في يوم الأربعاء 9 شتنبر 1981، كان كل شيء عاديا في سجن لعلو بالرباط. فتحت زنازن الحي العصري لفترة ما بعد الظهر، وتوزع السجناء السياسيون وسجناء الحق العام على الساحات المفتوحة للتجول، وبدأ الجميع يعد العدة لقضاء ليل طويل آخر. في الساعة الخامسة دبت حركة متوترة في المؤسسة السجنية. أفرغت بعض الزنازن في الحي العصري، وتعزز طاقم الحراسة، وظهرت في تصرفات الحراس والإداريين علامات حدث استثنائي. ثم بدأ حثنا على الالتحاق بزنازننا قبل الوقت المعتاد، في نفس اللحظة التي تسرب فيها ما يشبه الإشاعة بأن قادة سياسيين كبار قد يكونون في طريقهم إلى السجن. وبعد مناقشات ومماحكات حول الموضوع التحقنا بالزنازن التي تم إقفالها تقريبا في الوقت المعتاد. وكنت والأخ الطيب منشد والأخ رطّال في الزنزانة الأولى يسار مدخل الحي العصري لذلك ظللت ملتصقا بفتحات الهواء الضيقة لبابها الحديدي. وعندما رنت مفاتيح البوابة الكبرى رأيت مصعوقا عبد الرحيم بوعبيد يتقدم موكب الضيوف الجدد، فهتفت في تلك الكوة الصغيرة لإشاعة الخبر، عبد الرحيم بوعبيد، محمد منصور، الحبيب الفرقاني، فضج الحي العصري بالهتاف والتصفيق والضرب على الأبواب الحديدية، لمدة طويلة قبل أن يغرق كل شيء في صمت رهيب. كانت لحظة كثيفة قوية وسريالية، تحدث لي عنها المرحوم عبد الرحيم فيما بعد باقتضابه المعروف كلحظة جد مؤثرة لا تنسى، مضيفا أن الهتاف انطلق في اللحظة التي تذكر فيها، وهو يلج الحي العصري إنه أقام لفترة في الزنزانة الأولى أثناء حبسه في الأربعينات. بالنسبة لنا، كانت ليلة التاسع من شتنبر 1981، أطول ليلة قضيناها في السجن. فبعد لحظات الدهشة الأولى. جاءت الأسئلة المقلقة. ما الذي حصل؟ ما هي الأشياء الخطيرة التي جعلت الحاكمين في المغرب يصلون إلى حد اعتقال عبد الرحيم بوعبيد وسجنه، لم تكن لنا أية إمكانية للإطلاع على معلومة تسعفنا في هذا الليل الطويل فأرخينا العنان لكل التخمينات حتى أكثرها غرابة ولكننا لم نخمن لحظة واحدة أن سجن وطني كبير قاوم الاستعمار، وفاوض على استقلال المغرب، ورجوع محمد الخامس، سيزج به في السجن بسبب القضية الوطنية ! عندما اطلعنا على ذلك في صبيحة اليوم الموالي وقرأنا البيان الذي أصدره المكتب السياسي يوم 5 شتنبر 1981 حول قرارات نيروبي الثاني الصادر عن اللجنة السباعية يوم 25 غشت 1981، بخصوص إجراء الاستفتاء في الصحراء، أصبنا بصدمة قوية. ذلك أننا كنا نقضي في سجن لعلو عقوبة بالسجن لمدة سنة صدرت في حقنا بعد المحاكمة التي تلت أحداث يونيه 1981 . كنا بغض النظر عن المحاكمة الظالمة والاعتقالات العشوائية وتزوير محاضر الشرطة القضائية والإرهاب القمعي الذي تلا الإضراب العام الذي دعت إليه الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، يوم 20 يونيه 1981 مناضلين نعي جيدا أن اعتقالنا وسجننا هو الثمن الذي لابد أن ندفعه مقابل مناهضتنا للسياسات العامة القائمة على الظلم والتبعية ومصادرة الحقوق. نعم كنا ننتمي لجيل الاستقلال، لم نشارك في الحركة الوطنية، ولم نحمل السلاح ضد المستعمر، ولدنا في كنف المغرب المستقل، وفتحنا أعيننا على خيبات الاستقلال، واخترنا أن نتواجه مع الذين صنعوا هذه الخيبات. كانت طريقتنا في الوفاء لجيل الوطنيين الذين سبقونا هو أن نقاسمهم انتفاضتهم ضد تحويل مجرى الاستقلال. ضد تحويل مجرى هذا النهر. لكن اعتقال وطني في منتصف الليل والاستماع إليه في الواحدة صباحا من طرف الشرطة القضائية، واتهامه بالمس بالسلامة الخارجية بمقتضى الفصل 188 من القانون الجنائي، والمس بالأمن العام بمقتضى ظهير كل ما من شأنه لسنة 1935، وهو الظهير الذي ابتكره الاستعمار خصيصا لملاحقة الوطنيين .. والإقدام على كل هذا من طرف المرحوم الحسن الثاني، الملك الذي يعرف حق المعرفة من يكون عبد الرحيم بوعبيد كوطني، أمر طرح على جيلنا أسئلة محرقة. ما معنى أن تكون وطنيا في وضع مثل هذا؟ ما هي الوطنية ؟ ما هي الحدود التي تجعلك في دائرة الوطنية أو خارج هذه الدائرة ؟ ومن الذي يرسم هذه الحدود. هل هي القيم المشتركة ذات العمق الإنساني المتحرر من كل تعصب وكراهية، أم هي منظومة السلط، وأساليب التحكم.؟ من الممكن أن نستطرد في وضع أسئلة كثيرة من هذا القبيل راودتنا تلك الليلة، لكن لنستحضر أولا ما جرى . في اليوم الخامس من شتنبر 1981 أصدر المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بيانا ضمنه تحفظاته وتخوفاته بخصوص مقررات نيروبي 2، ذلك أن توصية اللجنة السباعية المنبثقة عن منظمة الوحدة الإفريقية دعت إلى تأسيس إدارة نيابية في الصحراء وتخويلها كل السلطات لإجراء الاستفتاء، بما في ذلك وضع قوائم الناخبين، ومراقبة الانتخابات وإعلان النتائج. لقد رأى المكتب السياسي، والمرحوم عبد الرحيم بوعبيد تحديدا، أن النيابة تقتضي الفراغ، وأن إبعاد الإدارة المغربية العسكرية والمدنية من جزء من التراب الوطني، وتكليف إدارة نيابية بتدبير الاستفتاء فيه جملة وتفصيلا، هو مخاطرة حقيقية بمصير الصحراء المغربية. وكان هذا الرأي مخالفا تماما للتصريحات والتعليقات التي صدرت في الصحافة الرسمية وشبه الرسمية والتي كانت مغرقة في التفاؤل والاستبشار بهذه المقررات. يقول عبد الرحيم بوعبيد أمام المحكمة ، إن هذه المقررات لا تطرد الإدارة المغربية من التراب الوطني فقط، بل تتكلم من الآن ومسبقا عن الشعب الصحراوي حتى قبل إجراء الاستفتاء ومعرفة ما ستقوله ساكنة الصحراء. كما يوضح أن اللجنة السباعية تذهب إلى أبعد من ذلك فتضع نفسها في موضع المشرع المغربي وتقرر تحديد سن التصويت في 18 سنة، بينما التشريع المغربي كان يحدده آنذاك في 21 سنة. بل وتنصب نفسها كمحكمة، استمعت إلى كل الأطراف، وكان جلالة المغفور له الحسن الثاني هو من بسط بنفسه وجهة النظر المغربية. ثم قررت الفصل في النازلة بمفردها ووفق قناعتها. إنه إذن رأي سياسي في قرار أجنبي كما قال عبد الرحيم بوعبيد أمام المحكمة، وليس رأيا في «نص مقدس»، إنه رأي يعبر عن مخاوف، وعن تحفظات، مقابل رأي آخر لا يرى أية كارثة في الأفق، فأين هو إذن المس بالأمن العام، والمس بالسلامة الخارجية .؟ في الواقع، لكي نفهم هذا التصعيد الغريب الذي جسدته محاكمة عبد الرحيم بوعبيد جراء هذا البيان العادي، والطبيعي في الظروف والملابسات التي كانت تجتازها قضيتنا الوطنية في مطلع الثمانينات. يجب أن نرجع قليلا إلى الوراء. كان الاتحاد في الستينات والسبعينات هو الحزب الوحيد الذي يدعو جهارا إلى إعلان مقاومة مسلحة ضد الاستعمار الإسباني في الصحراء المغربية إما نظاميا أو بواسطة حركة تحرير شعبية. وكان الانخراط القوي لزعيم وطني مثل عبد الرحيم بوعبيد في المعارك السياسية والديبلوماسية التي تلت التوقيع على اتفاقية مدريد واسترجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية، نقطة تحول أساسية في الحياة السياسية المغربية برمتها وليس فقط في القضية الوطنية. ولابد أن نشير في هذا الإطار إلى أن المرحوم عبد الرحيم بوعبيد لم يكتف بالمساهمة في المعارك الديبلوماسية، وفي الحملات الدولية للتعريف بقضيتنا الوطنية، كان منتبها إلى كون القضية تحتاج إلى أفق سياسي في علاقة وطيدة مع البناء الديمقراطي، ذلك أن إعادة إدماج الانفصاليين في النسق الوطني يقتضي وضع إطار استراتيجي لإنهاء الصراع، لذلك لم يلبث أن دعا ومنذ اجتماع اللجنة المركزية للحزب يوم الأحد 4 أبريل 1976 «إلى ضرورة التفكير في إقامة نظام لامركزي ديمقراطي واسع في إقليمنا الصحراوي، نظام يستجيب لخصوصية المنطقة التاريخية والجغرافية والبشرية، ويمكن مواطنينا في الصحراء من المساهمة مساهمة أوسع وأعمق في تسيير إقليمهم إداريا واقتصاديا واجتماعيا. في ضوء هذا الاندفاع الوطني الذي جسده عبد الرحيم بوعبيد من المفيد أن نذكر أن التوجه المحتشم نحو انفراج سياسي وبناء مؤسسات ديمقراطية والذي تزامن مع هذه الفترة، طرح على الوطنيين والتقدميين في بلادنا آنذاك أسئلة أساسية منها: كيف يمكن القيام بمعركة وطنية ناجحة في نظام غير ديمقراطي؟ وكيف يمكن الاستفادة من هذه الوحدة الوطنية حول قضية الصحراء للقيام بمراجعة عميقة لأخطاء الماضي، وذلك بإقامة مؤسسات ديمقراطية حقيقية، وبوضع سياسة اجتماعية ترفع الظلم عن الفئات الشعبية المحرومة المطالبة بتقديم مزيد من التضحيات من أجل الوحدة الترابية؟ كان بعض اليساريين في ذلك الوقت ينتقدون الاتحاد وعبد الرحيم بوعبيد شخصيا، ويسألونه عن المقابل الذي حصده من جراء هذا الانخراط المتحمس في الدفاع عن قضية وطنية ، وذلك لأن أحدا لم يكن يتصور استمرار القهر السياسي على شعب يطلب منه أن يقف سدا منيعا تجاه أعداء وحدته الترابية. كان عبد الرحيم يجيب دائما بأن المقابل هو عودة الصحراء إلى الوطن الأم، لأنها عادت إلى الشعب المغربي كاملا وليس إلى حزب أو هيأة أو جهة دون غيرها. وأن القيام بمسؤوليتنا الوطنية لا يعفينا من مقاومة هذا القهر السياسي. كان واضحا إذن أن منطلق القوى الوطنية والتقدمية هو أن لا وطنية فعالة ومقنعة ومنتجة، بدون ديمقراطية حرة ونزيهة. وكان واضحا أن منطلق النظام آنذاك هو أن القضية الوطنية يجب أن تكون فرصة لتعبئة الشعب خلف النظام، ولو أدى ذلك إلى احتواء الاندفاع الوطني الذي بدأ يكشف التطلعات العميقة نحو الحرية والديمقراطية. كان المنطق السائد في السياسية الرسمية، هو أن نكون صفا مرصوصا وكان رد عبد الرحيم على ذلك كما في تدخل له أمام مجلس النواب سنة 1984 : « صف مرصوص، نعم، ولكنه متحرك» . كانت هذه الجملة تعبيرا صادقا وبديهيا لا يقوم على منطق (اعطني نعطيك)، لا مساومة في الوطنية، ولكن لا مساومة أيضا في الديمقراطية. عندما أصدر المكتب السياسي بيان 5 شتنبر كانت صحافته ممنوعة، وجل أطره القيادية في السجن، ومع ذلك كان ُيطلب منه أن يفوض أمر وطنيته للآخرين. وهذا بالضبط ما رفضه عبد الرحيم بوعبيد، إخلاصا منه لفكرة بسيطة هي أن الوطنية لا تفويض فيها لأحد، إنها تعني أننا جميعا على قدم المساواة، ليس فقط في الوجدان الوطني، ولكن في المسؤولية، وفي تدبير القضايا الوطنية. أثناء أطوار المحاكمة، كان المرء يتساءل أحيانا، هل حقا يحاكم عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه من أجل بيان 5 شتنبر؟ حتى النيابة العامة بدت مضطربة وانتهت إلى نسيان البيان وظهير35 والفصل 188 من القانون الجنائي وكيفت التهمة تكييفا جديدا يتحدث عن «المس بالمقدسات» وعن «النوايا الخلفية» للبيان. وإذن فإن محاكمة الرأي هذه، لم تكن في الحقيقة سوى جواب سياسي على التوجهات السياسية التي كان بوعبيد يدافع عنها والمتعلقة بضرورة جعل القضية الوطنية مسؤولية الجميع، وليس حكرا على طرف سياسي دون الآخر، (سيقترح عبد الرحيم بوعبيد ومن منصة البرلمان سنة 1984 على الملك تكوين جهاز وطني موحد للدفاع عن الوحدة الترابية). والمتعلقة كذلك بضرورة إقامة ديمقراطية حقيقية، وليس واجهة شكلية لاستعمالها في تلميع الأوضاع السياسية للبلاد، والمتعلقة كذلك بمواصلة النضال الاجتماعي والثقافي الذي يقوده الحزب. لأننا لكي نحب وطننا جميعا يجب أن يكون لنا جميعا. في معرض دفاعه عن نفسه وعن رفاقه أمام المحكمة، لم يستبعد عبد الرحيم بوعبيد أن يكون خاطئا. وفي هذا الأمر أكبر تعبير عن الإيمان بحرية الرأي، وعن الاعتقاد بأن الوطنية، حتى الوطنية، بل الوطنية بالذات لا تسمح بإسكات الآخر. فقد صرح عبد الرحيم خلال استنطاقه: «نفضل أن نخطئ في مخاوفنا، على أن نصمت» . تلك إذن، أحد تجليات الوطنية الحديثة : أن ترفض الصمت. أن لا تقبل بجلسات الإخبار البعدي. أن تكون شريكا كاملا ومسؤولا وأن تعطي لنفسك الحق في الجهر برأيك، وفي التعبير عن اختلافك. هل في هذا السلوك ما يفيد التشكك في وطنية الآخرين، أو في صدقهم وإخلاصهم؟ سيلجأ عبد الرحيم بوعبيد إلى بلاغة وحكمة آية قرآنية كريمة وردت في حوار بين إبراهيم وربه لقد تجرأ إبراهيم وطلب من ربه: أرني كيف تحيي الموتى؟ قال الله منكرا أولم تؤمن ؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي. فقدم الله دليلا ماديا لإبراهيم من خلال إحياء أربعة من الطير كما ورد في الآية الكريمة. إذا كانت العلاقة بالله تحتمل هذا «التنازع» فمن باب أولى وأحرى أن تحتملها علاقات الحكم، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنبني على ثقة ميتافيزيقية عمياء، بل على علاقات تكافؤ وحوار وتشارك وتقاسم للمسؤولية. أي على تدبير عقلاني لمجالات الحرية والثقة. بهذا فقط يتحقق «اطمئنان القلوب» أو إذا أردنا ترجمة ذلك إلى لغة العصر، بهذا فقط يترسخ الوجدان الوطني. وتكتمل شروط المواطنة، وشروط الاطمئنان والاستقرار. لقد حاولت استحضار ما جرى في هذه القضية تحديدا، لأنني ألمس في دروسها ما يؤسس لوطنية حديثة في المغرب المعاصر، في تقابل مع الوطنية التقليدية التي دبرت بتضحيات كبيرة وبنزاهة أخلاقية عالية مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال. وطنية حديثة مستوعبة لما كان يسميه الشهيد عمر بنجلون «باستمرار حركة التحرير الشعبية»، ومنفتحة على أسئلة الحاضر والمستقبل. سيكون من الساذج أن نعتبر الدروس والمواعظ، كافية لبناء جيل حديث من الوطنين الجدد، كما سيكون من قبيل المجازفة أن تعتبر التشديد القانوني، أو القسوة الجزائية كافية للحفاظ على وجداننا الوطني بدون منزلقات ولا مخاطر. لقد بنت الوطنية التقليدية قيمها ليس فقط على رفض الاحتلال الأجنبي لكن أيضا على الاعتزاز باللغة والثقافة والإرث الحضاري والمجال الطبيعي كما بنت هذه القيم أيضا على الأمل في المستقبل، وعلى الاعتقاد الراسخ بأن إنهاء الاستعمار يعني استعادة الحرية وإمكانية توظيف هذه الحرية في ضمان كرامة المواطن. وفي نفس النسق، فإن الوطنية الحديثة لابد أن تبني قيمها كذلك على رفض مصادرة الديمقراطية، على رفض الصمت، على رفض الإذعان للأمر الواقع، والتسليم بأن الأمور هي هكذا، ولا يمكن أن تكون غير ذلك. ما معنى أن تكون وطنيا اليوم؟ سؤال يطرحه الحقل السياسي، يطرحه المؤسسون للوطنية المغربية بنوع من القلق، وبنوع من الحسرة، على ما يعتبره الخطاب السائد هبوطًا مريعاً في المشاعر الوطنية. لكن أعتقد أن هناك ضرورة قصوى اليوم لتدشين مرحلة إنصات متبادل. يجب أن نعترف أن هناك شرخا حقيقيا لدى شباب اليوم بين المغرب الذي يتمنونه، والمغرب الذي يحصلون عليه، إنهم لا يجدون أنفسهم بالمعنى الجسدي، وبالمعنى الروحي والوجداني، لا في الحياة السياسية، ولا في المؤسسات المنبثقة عنها، لا في الخطاب السائد، ولا في الصور التي يفترض أن تمثلهم، وما يزيد في تعميق هذا الشرخ أن إمكانات التواصل الحديث، تقدم لهم كل يوم نماذج أجنبية يجدون أنفسهم فيها بسهولة. إن هذه الهوة تراكم كل يوم عجزا خطيرا في الاعتزاز بمن نحن وبما نحن عليه. ولا يمكن أن نطور وجدانا وطنيا متوازنا، لا مكان فيه لتعصب الهوية. ولا للتنكر إلى الذات ، إذا لم نستند إلى حد أدنى من الاعتزاز بالقيم التي ننتجها وبالحقوق التي نتوفر عليها وبالنساء والرجال الذين نعيش معهم. هناك حاجة ماسة ومستعجلة لهذا الإنصات المتبادل لأننا ندرك أن بناء الجسور بين الأجيال، يقتضي أيضا أن يعترف الجيل السابق للجيل اللاحق بحقه في «وطنية مختلفة»، وطنية تلتقط عناصرها الأساسية من الانجاز الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، من المدرسة الوطنية من تحولات المدن والقرى، من القيم الجمالية التي تنتجها السينما والموسيقى والأدب والفنون عموما، من البطولات الرياضية، من الكفاءات العلمية، من الذكاء المشترك، من قدرة المجتمع على تذويب الفوارق والعنف، من تعدد مساحات المتعة والتعايش، من قبول التعدد والاختلاف، أي بجملة واحدة من إمكانات الاندماج التي تمنحها ديمقراطية حديثة، لا تتعرض دوما للبتر والتشويه والإعاقة، ولا تشكل باستمرار أفقا مؤجلا. إذا نحن نجحنا في إقامة هذا الحوار بين الأجيال، فمن الممكن أن نعبر هذه المرحلة «القلقة» التي نعيشها بأكبر ما يمكن من الأمل والثقة في المستقبل.