وعليه، فالحاجة إلى إعادة بناء أصالتنا معرفيا أصبحت شأنا ثقافيا يجب أن يحظى بالأولوية، ويجب أن يبدأ باعتراف الجميع أن الدين ملك مجتمعي وأن علاقة الإنسان بعقيدته يجب أن تنبني على قناعات فكرية تساهم في دعم الهوية المغربية. ما يحتاجه الشباب والأطفال لا ينحصر على الحفظ التقليدي، بل في اكتساب المناهج والتمكن من اللغات. فالتفكير في الدين، كواجب أملته العلاقة بين الخالق والمخلوق، لا تحتاج إلى وصاية يمارسها الإنسان على أخيه الإنسان، بل تحتاج إلى تربية وتعليم رجال المستقبل على التفكير والنقد البناء وتحمل المسؤولية بشكل يستجيب لقناعاتهم العقائدية. فالإنسان خلقه الله ليصنع التاريخ وليس ليستعبد من طرف الآخرين من ذويه. إنه السبيل الوحيد في اعتقادي لتفادي استغلال الدين لخدمة مصالح فئوية ضيقة ولجعل التراث في خدمة الحاضر والمستقبل. وفي هذا السياق، قال الجابري في نفس الكتاب:«.. ونحن الذين نعيش مرحلة دقيقة من تاريخنا، مرحلة التحول المصحوب باهتزاز، لن نستطيع تثبيت كياننا وبناء مستقبلنا إلا إذا عالجنا العلاقة بين تراثنا وثقافة العصر معالجة فاعلة، لا انفعالية، أساسها نظرة جدلية واعية، ومن هنا ضرورة إعادة «قراءة» التراث والفكر المعاصر برؤية جديدة، رؤية شمولية، جدلية، تاريخية، لا تقتل الخاص في العلم، ولا تتقوقع في الخاص على حساب العلم.» أما بخصوص تثبيت التقدمية والحداثة من خلال الدعوات الآنية لجمع شتات العائلة اليسارية، فأعتقد، بنفس المنطق المعبر عنه أعلاه بشأن الأصالة والمعاصرة، أنه حان الوقت لتجاوز الخلافات الجانبية والتشبث بجوهر القضايا السياسية. لن ينفعنا ضياع الوقت في تصنيف فكرنا القديم والحديث إلى اتجاهات «مثالية» وأخرى «مادية»، وأخرى «حكومية»، وأخرى «راديكالية»، بدعوى إخضاع المتغيرات إلى الثوابت التي تحكمها. فالمتغيرات الاجتماعية والسياسية بالمغرب ليست خاضعة لتأثيرات التيارات اليسارية المشاركة في الحكم، ونتائجها السلبية ليست من مسؤوليتها، بل هناك تأثيرات قوية أخرى منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي بما في ذلك طبيعة الخلافات التي تميز الأسرة اليسارية. فالموضوعية تقتضي التكتل بأي ثمن حول محاور أهداف معينة وضرورية لتأهيل المشهد السياسي، محاور نستحضر فيها بمنهج بنيوي الماضي (التاريخ)، والحاضر، والمستقبل. وفي هذه النقطة بالذات، أعجبت بما قاله الجابري في نفس الكتاب :«إن النظرة البنيوية، باهتماماتها بالكل أكثر من اهتمامها بالأجزاء، وبنظرتها إلى الأجزاء في إطار الكل الذي تنتمي إليه ضرورية لاكتساب رؤية أشمل وأعمق، ولكنها وحدها لا تكفي، بل لابد من المزاوجة بينهما وبين النظرة التاريخية، النظرة التي تتبع الصيرورة وتعمل جاهدة على ربطها بالواقع لاكتشاف العوامل الفاعلة فيها الموجهة لها». ونختم هذا المقال بما قاله نفس الكاتب في نفس الكتاب بشأن الأصالة والمعاصرة:« إن الأصالة - مثل المعاصرة - لا تدل على شيء، فهي ليست ذاتا، ولا واقعا، إنها صفة أو سمة لكل عمل يدوي أو فكري يبرز فيه جانب الإبداع بشكل من الأشكال... والأصيل بعد ذلك لا يكون أصيلا إلا إذا كان ذا دلالة في الحاضر. والجوانب الأصيلة في أية ثقافة، هي تلك التي نستطيع أن نتبين فيها، ليس فقط التعبير القوي المبدع عن بعض معطيات الماضي، بل أيضا التي تستطيع أن توحي لنا بنوع من التعبير جديد على معطيات الحاضر. الثقافة الأصيلة هي التي يجد فيها الحاضر مكانا فيما تحكيه عن الماضي، دون أن تحجب آفاق المستقبل. إنها تساعد على تأسيس الحاضر في اتجاه المستقبل، لا اتجاه الماضي... وبالمثل، فالفكر العالمي المعاصر ليس كله «معاصرا» بالنسبة لنا. فالمعاصرة بالنسبة لنا يجب أن تتحدد، لا بالزمان، بل بالتعاطف والتواصل. هو معاصر لنا ما يمكن أن يساعدنا على حل مشاكلنا أو على اكتساب رؤية واعية صحيحة للقضايا التي تواجهنا إقليميا وعربيا ودوليا».