تكاثرت الذباب على خراش فما يدري خراش ما يصيد علمتنا الطائفية أن نُظهر غير ما نُضمر. هذا هو أتيكت الطائفية، هو أسلوب التهذيب الأخلاقي في لبنان. كلنا نُعلن أننا لسنا متعصبين كالآخرين من الطوائف الأخرى، وكلنا نُضمر التعصب وكره الطوائف الأخرى. كلنا نعلن أننا نريد الخير للجميع، وكلنا نضمر الشر للجميع. زال حسّ الخير في لبنان. لا نضمر إلا الشر. قلّة منا من يختار الوقوف خارج طائفته، ومن يفعل ذلك يصاب بالاستبعاد كالعنزة المصابة بالجرب. ليس منا من هو خارج الطائفية. لا شيء خارجها. ما منها أحد بريء. حتى الحجارة تُضمر الحقد الطائفي لبعضها البعض. بالتالي ليس فينا من يستطيع أن يقف أمام الملأ ويقول أنا مواطن. المواطن الذي ينتمي إلى الوطن دون غيره من طوائف وشلل مذهبية وتعصبية كائن غريب في لبنان؛ هو مواطن غير موجود. إذا كان المواطن غير موجود فإن الوطن غير موجود. إذا كان يعاني إمكانية الوجود فإنّ فكرة الدولة هي الغائبة، فكرة الدولة التي ينتظم المجتمع فيها، وتنتظم الحياة فيها؛ فكرة الدولة شعوراً بأمان الحياة وجدوى الحياة. إذا غاب جدوى الحياة يحلّ الموت. يظهر الموت نفسه في الهجرة إلى الخارج. أليس غياب الناس عن الوطن اضمحلالاً لفكرة الوطن والدولة. مطمئنون للازدهار المالي. النظام موجود. يُجبى ويُدفع للمستحقين. تستحق المصارف ديونها. وهذه تدفع على اقساط حسب أوقات معلومة ومبرمجة. أما استحقاقات الموظفين بزيادة الرواتب، واستحقاقات الأجيال بفرص العمل، واستحقاقات المجتمع بخدمات البنى التحتية، واستحقاقات المواطنين بالحد الأدنى من احترام عقولهم، فهذه جميعها غير موجودة. الدولة موجودة لناس وناس، لقلة من المستفيدين دون الآخرين. وهذا يحوّل الدولة إلى نظام للجباية. ويحول النظام إلى أداة للقمع في حال حصلت احتجاجات. نرى الأجهزة الأمنية تخضع لتدريبات يشرف عليها الأميركيون مباشرة وغيرهم من جنود القوى الكبرى، وكلّ ذلك من أجل ضبط المواطنين وإدخالهم تحت راية الحرب على الإرهاب. كل مطالبات المواطنين بالمواطنية وحقوق المعيشة واحترام عقولهم تحتسب أعمالاً إرهابية. في لبنان مال كثير ولا ثروة بيد الناس. المال ودائع في المصارف والبنك المركزي. الناس يهاجرون بسبب البطالة والفقر. ربما تنفجر بهم طائرة وهم في طريقهم إلى المغترب. لا تكفيهم مصائبهم هنا وهناك. من قبل، حتى في سنوات الحرب الأهلية حين كانت البوصلة مفقودة كنا نعتبر أنّ الوطن يجب أن يمتلك حسّ الاتجاه. كنا نعتبر أن البلد يجب ان يتشكل في دولة وأن يعود النظام. عاد النظام وفقدنا فكرة الدولة لأننا فقدنا الإحساس بضرورة عودة حسّ الاتجاه، فقدنا الأمل بأن تتحول الدولة من دولة نظام للقلّة إلى دولة تحتضن الأكثرية والقلة وتعطي الناس معنى للحياة وجدوى للعمل وللإيمان بأن في الدولة والوطن والمجتمع والنظام ما يستحق الموت من أجله دفاعاً عنه. نعيش من يوم ليوم من دون معنى ومن دون مغزى، تذكرنا الطائفية بالدين. نسر بذلك إذ فيه ما يمنحنا بعض المعنى والمغزى، لكنه معنى خارجي ومغزى خارجي؛ لا شيء ينبع من الضمير الداخلي للإنسان في لبنان. بهذه الذهنية لا يستطيع الإنسان في لبنان أن يكون مواطناً، ولا يستطيع البلد أن يصير وطناً، ولا يستطيع النظام، نظام القمع والجباية أن يصير دولة. لا المواطن حقيقة، إذن ليس لبنان حقيقة وليست اللبنانية حقيقة. كلها حقائق افتراضية. حقائق تتم مناقشتها بإسهاب في البرامج الحوارية الليلية. نتابعها بملل شديد، ونفضل أن نحول الشاشة إلى فيلم لمخرج مشهور؛ من حقيقة افتراضية إلى اخرى. هكذا ينسلخ (يُسلخ) المواطن عن واقعه وحقيقته، يصير الواقع وهماً أو مشهداً ويصير المواطن هيكلاً. الهيكل يحوي ما يودع فيه. أصابنا مسّ من العولمة والأصولية؛ تفرح الصهيونية لذلك، فهي قد اخترقتنا من حيث لا ندري. نقاومها على الحدود وهي مقيمة في نفوسنا وفي غرف نومنا وجلوسنا. يتحدثون عن أولوية إزالة الطائفية من النفوس او من النصوص. والاولوية يجب ان تكون لاستعادة حقائق نفوسنا كي تعود إلينا نفوسنا. نحن مواطنون من دون أرواح. لسنا مواطنين. نحن إدارات تحركها سلطة، السلطة تحركها قوى خارجية، القوى الخارجية تضمر ما تُضمر ونحن نُضمر ما نُضمر. ليس بيننا من هو على استعداد لمناقشة القضايا الجدية، بالعكس. نحوّل القضايا الجدية إلى مشهد لا علاقة له بالوقائع. اخيراً شاع مسرح الواقع. صار الواقع مسرحاً، لم يبقِ المسرح للواقع شيئاً. أُدخل إلى لغتنا الراهنة تعبير »دبرس«. »المدبرس« هو المصاب بالاكتئاب. المكتئب هو كل من لا يصدق مسرح الواقع في لبنان، هو كل من يبغي إظهار ما يضمر، وكل من يفكر بعقل بارد، وكل من يناقش القضايا الحقيقية بجدية من دون تعصب أو انحياز. [email protected]