لايمكن للمرء إلا أن يقف هنا مشدوها، مستغربا ومستنكرا في الآن ذاته ! لايمكن لأي كان مر من هنا إلا أن يتوقف مليا عند هذا الفضاء الخلاب بطبيعته والشاذ بوضعه، حيث لايحس فيه المواطن بأدنى انتماء الى المحيط المجاور للمنطقة. إنه دوار يتواجد منذ أزيد من 24 سنة ولايبعد عن مدينة صفرو إلا بكيلمترات قليلة في اتجاه البهاليل حيث ينتمي اليها إداريا. كل شيء هنا يدل على التهميش، فضاء جبلي توقفت عنده حركة التاريخ بعد أن توقفت عند أبوابه وعود سابقة لمسِؤولين ومنتخبين وزعوا الأوهام يمنة ويسرة، فتركوا السكان لحالهم في مواجهة قسوة الطبيعة والاهمال. استقبلونا بالترحاب ، طافوا معنا جميع أرجاء الدير، حملونا رسائل عبارة عن مطالب مشروعة، عشنا معهم جزءا من المعاناة، تساءلنا ونحن نتجول معهم ، هل يعقل أن يعيش أناس غير بعيدين عن مدينة (صفرو) ثاني أقدم بلدية في المغرب، في مثل هذه الأوضاع حيث المعاناة مع التلوث الناتج عن مرور الشاحنات الكبيرة القادمة من وإلى مقالع الرمال والرخام التي تعج بها المنطقة؟ هل يعقل أن تعيش هذه الأسر أصنافا من الحرمان نتيجة مزاجية البعض، حيث الافتقار إلى الطاقة الكهربائية في الألفية الثالثة، الحرمان من الماء الصالح للشرب في وقت يتشدق فيه البعض بسياسة تعميم الوصول إلى الماء بالبوادي المغربية، الحرمان من الحق في قضاء الحاجات الطبيعية فيتحول الخلاء إلى مراحيض مفتوحة، الحرمان من التعليم في زمن تعميم التعليم. إنه المغرب الآخر، المغرب العميق الذي لم تزره كاميرات التلفزة، لأنه يخدش كبرياء البعض ويعري عن واقع مسكوت عنه لسنوات. جريدة الاتحاد الاشتراكي، وفي إطار سلسلتها «المغرب العميق»، تنقل جزءا من معاناة مواطنين مازالوا ينتظرون أن يتم التعامل معهم كمواطنين مغاربة وليسوا كأرقام في المعادلات الانتخابية... في الطريق الدير الواعر كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، توجهنا من مدينة فاس إلى الطريق الوطنية المؤدية إلى ملتقى مدينة البهاليل في اتجاه دوار الدير الواعر والمتواجد في طريق مدار المقالع بالقرب من ضريح سيدي علي بوسرغين. هدوء يلف المكان حيث انصرفت النسوة إلى قضاء أشغالهن المنزلية والرجال كل حيث يشتغل، فليس كل الساكنة هنا تمتهن النشاط الفلاحي. أشجار الزيتون المتناثرة هنا وهناك تكسو عروشها طبقات من الغبار. صادفنا عند مدخل الدوار رجلين كانا قريبين من الطريق أثارهما تواجدنا بالمكان ونحن نأخذ صورا للشاحنات وهي تمر بسرعة كبيرة مخلفة من ورائها سحابة من الغبار الأبيض، لن نبالغ إذا قلنا بأنه يحجب الرؤية ويجعلك تشعر بضيق التنفس . توجهنا نحو الرجلين مستفسرين عن المشاكل التي تعيشها ساكنة الدوار، استرسل السيد المباركي إدريس بن محمد قائلا : «.. نحن نعيش معاناة حقيقية، مايزيد عن 50 عائلة تعيش وضعية كارثية بكل المقاييس، لقد طالبنا المسؤولين بإيجاد حل لمشكل الشاحنات أو القيام على الأقل بتوسيع الطريق وإصلاحها إلا أنه لا حياة لمن تنادي، أصيب أبناؤنا بالحساسية، تضررت فلاحتنا ويتهددنا المرض جراء ليس فقط الغبار، بل أيضا من استهلاك المياه الملوثة، فالعين التي نستعمل مياهها توجد وسط مطرح الأزبال..». هكذا أجمل السيد المباركي ادريس بن محمد مشاكل الدير الواعر وعين الغابة، مشاكل يعيشها السكان منذ سنوات خاضوا على إثرها مجموعة من «المعارك»، فقد قام السكان بتنظيم وقفات احتجاجية وسط الدير وأمام عمالة الاقليم وتم تنظيم مسيرات الى مقر العمالة وتطورت الأمور الى درجة منع الشاحنات من المرور، الأمر الذي دفع السلطات المحلية الى فتح حوارات مع ممثلي السكان فكانت هناك جلسة حوار مع الكاتب العام للعمالة وأخرى مع عامل الإقليم. لاشيء تغير بعد ذلك، نفس الوعود والتبريرات، في كل مرة كان يتم وعدهم بأن الأمور قد اقتربت من الحل وأن المسألة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الحل، التذمر على لسان الجميع هنا بالرغم من التطمينات الرسمية. يعتبر المسؤولون المحليون بأن مشكل الدير في طريقه إلى الحل، فبخصوص إصلاح الطريق وبحسب الجهات الرسمية، فقد تقرر بناء الطريق المؤدية من ملتقى مدينة البهاليل مرورا بدوار الدير الواعر إلى مدار المقالع بالقرب من ضريح سيدي علي بوسرغين، وقد تم إنجاز دراسة المشروع وهو في مرحلة المصادقة عليه بعد أن انتهى مكتب الدراسة من عمله بتنسيق مع المندوبية الإقليمية للتجهيز. وبخصوص تزويد الدوار بالكهرباء، وبحسب مسؤولين من المجلس الجماعي بالبهاليل، فقد سبق للمجلس الإقليمي في الآونة الأخيرة أن خصص اعتمادا ماليا لتجهيز الدوار بالكهرباء، حيث تم تزويد 70بالمئة من السكان بالكهرباء! في حين لم يستطع صاحب الصفقة الأولى أن يجهز ما تبقى من الدوار، وهو الشيء الذي جعل المصالح المختصة تعيد الصفقة التي هي الآن في طور الإنجاز أو قد تكون قد اكتملت! وبخصوص تزويد الدوار بالماء الصالح للشرب، تم التنسيق مع مصلحة الماء بإقليم صفرو من أجل تزويد الدوار بالماء، وهي كذلك في طورالإنجاز. كل شيء هنا في طور الإنجاز ، وطالت مدة هذا الانجاز وطال معه الانتظار لدرجة مل السكان الوضع القائم، فهم يتوقون الى وضع جديد وحياة أفضل. ما بين «الغبرة والهبرة»! تحدث إلينا السيد الجديد محمد قائلا بشكل عفوي : «.. قَهْرَتْنا الغُبرة هَلْكَتنا حتى مرضو وليداتنا، نحتاج الى المال للعلاج، ولا يمكن لنا تحمل المصاريف الباهظة في ظل وضعيتنا هاته، قمنا باحتجاجات على وضعيتنا هاته وَقًٌفْنا الحديد وجا العامل وقالو لينا غادين يحولو الطريق ولكن ماكاين والو ، كايكذبو علينا أوصافي.. احنا ناس مساكين ماقادين لانشكيو لاحتا حاجا ماكايخليوناش انعسو الليل كولو والكاميونات غادين جايين ماحيلتنا للنعاس ماحيلتنا للغبرة..»! الغبرة، كلمة تتردد هنا على كل لسان، كلمة تلخص حجم معاناة السكان لدرجة أنهم اختاروا شعار «الغبرة والهبرة»! للتعبير عن امتعاضهم خلال وقفاتهم الاحتجاجية، مرددين «.. قهرونا بالغبرة وهما كلاو الهبرة!» في دلالة على ما يستخلصه أرباب هذه المقالع من عوائد وأيضا في دلالة على «الإتاوات» المسلمة كرسوم على المرور. تحركنا بين المساكن و النسوة اللائي تحلقن حولنا من كل جانب، كن يحدثننا عن تفاصيل معاناتهن، يسردن علينا معاناتهن المستمرة طوال السنة، حرارة الصيف وكثافة الغبار الذي تخلفه الشاحنات العابرة للدير، ومطر الشتاء وماتخلفه السيول من أوحال بالنظر للطبيعة الجبلية للمنطقة. أزكمتني رائحة كريهة لازمتنا طوال جولتنا، استفسرت عن مصدرها خاصة وأنها كانت تغطي المكان برمته، ففوجئت بالقول بأنها رائحة البزار! فأمام انعدام قنوات الصرف الصحي وانعدام «الحفر العادمة» فإن السكان هنا يقضون حاجتهم الطبيعية في الخلاء! هكذا إذن يقضي المواطنون هنا بالدير الواعر وبعين الغابة، حاجاتهم الطبيعية في الهواء الطلق صيفا وشتاء ، هكذا إذن تعيش عشرات العائلات على بعد كيلمترات قليلة من الحاضرة، تعيش وكأنها تحيا في القرون الوسطى. «..الدراري مراض ماعرفنا آش عندهم وماعرفنا آش نديرو ليهم..» هكذا لخصت السيدة الغصمي حليمة حالة أبنائها، الجميع متذمر هنا، تجمع سكني من دون طرق ولاماء ومن دون كهرباء. وتستمر المعاناة سيدة متقدمة في العمر قدمت في اتجاهنا، تحفظت عن الحديث في الوهلة الأولى لكنها بمجرد ما تأكدت من هويتنا بدأت تعدد لنا مشاكل الدوار بشكل هيستيري:« .. راحنا ضايعين هنايا آولدي، لاما لاضو لا واد حار.. قالوا لنا صلحوا منازلكم وغادي نربطوكم بالشبكة الوطنية للماء والكهرباء، قمنا بالإصلاحات ومازلنا ننتظر..» ووجهت كلامها لجاراتها «ايوا تكلموا حتى نتومايا مالكم ساكتين، 25 عام وحنايا مكرفسين واحد شاعل الضو وواحد شاعل الشمع. قالوا ليك الميزانية سالات ، فين هي هاد الميزانية؟، وراحنا قتلاتنا الغبرة. أنايا كانخلص 10الف ريال في الدوا ديال الحساسية...». تحرك زوجها نحوها في محاولة منه لتهدئتها، وطلب منا مرافقته إلى داخل المنزل لمعاينة التجهيزات المعطلة والاصلاحات التي طلبوا منهم القيام بها قبل ربطهم بالشبكة الوطنية :«..لقد أنفقنا الملايين كما قالوا لنا لإنجاز بناء بمواصفات معينة للتعجيل بربطنا بالكهرباء والماء، لكن لاشيء من ذلك، نعيش معاناة حقيقية بكل مافي الكلمة من معنى..» . تدخلت الزوجة مقاطعة إياه «.. أنظر إلى كل هذا - في إشارة إلى الغرف - نعيش في ظلام دامس والكهرباء على بعد أمتار منا، نعاني في التزود بالماء، فهناك عين وحيدة لكل الدوار صبيبها ضعيف ونحتاج لساعات للتزود بحاجاتنا منه، آجي تشوف بعينيك..». غادرنا المنزل وتوجهنا نحو العين التي يتزود منها الدوار بالماء الصالح للشرب، رافقتنا النساء عبر الممرات، لكل واحدة منهن حكاية خاصة، ويلتقين في التنديد بالتهميش والمعاناة مع الطبيعة والمسؤولين . وصلنا إلى العين كانت المياه تخرج منها بالقطرات، يقول محمد وهو يقوم بملء القنينات: « .. أنا هنا منذ الصباح الباكر ويمكن أن أظل إلى الظهر خلال فصل الصيف، الصبيب ضعيف والعين التي كان من المفترض أن نستسقي منها تم إعدامها من طرف المجلس البلدي، فالمزبلة والمطرح العمومي بمحاذاتها مما يلوث مياهها، نعيش هنا معاناة حقيقية ولاأظن بأنهم يحسون بنا.. لانطلب الكثير، نطلب فقط العيش الكريم عوض التعامل معنا كالبهائم..». لاأظن بأن أحدا يمكن أن يصدق بأن هناك من يقضي حاجاته الطبيعية في الخلاء، لاأحد يمكن أن يتصور بأن هناك تلاميذ يمنعون من ولوج الفصل بدعوى تراكم «الغيس» في أحذيتهم، لاأحد يمكن أن يتصور أن هناك أناسا لايستطيعون النوم ليلا لأن الشاحنات القادمة من وإلى المقالع لاتتوقف عن الاشتغال ليل نهار ولا أحد يمكن أن يتصور بأنه في مغرب الألفية الثالثة هناك من لايزال يعيش الألفية الأولى، زيارتنا أحيت الأمل في قلوبهم، حملونا رسائل يطالبون عبرها بالحق في الحياة والحق في الاحساس بلذة العيش . غادرنا المكان، أصروا على أن نعود لتناول وجبة الغداء معهم، أرادوا إهداءنا الحليب والبيض والخبز البلدي اعتذرنا وفي قلبنا شيء من الألم والتفاؤل، الألم لما شاهدناه بأم أعيننا في هذا الفضاء، المغرب الآخر من الوطن، والتفاؤل لكون الحديث مع السكان كان تلقائيا والكرم كان أيضا تلقائيا ، فمتى سيتم التعامل مع هؤلاء «المنفيين» في بلادهم بالدير الواعر الذين يطمحون إلى أن يكون سهلا غير ممتنع...