عرفت مدينة الجديدة خلال العقد الأخير من القرن الماضي توافد العديد من الأسر من مختلف المناطق والجهات، بحثا عن حلم يمثل الخلاص لها ولأبنائها لتحسين ظروف العيش، مما أدى إلى ارتفاع نسبة السكان ومعه تكاليف الحياة، لكن سرعان ما تبدد الحلم بسبب انعدام فرص الشغل، ومع تدهور الوضع الإقتصادي تدهورت الأوضاع الاجتماعية، وانهارت كل العلاقات، ومنها الإنسانية التي كان أساسها التكافل الاجتماعي والتآزر. وأمام الظروف الصعبة التي تعيشها المدينة منذ مدة، عرفت الجديد ة تحولا على مستوى احتراف الشغل، حيث فرض على النساء ممارسة بعض الأعمال لم يكن حتى التفكير فيها مباحا، فأحرى ممارستها، وهي الأعمال التي تتم في ظروف قاسية ولساعات طويلة، تشمل الليل في كثير من الأحيان، وبأجور هزيلة. كم هي أليمة تلك الصور التي صادفناها أثناء اشتغالنا على هذا التحقيق، كم هي مؤلمة تلك التصريحات التي تبين مدى التمييز الواضح بين المراة والرجل في الشغل.... المراة التي تقبل كل الإهانات للمحافظة على أبنائها أو أسرتها، وأول الإهانات حرمانها من دفء أسرتها ليلا، لتظل يقظة طول الليل بحانة تسقي السكارى، أو تسهر على راحة مقامرين بكل شيئ، الذين يُسمعونها كل شيئ، بما فيه الكلام الساقط.. أو في زاوية مطعم تنظف الأواني، أو تكنس أرضية محل تجاري أو مقهى... أو تحرس باب مراحيض خاصة، تكون فيها عرضة لكل أنواع الإستفزاز المادي والمعنوي. ساحة أحفير القريبة من الحي البرتغالي هي أول محطة في هذا الروبرتاج، فمن هنا تنطلق ثلاث حافلات إلى المنطقة الصناعية بالجديدة، حيث تتمركز الوحدات الصناعية التي تقبل على تشغيل النساء، أولا لصبرهن، ثانيا لقبولهن بالأجر الزهيد، ثالثا لتحملهن العمل ليلا ونهارا ودون شروط إضافة، إلى أشياء أخرى. ليلى شابة لم تتجاوز الثلاثين، تعمل منذ أكثر من تسع سنوات بوحدة صناعية متخصصة في صناعة الحصير البلاستيكي، أكدت لنا أنه منذ أزيد من ثلاثة أشهر، خُيرت ما بين العمل الليلي أو مغاردة المعمل، وأمام ظروفها المادية، حيث إنها الوحيدة المعيلة لأسرتها، وأمام انعدام فرص الشغل، فإنها رضخت لشروط الباطرون، مؤكدة أنه في غياب التنظيمات النقابية والإطارات الجمعوية، وغدم تطبيق النصوص القانونية، وغياب مراقبة ظروف الشغل، تبقى دار لقمان على حالها رغم النداءات. حالة أخرى تتعلق بالسيدة فاطمة في سنها الخمسين، منظفة بإحدى المؤسسات الإنتاجية، وهي الأرملة والمعيلة الوحيدة لأسرة تتألف من أربعة أفراد، تعتبر نفسها محظوظة لأنها تمكنت من تأمين هذا العمل، الذي أخد الكثير من صحتها، حتى أصبحت لاتقوى على القيام بأعباء البيت والاعتناء بأبنائها، إضافة إلى نظرة الجيران والأصدقاء والأقارب لعمل المرأة ليلا، وخاصة المطلقة أو الأرملة، لكن، تؤكد أنها فضلت العمل ليلا على التسول. لم يحدد المشرع المغربي الشروط التي يمكن أن تشتغل فيها المرأة ليلا، ولم يصل حد المنع كما في بعض التشريعات الأوروبية، بل إن المشرع المغربي قام بتنظيم مواد تحدد الشروط التي تجيز للمشغل أن يشغل العاملات ليلا، ومن بينها المادة 172 من مدونة الشغل، التي تؤكد على تشغيل النساء مع الأخذ بعين الاعتبار وضعهن الصحي والاجتماعي في أي عمل ليلي دون تحدي. كما أن المادتين 175و 176 من المدونة تبيحان للباطرونا تعويض ماضاع من أيام الشغل، شرط أن يشعر مسبقا بذلك العون المكلف بالتفتيش لدى دائرة مفتشية الشغل، لكن أمام غياب الدورالحقيقي لمفتش الشغل وانتشار بعض السلوكات الفاسدة بهذا الجهاز، يترك المجال للباطرونا من أجل جعل العمل الليلي عند النساء إلزاميا. أتبثت جل الدراسات العلمية والطبية التي تم إجراؤها على عمال الليل سواء الرجال أو النساء، خاصة النساء، أنهن معرضات للأصابة بعدة أمراض من بينها مرض القلب، ذلك أن القلب لايستجيب للعمل الجاد ليلا كما النهار، إذ يكون في حاجة إلى التباطؤ الذي صمم من أجله ليلا. وأفادت دراسات أخرى أن العمل بالليل له مخاطر صحية أخرى تهدد حياة المرأة العاملة، كالإحساس بالتعب والقلق في النوم، والإصابة بأمراض القلب والضغط النفسي والإجهاد والمعاناة من الأرق أو قلة النوم، كما أفادت دراسة حديثة احتمال الإصابة بسرطان الثدي عند النساء العاملات ليلا، فالتعرض للضوء بشكل مستمر أثناء الليل يؤدي إلى نقص في إفراز هرمون لايتم إفرازه إلا في الظلام، خاصة عند النوم، ومهمته تكمن في تقوية جهاز المناعة وحماية خلايا الجسم والأنسجة من السرطان. كما أن العمل في ساعات الليل يؤدي إلى ارتفاع خطر إجهاض المرأة الحامل بنسبة %85 ، كما أنه جراء العمل في الليل فإن نسبة ولادة طفل ميت ترتفع بمعدل 60 %. والتفسير العلمي لعملية الإجهاض أن عمل المرأة الحامل في الليل أحيانا وفي النهار أحيانا أخرى يعمل على إرباك التوقيت البيولوجي للمرأة الحامل، وبالتالي يؤدي إلى إرتفاع خطر الإجهاض.