بالأمس، عندما عدت متأخرا إلى هذه الشقة المعلقة، تركت المدينة خلفي متعبة من سهرة طويلة وضجيج كبير ظل يطن في أذني مثل ذباب سمين مزعج، وأضواء قوية تكاد تخرب بؤبؤ العين. في الصباح عندما أطللت من النافذة، كانت الأزقة مكسوة بثلج مفاجئ لم تعلن عنه بتاتا مذيعة النشرة الجوية ذات الفم الواسع والعجيزة المكورة، تطير الشهوة من عينيها ووجنتيها حتى أنها تنسى أن تخبر الناس بمواعيد شروق الشمس وغروبها، وتختلط عليها درجات الحرارة فتعلن أن سيبيريا لم تعد صحراء ثلجية وإنما صحراء برمال صفراء دقيقة حارقة. كان وجهي متخشبا وجسدي منهكا ومتفسخا، فقررت أن آخذ دشا ساخنا نكاية بهذا البرد القارس، وبهذا المقلب الذي نصبتة، بإحكام، مذيعة النشرة الجوية للجميع. لو كان الطقس مثل جسدها لزال التعب عن الكائنات. جسدها الفائر اللامع مثل عربة ليموزين. تحت الدش تذكرت يدي وهي تندس في لهب جسد المرأة الجالسة بقربي على نفس الأريكة الحمراء الطويلة الممتدة في حانة النوستالجيا.. كان خيط الكلام الذي بدأناه تلقائيا دون سابق نية، قد قادنا إلى سهوب مشتعلة ومتعبة شبيهة بتلك التي كتبها خوان رولفو، سقيناها كأسا بعد كأس، وسيجارة بعد سيجارة.. وكان الضجيج يتصاعد في دواخلنا ومن حولنا، بأشكال هندسية ذات أسطح مختلفة متداخلة.. وذات أبعاد متعددة ثلاثية ورباعية متوازية ومتقاطعة. لكأنها أشكال منفلتة من الهندسة الأوقليدية العريقة. أحيانا لا يسقط الثلج نكاية بالعباد أو بالبلاد.. يحدث أن يكون الثلج ضحية معارك خرافية بين قبائل هوائية في القطب الشمالي، تصل فلولها إلى بلدان بعيدة ثلجا أبيض بلا دماء، أو بردا قارسا لا سلام فيه، بدليل أن كلبها الكانيش - كلب المرأة الجالسة بجواري - ظل ينبح عندما لفحه برد الخارج، وكان في الداخل لا يتوانى في لعقها كلما شاهد أنفي يقترب من عنقها الناعم...هل كانت الغيرة تأكل قلبه؟؟ الغيرة المميتة كانت تأكل شغاف الشاب الأشقر ذي الرأس الحليقة، الذي كان ينظر إليّ، بين الحين والحين، نظرات قاسية !! لم يكتف بكأسه ولا بالمرأة التي تجلس قبالته تداعب أصابع يديه وتمسح التعب عن جبهته الصلدة وهي تحكي له عن سحر الشرق وزيارتها لاسطنبول وأنطاكيا.. فيما كنت لا أزال أعبث خفية بحلزون صاحبة الكانيش، هناك، حذرا من كلبها ذي النباح الخافت والأنف الوردي الرطب، مسترقا النظر، في الآن ذاته، إلى القرط اللامع في أذن الشاب الأشقر الذي يبرق كلما سقط عليه شعاع ضوء متحرك في السقف. في بروكسيل، يصبح الناس متسامحين في أيام الأعياد، يمسحون كل آثامهم الماضية وضعفهم البشري، ويستعيدون روح الإنسان الأولى الطاهرة البيضاء، لذلك تحدث في الأعياد أشياء كثيرة، كأن تتعرف على امرأة جميلة يحسدك عليها الأصدقاء فيجعلون منك موضوع أحاديثهم في المقاهي وعلى الأرصفة، أو أن يدعوك جارك الذي لم يحدثك منذ عشرين عاما لمشاركته نخب السان سيلفيستر، فيخيرك بين فنجان قهوة وكأس عصير دليل انفتاحه واحترامه لاختلافك.. فتكتشف بذهول أن الرجل رقيق للغاية وأنه من عشاق موسيقى شتراوس.. وقد يسمعك مقطعا من «الدانوب الأزرق الجميل»، مدهش فعلا هذا الجار العجوز فمعرفته بالمطبخ المغربي جيدة، سوف لن يحدثك عن الكسكس، بل عن الطنجية المراكشية والبسطيلة وأعياد الشاي الضاجة بأنواع الفطائر والحلوى..!! ما أحبه في الأعياد البروكسيلية أن الجيران كلهم يسافرون، فلا أجد صعوبة في العثور على مكان أركن فيه سيارتي المنهكة، كما أن المراهق، النحيف المزعج، الذي يقضي أغلب أوقاته في مداعبة الصدر الطري لبنت الجيران، والعبث بعواطفها البكر في البهو عند مدخل العمارة.. يختفي - فقط- لأن الفتاة تسافر مع عائلتها. السفر لدى البروكسيليين جزء مهم من حياتهم، ويخضع لتخطيط وتدبير مالي خاص.. لعلهم يهربون من الجو الرمادي البارد والمعتم، الذي يشكل يوميَّ المدينة، نحو وجهات دافئة ومشمسة، وربما للتخلص من ضغط الحياة الرهيب والفتاك.. لكنهم يستعيدون سفرياتهم في أحاديثهم اليومية بعد ذلك في نوع من الافتخار القريب من الرياء. تتحدث «ستيفي» عن سفرها للجنوب المغربي، وكيف سحرها منظر الغروب في وسط رمال «مرزوكة»، وكيف كان قرص الشمس كبيرا وقريبا.. وكيف كان لونه الأرجواني خرافيا... وحكت «بريجيت» عن اللص الذي باغتها في فاس وطار بحقيبة يدها!!.... يسافر أهل بروكسيل ويتركون قططهم السمينة تطل على العالم من وراء زجاج النوافذ، قطط لا تموء أبدا.. قطط تجد دائما من يعتني بها في غيابهم. أنا لا أسافر إلا في الصيف كباقي المهاجرين. أملأ صندوق السيارة وسطحها بكل ما جمعتة من أغراض مستعملة تافهة، أو جديدة أقتنيها- بالعادة التي توارثها المهاجرون- في مواسم التخفيض، وأنخرط في تلك الرحلة الأسطورية التي يقطعها المغاربة سنويا عائدين إلى بلدهم، قادمين من بلدان الشمال الأوروبي، قاطعين بسياراتهم مسافات قيامية وعابرين الجحيم الإسباني بحرارته ولصوصه ومقالبه.. وصولا إلى طنجة أو الناضور... المرأة صاحبة الكلب الكانيش، كانت تتمنى أن تتوج أعيادها بالعثور على رجل/ عشيق كي تتمكن من التخلص من كلبها. كانت قد ملت الاستيقاظ باكرا لتطوف به في الأزقة المجاورة، ولتقوده بعد ذلك إلى تلك القطعة الأرضية المتربة من الحديقة العمومية القريبة كي يتبول ويتغوط، ثم يروض قوائمه على دفن برازه متذكرا واحدة من عادات الكلاب الأصيلة.. قد يكون العشيق متطلبا، لكنه لن يكون متعِباً ككلب. بروكسيل مدينة سرد بامتياز (للمدينة علاقة سيئة مع الشعر منذ أن أطلق فيرلين النار على رامبو في أحد فنادقها في حميا علاقة مشبوهة ومضطربة كانت تجمعهما)، نص سردي لا ينتهي، لها إيقاعها الخاص، وهي لا تحفل كثيرا باللغة، إذ لا وقت لديها لانتقاء الكلمات وسط هذا الكم الهائل من الألسن والألوان والثقافات المختلفة التي تعيش جنوب خاصرتها. ولذلك فإن الثلج ينزل - في الغالب - كضيف مفاجئ وغير منتظر في ساعات متأخرة من الليل أو في ساعات الصباح الأولى، فيغطي كل شيء محوّلا دفة السرد في اتجاهات لا يمكن حدسها، أو يحدث أن تطل الشمس من خلل عصف عظيم، فرحانة مثل تفصيل دقيق وحاسم في فصل من رواية. بالأمس وهم يتحدثون في التلفزيون عن الطقس البارد الذي باغث المدينة، رأيت «جيمس» هذا المتشرد العنيد الذي طالما التقيته في الجوار.. في ساحة السان جيل أو محطة القطار في ميدي. يقضي «جيمس» أيامه ولياليه في الشارع، لا يحب السكن القار.. وهو يشبه في شكله وسلوكه الأمريكي «بوكوفسكي» لولا أن لحيته تشبه كثيرا لحية «هيمينغواي». «جيمس» يتحدث دائما ببطء يجعلك تشعر أن لسانه يزن أطنانا، صوته دائما حاد وقوي، ورغم أن الكلمات تتدافع إلى فمه بشكل سريع وغريزي، فإنه لا يعيرها اهتماما.. يستمر في تهجيتها بتثاقل ولامبالاة كبيرين. «جيمس» متشرد عنيد، يهرب دائما من كل الملاجئ التي تقوده إليها فرق الرعاية الاجتماعية خشية أن يفتك به البرد القارس، ولكنه دائما يبدع طرقا للفرار. بالأمس رأيته في التلفزيون، في فقرة من نشرة الأخبار، وهم يحاولون إقناعه بالعودة إلى الملجأ بعدما ضبطوه متسللا بالوزرة البيضاء التي ألبسوه إياها هناك، «جيمس» ليس عنيفا تجاه الآخرين وليس عدوانيا بالمرة ، وليست له أفكار سيئة عن المهاجرين الأجانب الذين يملؤون الأسواق، يمارسون مهنا حقيرة ويقطنون في أحياء مهملة!! وله أفكار محترمة عن الحياة لا تعكس بتاتا صورته ونظرة الناس له...هو فقط قاس تجاه نفسه - بحسب رأي العامة من الناس - بسبب إفراطه في تناول الكحول. كان دائما يحمل كدمات في وجهه وأطرافه، وفي أنحاء مختلفة من جسده ناتجة عن سقوطه المتكرر أو ارتطامه بجدار أو حاجز، وتعرضه لاعتداءات متكررة من مراهقين طائشين. لم يخيب «جيمس» انطباعي عنه، فقد كان جريئا حتى أنه تحدث إلى فرقة الرعاية الاجتماعية بصوت قوي وعينين واسعتين ملقيا لومه الكامل على أكتافهم،.. كان مختلفا تماما عن ذلك اللاجئ ذي اللحية السوداء والشعر الطويل المشدود إلى الخلف..، من شدة القهر لم يستطع الكلام. كانت طبيبة فرقة الرعاية تخاطبه « سيد أدامو.. سيد أدامو».. ولم يكن يجيب، كان مقرفصا ومنكمشا على ذاته، وبعد محاولات عديدة لجعله يتكلم.. ارتمى على يد الطبيبة وجعل يقبلها في حركة مليئة بالتوسل والرجاء قبل أن يجهش بالبكاء..!! لم يتكلم «أدامو»، فقط سمعنا تلك الحشرجة التي ترافق صعود غصة مريرة في الحنجرة متبوعة بزفرات حارقة، ثم رأينا خيوط لعاب تسيل من فمه. أكيد أن الجو قد اغتمّ على مشاهدي التلفزيون، فمقدمة نشرة الأخبار، نفسها، بدا عليها التأثر... ولحسن حظ الجميع، كانت مذيعة النشرة الجوية، بقدها اللاتيني الفارع وعجيزتها المكورة، ومقدمة صدرها العارية.. قادرة على نشر فرح من نوع خاص حولها.. فرح مبهج ومخدر. أعرف أني حين أعود إلى شقتي المعلقة في الطابق الثامن، سيكون المصعد معطلا، وسأضطر لصعود الأدراج لاهثا، ستكون أغراضي مبعثرة كأي عازب كسول. لن أغسل الأواني ولن أطبخ أي أكل، سأكتفي ببعض المعلبات لأطفئ هذا الجوع العاصف الذي استيقظ في أمعائي فجأة.. سأنام برأس منفوخ مثل بالون كبير مليئ بالعويل وبالضجيج وبالضحكات العاتية.. وسأستيقظ في اليوم الموالي على قطط سمينة تطل خلف زجاج النوافد، وعلى ثلج جديد ينزل ندفا ندفا.. وسوف لن يكف عن النزول غير عابئ بما يحدث حواليه من تفاصيل.. ظنا منه أن الأشياء والكائنات كلها ستبقى على حالها، رغم أن مصائرها معلقة على أسباب هشة ومبهمة..