عرف المغرب منذ بداية التسعينيات تسلل خطابات و مفاهيم إلى الحقل السياسي، كانت غاية الفاعلين فيه إنجاز «تطبيع سياسي» بين الدولة والمجتمع يتجاوز مرحلة الاحتقان التي استمرت منذ الستينات وعرفت نقاشا قويا استعملت فيه كل الأساليب والصيغ المشروعة وغير المشروعة لتثبيت تصور معين يستهدف شكل النظام السياسي. تسلل هذه المفاهيم إلى الخطابات السياسية من قبيل التوافق، التراضي، التناوب التوافقي، التناوب الديمقراطي وأخيرا الانتقال الديمقراطي، لم تكن دائما في التنزيل تعني مضمونها الحقيقي، وبالتالي حدثت فجوة بين المفهوم وآليات التنزيل. لكن «التعسف السياسي» استهدف مفهوم الانتقال الديمقراطي وانبرى بعض منظري الأحزاب يمينها ويسارها لإعطاء هذا المفهوم شرحا خاصا لا علاقة له بالأدبيات التاريخية أو الأكاديمية منتصرين في ذلك للأجندة الحزبية و متوسلين «بالضرورة الوطنية» و«الخصوصية المغربية». وانطلاقا من هذه الخلفية كان لابد من استنطاق سؤال الانتقال والوقوف على مداخله الحقيقية وشروطه التاريخية والسياسية. بداية يجب التنبيه إلى أنه ليست هناك نظرية متكاملة حول التحول أو الانتقال الديمقراطي وباستحضار العديد من الكتابات والأبحاث المختصة التي استقرأت هذا الموضوع و أخضعت تجارب عدة دول في أوروبا وأمريكا اللاتينية و إفريقيا لاستخراج العوامل و الشروط المؤثرة في عملية التحول، فإننا نجد أن معظم هذه الأبحاث لم تصل إلى وصفة جاهزة تخص مفهوم الانتقال الذي يمكن تعريفه بأنه «مسلسل يتم العبور فيه من نظام سياسي مغلق مقصور على النخب الحاكمة و لا يسمح بالمشاركة السياسية أو يقيدها، إلى نظام سياسي مفتوح يتيح المشاركة للمواطنين في اتخاذ القرار ويسمح بتداول السلطة». الأسئلة التي يمكن أن تطرح في هذا الصدد ..هي حول هذه المرحلة الفاصلة بين نظام غير ديمقراطي ونظام ديمقراطي .. هل العوامل المؤثرة و المفسرة لهذه العملية يمكن أن تكون اقتصادية ؟ اجتماعية أم سياسية؟ وأخيرا ما هي الشروط المحددة للعبور إلى الضفة الديمقراطية؟. يمكن اختزال شروط الانتقال الديمقراطي أو كما يسميه بعض الباحثين ب «الجيولوجيا السياسية للانتقال «في قيام ثقافة سياسية جديدة لدى السلطة والمعارضة تسمح ببناء وعي جديد بالمجال السياسي وبعلاقات السلطة داخل المجتمع أو كما فسرها الأستاذ عبد الإله بلقزيز بالثقافة التي تُحِل النزعة النسبية في وعي السياسة و المجال السياسي محل النزعة الشمولية وتُحل التوافق و التعاقد و التنازل المتبادل محل قواعد التسلط و الاحتكار والإلغاء. فيما يذهب الأستاذ محمد الطوزي في مقاربته لشروط التحول أو الانتقال إلى الحديث عن إرساء ثقافة سياسية جديدة قائمة في عمقها على توافق السلطة والمعارضة لا يمكن تصريفه من الناحية العملية سوى بتدبير إجراءين اثنين .. ميثاق سياسي يتم بين مجموعة من الفاعلين ينزع نحو تحديد القواعد المتحكمة في ممارسة السلطة على أساس ضمان المصالح المتبادلة والحيوية لكل طرف ويتم ترجمة هذا الميثاق في الواقع السياسي عبر وقف الاصطدام المباشر بين السلطة والمعارضة بغية تحقيق الاستقرار وترشيد عملية الصراع و إعادة بناء مجتمع دمره قمع السلطة، ويضيف الطوزي أن هذا النوع من الهدنة السياسية لا يمكن تحقيقه إلا عبر صفقة سياسية تاريخية تؤسس لعملية الانتقال. والهدف من وراء هذا، دمقرطة المجال السياسي و تصحيح بنية النظام القائم ليس من مدخل ثوري صدامي و لكن من مدخل التوافق المؤسس على حوار وطني صريح يعيد صياغة مصادر شرعية السلطة على نقيض المصادر غير الشرعية (عصبوية، توتاليتارية، أوتوقراطية) للوصول إلى الشرعية الديمقراطية الدستورية المستمدة من التوافق الوطني العام . و إصلاح دستوري متفاوض حوله.. يستعيد آليات المحاسبة للحكومة و خضوع الحكام لهذه المحاسبة وفق قواعد و شروط لا يملكون تغييرها متى شاؤوا، وبهذا نكون أمام دولة القانون التي تحمي الحقوق الخاصة ضد السلطة التقديرية للدولة و نكون أيضا أمام تعاقد سياسي بين الفاعلين الأساسيين من خلال وثيقة دستورية يحصل فيها إجماع سياسي وطني . و هنا لا يمكن أن نتحدث عن عملة سياسية بوجهين، السلطة المقيدة بروح الدستور و الخاضعة للرقابة الشعبية و لسمو القانون على الجميع، ليس فيها سوى هذا الشرح، و لا يمكن إلصاق «الخصوصية» بهذا الكلام.. سيادة القانون، فصل السلط ، ضمان الحقوق ، تداول السلطة .. مفاهيم كونية و هي أساس أي انتقال ديمقراطي، بالعلم.. بالتحليل التاريخي.. بالدارجة المغربية.. هذه هي شروط الانتقال الديمقراطي، وهذه هي مداخله . السؤال هل وقع في المغرب انتقال ديمقراطي أم انفتاح سياسي انطلاقا من هذا التأصيل السابق؟.. الانتقال يقف على ثلاثة مرتكزات .. دمقرطة الدولة ، دمقرطة المجتمع ، محيط جهوي ديمقراطي مساعد، و يمكن إضافة وجود طبقة متوسطة قوية مؤمنة بالتغيير بحكم طبيعتها غير المغامرة ، أو التوفر على شخصية كاريزمية تقود الانتقال كما حدث ذات مرحلة بإسبانيا و جنوب إفريقيا . الكثير من الباحثين المعروفين برصانتهم العلمية و عمقهم التحليلي لم يجازفوا باستعمال مفهوم «الانتقال» في الحالة المغربية و استعمل بعضهم مفهوم «َإضفاء الطابع الليبرالي» ما دام أن الأمر لا يعدو أن يكون مسلسلا يقوم على تفعيل بعض الحقوق التي تحمي من التصرفات الاعتباطية و غير القانونية للدولة أو لبعض الأطراف ، أي أن السلطة تقرر الحد من شيخوخة النخبة عبر تنظيم أشكال للتداول المُراقَب. لهذه الأسباب مجتمعة .. استدعت جريدة الاتحاد الاشتراكي أسئلة الانتقال الديمقراطي في تقاطعاتها العلمية و السياسية و التاريخية للحسم مع نقاش يبدو مغلوطا في المنطلقات، و ما انطلق مغلوطا لن ينتهي صحيحا.. و تلك أسباب نزول هذا الملف السياسي.