يجوز للفلسطينيين أن ينعتوا ما حاق بهم منتصف ماي 1948 بالنكبة لأنهم انتكبوا بضياع بلدهم وانتكبوا بأنظمة عربية تواطأت على ضياعه، ولكن إن وضعنا ما جرى منذ صدور وعد بلفور 1917 مرورا بقرار التقسيم 1947 حتى نهاية حرب 1948 في سياقه الصحيح كصراع بين مشروع قومي عربي ومشروع صهيوني، فإنه لا ينطبق عليه مصطلح النكبة، لأن النكبة تعني المصيبة أو الحدث الذي لا إرادة لنا في وقوعه ،وان يستعمل العقل السياسي العربي وخصوصا الرسمي مصطلح نكبة فإنما ليهرب من الحقيقة ومن المسؤولية، والحقيقة أن ما جرى هزيمة مدوية ليس فقط للجيوش العربية بل للأنظمة وللمشروع القومي العربي، إنها هزيمة للمشروع العربي أمام المشروع الصهيوني وهما المشروعان اللذان تزامن ظهورهما بداية القرن العشرين. ولأنها هزيمة متعددة الأبعاد ولأن العقل السياسي العربي لم يقم بمراجعات شمولية ذات أهمية ولأن ارتكاسات المشروع القومي التحرري العربي متواصلة حتى اليوم، فإن النكبة الفلسطينية والهزيمة العربية حالة مستمرة فينا إلى اليوم، فنحن اليوم لا نحيي الذكري الثانية والستين لنكبة حدثت في الماضي بل نعيش نكبة وهزيمة مستمرة طوال اثنين وستين عاما. هزيمة 48، وهزيمة 67، فشل التجارب الوحدوية وخصوصا التجربة الوحدوية مصر وسوريا، تداعيات حرب أكتوبر 73، الحرب الأهلية في لبنان وتداعياتها العربية، حربا الخليج الثانية والثالثة، مأزق اتفاقات أوسلو والمبادرة العربية للسلام، تفكك الدولة الوطنية -القطرية- ،ثم جاء الانقسام الفلسطيني وانهيار المشروع الوطني التحرري الفلسطيني كمحصلة ونتيجة طبيعية للهزائم السابقة، فالأنقسام ليس فقط دمار للمشروع الوطني الفلسطيني بل هزيمة أيضا للمشروع القومي التحرري العربي وللنظام السياسي العربي الرسمي، ليس فقط لأنه مشروع «منظمة التحرير الفلسطينية » تأسس بقرار رسمي عربي، بل أيضا لأن انهيار المشروع الوطني يعني عدم قيام دولة فلسطينية وصيرورة إسرائيل أمرا واقعا. صحيح أن انقلابات قامت وأحزاب تأسست ووصلت للسلطة باسم فلسطين وباسم الانتقام لما جرى في حرب 48 ،إلا أن هذه الانظمة (الثورية والقومية )رفعت الشعارات الكبرى حول فلسطين ومعاداة إسرائيل، ليس لبناء استراتيجية عربية قومية لمحاربة إسرائيل - حيث لم يكن في يوم من الايام استراتيجية عربية لمحاربة إسرائيل - بل لسحب البساط من تحت أقدام الجماهير الشعبية العربية وقواها الحية الصادقة في مواقفها وتعاطفها مع الشعب الفلسطيني ولتوظف هذه الأنظمة والاحزاب نكبة ومعاناة الفلسطينيين وفزاعة الخطر الصهيوني لقمع معارضيها السياسيين ولتبرر تفردها بالسلطة. ومع ذلك جرت مراجعات فكرية مهمة على مستوى مثقفين ومراكز دراسات لحدث -النكبة- ومن بعده -النكسة- إلا أنها بقيت في مجال السجال والمراجعات الفكرية ولم تؤثر على الواقع الرسمي العربي في تعامله مع الصراع مع العدو. النظام الرسمي العربي والنخب السياسية هزموا بتخاذلهم الفلسطينيين قبل أن تهزمهم إسرائيل ونكبة الفلسطينيين بالأنظمة العربية لا تقل وطأة من نكبتهم بإسرائيل، بل يمكن القول لو تُرك الفلسطينيون وشأنهم يتصارعون داخل فلسطين دون تدخل رسمي عربي ما كان حالهم وصل إلى ما هم عليه اليوم .خذلت الأنظمة العربية الفلسطينيين خلال ثورة 1936 وخذلتهم: تآمرا أو عجزا في حرب 48 وحتى بعد قيام الثورة الوطنية مع حركة فتح ثم قيام منظمة التحرير تبنى النظام العربي المقاومة لفظا وشعارا وحاربها ممارسة من خلال التضييق عليها والتآمر احيانا. أخترقوا المنظمة تحت شعار البعد القومي والبعد الاممي بتنظيمات كانت اقرب لأذرع لاجهزة المخابرات العربية . صمت النظام الرسمي العربي وحتى القوى والأحزاب السياسية القومية على تصفية الثورة في الأردن 1970 وشاركوا في ضربها في لبنان 1976 ثم صمتوا على ضربها ثم إخراجها من لبنان 1982 وأغلقوا ابواب حدودهم على الجبهتين المصرية والسورية حتى يُحِيلوا بين المقاتلين الفلسطينيين والعرب والاشتباك مع العدو . فكيف يمكن ان تنجح ثورة فلسطينية ،تريد تحرير فلسطين من الاحتلال، في ظل جبهات عربية مغلقة إن لم تكن متآمرة ،وقد قال المفكر الفلسطيني ناجي علوش منذ بداية السبعينيات بأنه لن تنجح ثورة فلسطينية بدون ثورة عربية موازية.حتى عندما قررت حركة فتح بأن هدفها استنهاض الحالة الوطنية لتكون رأس حربة في المعركة العربية لتحرير فلسطين ،تم محاربة الوطنية الفلسطينية من طرف أنظمة واحزاب عربية باسم العروبة والقومية تارة وخوفا على وجود النظام والدولة القُطرية تارة أخرى. لأنها نكبة وهزيمة تمس بنية العقل السياسي العربي وبنية المؤسسة الرسمية العربية، متجاوزة الايديولوجيات والشعارات وتعاقب أنظمة لم تغير إلا الشعارات، فإنها متواصلة ،وكأن التاريخ يعيد نفسه مع تغيير في منطوق الشعارات والأيديولوجيا المؤطرة لها.فمن شعارات قومية ويسارية تدعم الثورة وحركة التحرر الفلسطينية لشعارات إسلامية تدعم الحركات الجهادية وخيار المقاومة ،ومن البعد القومي لفلسطين إلى البعد الإسلامي ،وكما خرجت الجماهير العربية والإسلامية بالملايين سابقا من أجل عدالة القضية تخرج اليوم من أجل القضية بشعارات وايديولوجية جديدة،وكما انتكبنا بأنظمة تشتغل تحت أجندة وطنية وقومية وتقدمية يبدو أننا نتجه نحو نكبة جديدة على يد أنظمة ومحاور عربية وإقليمية تشتغل لصالح أجندة خاصة بها موظفة الدين تارة ومعاناة الشعب الفلسطيني تارة أخرى. بل يمكن القول إن الانقسام المدمر الذي نعيشه هو نتاج التدخل الخارجي حيث تقاطعت مصالح ومخططات صهيونية ترمي للقضاء على الوطنية الفلسطينية ومشروعها التحرري الوطني مع مصالح أطراف إقليمية عربية وإسلامية تريد ان تؤسس وتحمي مشروعها السياسي ولو على انقاض المشروع الوطني الفلسطين . ليس هذا كفرا بالبعد القومي أو الإسلامي، وليس هذا تضخيما للأنوية الفلسطينية ،فنحن على يقين بصعوبة وخطورة فصل فلسطين عن بعديها العربي والإسلامي وعن بعدها الإنساني العالمي، ولكنها دعوة لعقلنة الخطاب والممارسة الفلسطينية،عقلنة تُحررنا من الايديولوجيا ومن المراهنات على الغير ليحل محلنا في قيادة معركة هي معركتنا بالأساس بل أصبح هذا الغير يحدد لنا طبيعة حقوقنا وتخوم مشروعنا السياسي ومرجعيته وهويته، وطنية أم إسلامية. راهنا على بعد ومشروع قومي غير موجود في الواقع الرسمي ثم على بعد ومشروع إسلامي مبهم ومنقسم على نفسه، وكانت النتيجة مزيدا من ضياع حقوقنا وانقسامنا. المطلوب اليوم استنهاض الممكنات الوطنية دون القطع مع البعد القومي والإسلامي الشعبي الذي يتفهم خصوصية الحالة الوطنية الفلسطينية لأنه يعاني كما نعاني من الأنظمة ،ويقبل بأن تكون الوطنية الفلسطينية المتجسدة بمشروع تحرر وطني الإطار الذي يستوعب ويتمثل البعدين القومي والإسلامي الحقيقيين دون ان يُلحق بأي منهما. إن تجاوز النكبة والهزيمة لن يكون إلا من خلال مراجعة جذرية لخطاب النكبة تؤسس لفهم جديد لها بكل مراحلها .صحيح ان نكبتنا متواصلة طوال ستة عقود ولكن صحيح أيضا أن العدو الصهيوني لم يتمكن طوال هذه العقود بالرغم من كل ممارساته الإرهابية أن بلغي وجود الشعب الفلسطيني على ارضه ولا يلغي انتماء نصف الشعب الفلسطيني الذي يعيش في الشتنات لأرضة ،ولم يتمكن من التاثير على عدالة القضية الفلسطينية حيث درجة التاييد العالمي الشعبي والرسمي يتزايد .صحيح أن الانقسام الداخلي والتآمر المتواصل على قضيتنا والإرهاب الصهيوني المتواصل يصعب من حياتنا ويهدد مشروعنا الوطني ويزيد من إحساسنا بالنكبة، إلا أن كل ذلك يزيد من إحساسنا بالانتماء للوطن، لأن الإنتماء للوطن حالة تتجاوز الجغرافيا الأحزاب والنخب المأزومة وتتجاوز حسابات من يختزلون الوطن بحكومة أو بسلطة.