكية من أستاذ معروف عند الدار . ذلك ما جعلني أقدم مشروع الكتاب لأستاذنا الدكتور نجيب بلدي ، وهو من أساتذة الجامعات في مصر ، ثم انتقل أستاذا في إحدى الجامعات الفرنسية ، ليلتحق بعد ذلك بجامعتنا ( جامعة محمد الخامس بالرباط التي كان منتسبا إليها وكان من جملة أساتذتنا في الفلسفة ) وطلبت منه النظر في ذلك المشروع والتلميح إلى أنني أتطلع إلى أن يقبل كتابة مقدمة له لنشره في دار المعارف بمصر . ومرت أسابيع وإذا الدكتور بلدي يفاجئني بالقول : «كتابك ليس مجرد كتاب للنشر ، بل هو رسالة دكتوراه الدولة « . فعلا سجلت مع المرحوم الدكتور بلدي ، ذلك البحث كرسالة دكتوراه تحت عنوان أكاديمي « بارد « كما تقتضي التقاليد الجامعية ( علم العمران الخلدوني ) ونلت به شهادة الدكتوراه في الفلسفة . وعندما قدمته للنشر (سنة 1970) غيرت عنوانه بالصورة التي تجعله أكثر استجابة لمشروعي الأصلي ، فطبع باسم العصبية والدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي . المتعمق في قراءة ماقاله وكتبه المرحوم محمد عابد الجابري ، يستخلص منه بأنه قد ربط معطيات الذاكرة / فن كتابة السيرة الذاتية بمحددين أساسيين : سياق الذكرى في انبثاقها وارتباطها بمجرى الحياة ، وبمدى قدرة العقل المحلل والمؤول ، بدوره إزاء هذه العملية المتشعبة والمتداخلة . وهنا يحاول المرحوم الجابري إقامة نظرة شمولية ، تحاول بدورها أن تربط أجزاء الذكرى بالذات المتذكرة / الكاتبة والمبدعة والمؤولة .. حيث يلعب العقل دور المفسر والمحلل والمفكك .. وبعد ذلك تأويل ما استطاع تذكره وتحليله . والعنصر الثاني هو المتعلق بالجانب النفسي والاجتماعي .. لذكريات الشخصية المتشعبة التكوين والمتشابكة الأبعاد .. إنما شخصية الإنسان المتذكر / الكاتب . ومن هنا يركز المرحوم الجابري على البعد الإنساني في مجال كتابة السيرة الذاتية ، وعلى الوسائل المساعدة على ذلك ، معتمدا في ذلك على العقل وآليات الإشتغال الأخرى ، التي تقربنا من شخصية المتذكر ، كالعقل والتحليل والتأويل والشمولية .. فأسس بذلك كما قلنا مدرسة عقلانية فلسفية وإيستمولوجية في مجال البحث الفكري والتراثي والسياسي والتربوي .. الإنساني ، يحصل لنا الشرف الانتماء إليها ..؟! (*) أحد طلبة المرحوم محمد عابد الجابري