بدا وكأننا خارج التاريخ، لامجال للمبالغة هنا ولا مجال للمزايدة... فالحقيقة بادية للعيان. أناس يعيشون أقصى درجات الحصار، عائلات تعاني في صمت. فعلى بعد أقل من 40 كلم من بولمان في اتجاه إقليمصفرو، وبالضبط في المنطقة التابعة لنفوذ الجماعة القروية لعنوصر، تعيش أزيد من 280 أسرة بكل من دوار سبع رواضي ودوار تيجمة أقصى درجات التهميش والحرمان. جريدة «الاتحاد الاشتراكي» انفردت بزيارة هذه الدواوير التي يحتاج للوصول إليها خمس ساعات مشيا على الأقدام -ليس في الأمر مبالغة- عبر مسالك صخرية صعبة للوصول إلى تجمعات توحي للزائر بأنه عاد للحياة في العصور الحجرية. شهادات حية عن معاناة أسر في عهد شعار التنمية البشرية، شهادات صادمة لأناس ولدوا وترعرعوا هنا وأنجبوا أطفالا، تحدثوا الينا بعفوية تامة. أناس يعيشون منذ أزيد من خمسين سنة تحت أكوام من الحجارة تعلوها الأكياس البلاستيكية، يشربون مياه الأمطار، يقتاتون من الشعير المدقوق ويحضرون الخبز منه، انقطعوا عن العالم الخارجي، والبعض منهم لايعرف إلا الله وبوغابة الذي يزورهم مرة كل سنة ليأخذ ضريبة السكن والرعي، خروف عن كل أسرة بحسب ماصرح لنا به مجموعة من السكان، فلم يسبق لأي مسؤول كان، أن زار المنطقة. العودة إلى العصور الحجرية.. في الطريق من إقليمصفرو إلى إقليم بولمان، وعلى بعد أقل من 30كلمترا تعيش أكثر من 280 أسرة أوضاعا استثنائية، تحركنا في اتجاه الدواوير التابعة ترابيا للجماعة القروية لعنوصر بإقليمصفرو، لكنها في حقيقة الأمر تابعة للعصور الحجرية! توغلنا في الجبل، «الطريق » إلى قلب «سبع رواضي وتيجمة» عبارة عن ممرات حجرية منبسطة، تطول الساعات وأنت تخترق هذا الفضاء العذري، لاشيء يوحي بأن في نهاية الطريق هناك أثر للحياة. من السهل التوهان في هذا الفضاء، تحس بالعياء فتتذكر المهمة التي جئت من أجلها تلبية لنداء أسر ملت الانتظار وهي تكابد وتتصارع من أجل البقاء. أول من صادفناهم في هذا الفضاء «الحجري»، كهل في الخمسينيات من عمره، بنيته ضعيفة، شاحب الوجه وتعابير ملامحه تحكي ألف حكاية وحكاية عن معاناة طالت لسنوات وسنوات. طلب منا زيارة مسكنه البسيط والذي هو ليس في الأصل سوى تجويف أكوام أحجار مصطفة وموضوعة الواحدة فوق الأخرى بانتظام. في أقصى المسكن أكوام أفرشة بالية وبالقرب منها أدوات طبخ بدائية، لا وجود لمنافذ للتهوية هنا، ظلام دامس في الداخل، نتساءل، كيف للواحد أن يعيش في مكان كهذا . « أعيش مع والدتي هنا منذ مايقارب الخمسين سنة، وكما ترى بعينيك، حياة كلها حرمان ومعاناة، والدتي فقدت بصرها وعاجزة عن الحركة، أحيانا تقضي أسابيع لاتبارح فراشها، نقتات من لاشيء، صراحة لا أعرف كيف نتدبر أمرنا، (كانعيشو مع لجواد!)..» الماء عملة نادرة.. المشكل الحقيقي هنا بالإضافة إلى المسالك الطرقية هو عدم توفر مياه الشرب، أما غير ذلك فلايهم، «.. قد نضطر إلى أكل أي شيء... أنظر إلى الماء الذي نشربه» فتوجه نحو بركة على مقربة من كوخه حاملا قنينة فارغة، ملأها من مياه الأمطار وشرع في الشرب. يضطر الرجال الأقوياء البنية إلى قطع مسافة 20 كيلمترا للتزود بالماء خلال فصل الصيف وفترات الجفاف. أما خلال الأيام الماطرة، فتقوم الساكنة بشرب مياه الأمطار ليس عبر«المطافي» المتعارف عليها، بل من خلال البرك التي يتجمع فيها الماء. الزائر للمنطقة يصدم لدرجة تهميش هؤلاء البشر الذين انقطعوا عن العالم الخارجي بشكل كامل، لا حديث هنا عن التمدرس ولا عن التغطية الصحية، حيث نسبة الوفيات بين الأطفال والنساء الحوامل تبلغ أعلى المستويات، وأكبر دليل على ذلك المقبرة الجماعية للأطفال هناك. استمر السيد اعزيزي في سرد معاناته لدرجة اقترب من الإجهاش بالبكاء، لم يكن يستجدي الصدقة، بل كان يطالبنا بنقل أوضاعهم إلى العالم الخارجي والذي انعزلوا عنه كرها لا طوعا. تركناه ونظراته لاتفارقنا، توجهنا إلى عمق الفضاء، الطبيعة الصخرية للمنطقة تعيق المشي، فمسافة 16 كيلمترا تحتاج إلى أزيد من خمس ساعات لاجتيازها. بلغ منا العياء درجة كبيرة، توقفنا لأخذ قسط من الراحة أكثر من مرة، وفي منبسط جبلي، صادفنا بركة مائية كبيرة من مخلفات الأمطار المتساقطة الليلة الماضية، إنها احتياطي مائي بامتياز بالنسبة للسكان هنا، على الأقل سيوفر لهم ما سيستهلكونه طيلة أسبوع كامل. الماء هنا عملة نادرة، يعملون على الاقتصاد فيه واذخاره تحسبا للآتي من الأيام، شرب الماء ليس في متناول الجميع، «شريب الماء بالعبار هنا»! تجاوزنا مرتفعا صخريا حادا، فبدت لنا مجموعة من المساكن المتناثرة هنا وهناك، يخيل لك وأنت تقترب منها أنك عدت لسنوات غابرة وموغلة في التاريخ، استقبلتنا اعزيزي رقية بنت اعلي، نفس الحكاية، نفس المعاناة، حدتثنا بلغة أمازيغية اضطررنا للاستعانة بمترجم قالت: «ضعنا هنا، ولدنا وترعرعنا وخلفنا ونحن نعاني لا ماء لا كهرباء لأمور عيش، ماتت عنزاتي السبعة بعد أن انهار عليها جدار الزريبة، نطلب من المسؤولين الالتفات إلى حالنا، نطلب منكم مساعدتنا...». واستمرت في سرد تفاصيل دقيقة عن حياتها: «... لنا الله، لنا الله، لنا الله...». دعتنا بدورها إلى زيارة كوخها الحجري، وجدنا بداخله ابنها المريض والعاجز عن العمل. كان بالفعل منظرا مؤثرا، كفكفت دموعها وهي تحكي عن مرارة العيش: «ليس هناك ماء للشرب، البرد قارس هنا، لا أعرف المدرسة وليس هناك إلا رعي الغنم...»، تصريح للطفلة رقية عزي من الدوار، بلغة أمازيغية وبعفوية تامة أجابت عن تساؤلاتنا. لاوجود هنا للمدارس، لامكان هنا للتربية والتعليم، الأطفال لايعرفون الكتابة ولا القراءة، منذ الصغر يتوجهون للرعي. استحضرت الحديث الدائر عن تعميم التعليم في العالم القروي، أكيد أنهم لم يكونوا يقصدون العالم الحجري ببرامجهم التعليمية. نظرات السكان البريئة تراقبنا أينما حللنا، تحس بالدفء وأنت تلج مساكنهم، إنها حياة طبيعية لكنها صعبة للغاية.