من الخبراء الجزائريين من يقر بكون إبرام اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي كان خطأً، إلا أنهم يدعون إلى عدم معالجة الخطأ بخطأ أكبر منه، ويرون أن أكبر خطأ يمكن أن يرتكب في ظل الظرفية الراهنة هو التراجع عن اتفاقية الشراكة. انطلقت يوم أمس بالجزائر زيارة العمل التي يقوم بها وفد من الاتحاد الأوربي للجزائر بهدف التعمق في العلاقات الثنائية وبحث إمكانية التوفيق بين مطلب الجزائر الرامي إلى الرقي بعلاقات الشراكة إلى مستوى أعلى وإعادة النظر في نوعية التعامل مع المواطنين الجزائريين الراغبين في الحصول على تأشيرة الدخول إلى الأراضي الأوربية، وبين الموقف الأوربي القائم بشكل خاص على تقوية العلاقات في مجال الطاقة وفي مجال محاربة الهجرة السرية. من الواضح أن الجزائر تعمل جاهدة على أن ترقى بعلاقاتها مع الاتحاد الأوربي إلى مستوى مماثل أو يقارب نوعية العلاقات التي بلغها المغرب، غير أن ما تسعى إليه الجزائر وبين المعطيات المتحكمة في قرارات الظرفية الراهنة أكبر من أن تخضع لرغبات أو طموحات، وأكبر من أن تتأثر بالنجاعة الديبلوماسية في الدفاع عن الملفات التي تحظى بالأولوية في توجهات الحكومة الجزائرية. ومن الواضح كذلك أن البعثة الأوربية التي يرأسها طوماس دوبلا ديل مورال مدير منطقة الشرق الأدنى والأوسط وجنوب حوض البحر الأبيض المتوسط في الإدارة العامة للعلاقات الخارجية وتتكون من 12 موظفاً متخصصاً في مختلف القطاعات، ستبحث مع المسؤولين الجزائريين مختلف المواضيع التي تشغل بال الطرفين، ومهما كانت طبيعة الخلافات، فإن المصالح الحيوية لكلا الطرفين تفرض تذليل الصعاب وتوطيد علاقات التعاون في كافة المجالات. وبالنسبة للجزائر، فإن الاقتصاد الجزائري تضرر من اتفاقية الشراكة أكثر مما استفاد منها، وهذه الاتفاقية تخدم بالمقام الأول المصالح الأوربية، ومن هذا المنطلق ترى بعض الأوساط الجزائرية أن الجزائر سارعت في التوقيع على اتفاق الشراكة قبل استكمال سلسلة الإصلاحات التي من شأنها تأهيل الاقتصاد الوطني قبل فتح المجال أمام المنافسة، سيما مع الإتحاد الأوروبي، وترى نفس الأوساط أن الواردات من الاتحاد الأوربي تزايدت بشكل ملحوظ عقب إبرام الاتفاقية، بينما الصادرات لم ترتفع إلا بنسبة ضعيفة، لأن عدم تأهيل الاقتصاد الوطني جعل جل السلع الجزائرية لا تتوفر على معايير الجودة التي تسمح لها بولوج الأسواق الأوربية، وحتى بالنسبة للاستثمارات الأوربية التي راهن الجزائريون على استقطابها مباشرة بعد إبرام اتفاقية الشراكة تبين أنها لم تكن في الموعد وتم تعويضها بإغراق السوق بالمنتوجات المستوردة التي أضرت بالعديد من القطاعات الجزائرية وعمقت إشكالية البطالة وعجز الميزان التجاري. رغم أن من الخبراء الجزائريين من يقر بكون إبرام اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي كان خطأً، إلا أنهم يدعون إلى عدم معالجة الخطأ بخطأ أكبر منه ويرون أن أكبر خطأ يمكن أن يرتكب في ظل الظرفية الراهنة هو التراجع عن اتفاقية الشراكة، وإذا كان هذا الموقف يناسب إلى حد ما ما يصبو إليه الأوربيون إلا أنه يضع السلطات الجزائرية أمام خيارات صعبة خاصة أن الاتحاد الأوربي الذي يسعى في نفس الوقت إلى خدمة مصالح المجموعة التي يمثلها وإلى خدمة المصالح الخاصة بكل دولة من الدول الأعضاء تصعب عليه الاستجابة لمطالب لا تتماشى مع سياسة الاتحاد الأوربي. وبصفة عامة يمكن حصر أهم العقبات التي تحول دون استجابة الاتحاد الأوربي للمطالب الجزائرية في نقطتين أساسيتين: الأولى تكتسي طابعاً اقتصادياً من أبرز عناصرها الإيجابية الحاجة الأوربية الماسة للطاقة الجزائرية ومن أبرز سلبياتها غياب التنوع في النشاط الاقتصادي الجزائري واعتماده الشبه الكلي على موارد المحروقات، فأمام تقلبات الأسواق الدولية للبترول والتوجهات العالمية نحو إنتاج الطاقة البديلة لم تعد الطاقة الأحفورية توفر الضمانة الكافية للوفاء بكل الالتزامات المصادق عليها. أما الثانية فتكتسي طابعاً سياسياً نابعاً من جهة من كون الجزائر كانت تراهن على أن تخرجها اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي من العزلة ، وعلى ضوء ذلك فإن قرارها كان سياسياً أكثر منه اقتصادياً، وهذا الهاجس لا يزال قائماً لأن التراجع عن الاتفاق سوف لن يزيدها إلا عزلة خاصة أنها مصنفة في خانة الدول التي يتخذ منها الإرهابيون مقراً لتقوية تنظيماتهم والإعداد لعمليات إرهابية في مناطق مختلفة من العالم، ومن هنا يبرز الخلاف القوي القائم حول نظام تأشيرة الدخول للأراضي الأوربية. كل هذه المؤشرات تقوي الأطروحات التي ترى بأن زيارة البعثة الأوربية إلى الجزائر ليست مجرد زيارة تقنية وإنما هي محطة حاسمة في رسم طبيعة العلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوربي، بل هناك من يذهب إلى حد اعتبارها اختباراً يطرح السياسة الجزائرية أمام المحك ما دام الخيار بين تجميد الاتفاقية وبين التراجع عن بعض بنودها لن يجدي في تحقيق تحسن سياسي أو اقتصادي. الصعوبات التي تواجهها الجزائر في الظرفية الراهنة، منها ما هو متعلق بما تسميه ب «المعاملة المشينة» التي يتعرض لها الجزائريون الراغبون في الحصول على تأشيرة « شنغن» ومنها ما هو متعلق بالوضع الاقتصادي الداخلي حيث يسود الغموض حول الأسباب التي كانت وراء إقرار قانون يحافظ على مكانة الدولة في الاقتصاد رغم أن الخيار الرسمي للدولة هو الاستمرار في نهج سياسة التحرير الاقتصادي بينما يحتاج الخيار الجزائري إلى سند قوي يقنع الأوربيين بالعدول عن خياراتهم في مجال إعادة الاعتبار للمواطن الجزائري ، يبرز خيار القضاء على الخلايا الإرهابية العاملة فوق التراب الجزائري كأحسن خيار، لكن هذا الخيار ليس بالأمر الهين، ولن يتحقق أبداً بالاقتصار على الجوانب التقنية في مجال مكافحة الإرهاب حتى ولو توصلت الجزائر بالمزيد من المساعدات الأمريكية والأوربية. وبينما يحتاج الجزائريون إلى المضي قدماً بسياسة الانفتاح الاقتصادي على العالم الخارجي، يواجه المقاولون الجزائريون مخاطر الإفلاس بفعل التنافسية غير المتكافئة مع السلع المستوردة إن الصعوبات التي تواجه الجزائر لن تحل في إطار نظرة ظرفية أو ثنائية، ولكنها تحل في إطار نظرة شمولية تستحضر مختلف التحولات التي يعرفها العالم، نظرة تخرج الجزائر من عزلتها وتذمجها في محيطها الجيوسياسي الطبيعي، فإذا كانت معاداة المغرب قد أساءت للجزائر في المحافل الدولية وعرضت المواطنين الجزائريين إلى معاملات مهينة، فإن اجتثاث الداء يمر عبر استكمال وحدة المغرب العربي وفتح الحدود البرية مع المغرب، فبذل استمرار كل دولة من دول المغرب العربي في التفاوض مع الاتحاد الأوربي بشكل انفرادي، فإن الخيار الذي يمكن الجزائر من الخروج منتصرة من المحك الذي توجد فيه الآن هو خيار الوحدة المغاربية، فإذا ما تحقق هذا الشرط فإن الاتحاد الأوربي نفسه سيجد نفسه مضطراً إلى تغيير علاقاته ومعاملاته مع دول المنطقة وستكون الجزائر هي أكبر مستفيد من الوضع الجديد. ففي عالم الانفتاح عالم الخارجي تتلاشى الدول المنعزلة وتتقوى الدول المتكتلة، ولنا في المجموعات المتواجدة في مختلف أنحاء العالم خير دليل على صحة هذا الخيار.