يعود في هذا اليوم طيف رجل غير عاد في تاريخ المغرب، وفي تاريخ الحركات التقدمية العربية، رجل اسمه عبد الرحيم بوعبيد، الذي خرج من أحياء سلا البسيطة ليدخل حي ... الأحباء الخالدين . رجل وثني الوطنية، قادته وطنيته إلى السجن قبل الاستقلال، كما قادته نفس الوطنية إلى السجن في عهد الاستقلال. واندهش العالم: كيف يجرؤ الحكم في المغرب أن يسجن الرجل الذي قاد مفاوضات استقلاله؟ اندهش الأحرار في العالم لهذا الإرتجاج الذي أصاب التاريخ المعاصر للمغرب: من يحب البلاد يدخل السجن ومن لا يحار لها يرفل في النعيم؟ هو الذي استطاع أن يقول للملك إننا عاريون أمام الدول من الحق عندما قبل المرحوم الحسن الثاني الاستفتاء، «بناء على نصيحة من الأصدقاء». هو الذي رأى أن في قبولنا للإستفتاء ما يشبه صب الماء على طاحونة الأعداء، بعد التشكيك في الحق. وكانت لمحاكمته، كما تنبأ هو شخصيا تاريخ. عبد الرحيم الذي ظل مستقلا في رأيه لا يخشى في حب بلاده سلطة أو جاها، تعرض أيضا للنكسات وللهجمات الحاقدة، بعض الإخوة، منذ أيام النضال المشترك وجدوا في لحمه مادة للنهش وللعض، والبعض الآخر حاربه ليجده بعد فوات الآوان المرجعية الكبيرة في الحاضر، والمرجع الأساسي لمعرفة الواقع، بوعبيد الواقعي النظيف، الذي لا يجلس على أرض الواقع المتسخ أو المشوب بالإنتهازية. عاش بسيطا، ومات بسيطا، ويبعث دوما في كتاب المناضلين بسيطا. رجل السجن، ورغم التنكيل بالإخوة فقد حرر نفسه دائما من الشوائب التي تتركها السياسية في النفس، والعواطف الصغرى التي تتركها الحروب، الكبرى والصغرى في الروح. وهو اليوم مثال للسياسي الذي لا يصافح الشيطان أبدا، ولا يشترك معه المائدة حتى ولو لمع جبل الذهب من وراء المقاعد.. عبد الرحيم الذي صرخ ذات يوم: السياسة أخلاق أيها السادة، بعد أن تنكر الحاكمون لوعودهم، وأطلقوا الرصاصة على الاتحاديين في ذلك اليوم الأغبر من 1973، والرجل مسافر للدفاع عن البلاد..! ومع ذلك لم تقيده أبدا نزوات الثأر أو الانتقام، ولم يجد سببا كافيا لكي يرهن البلد في الأفاق الضيقة للحرب الأهلية. لم يتنكر الرجل لمبادئه ولا لإخوانه، ولم يحب أبدا أن يتنازل عن الواقعية حتى عندما يكون على الطرف الآخر، من يطأ الواقع السياسي بجزمات عسكرية. نكلوا به وبإخوته، ومع ذلك لم يكن يترك للأغلال النفسية أن تقيد نظرته إلى البلاد المفتوحة على كل الإحتمالات. بسيط، وعفيف، ومخلص، ورجل ذو رؤيا. لم يختر، كما ذهب إلى ذلك الكثيرون، جلابيب السلطة، وكانت فارغة ومتوفرة لرجل مثلة قاد مفاوضات الاستقلال، كما خاض بناء الدولة المغربية من جهة اقتصادياتها وآليات ثروتها. لقد صنع الرجل الثروة في البلاد، من خلال كبريات المنشآت، ولم يأخذ منها سوى سقف بسيط في حي مغربي مفتوح للناس والعواصف، المطر والمناضلين.. في وطنيته هناك الكثير من الأساطير العادية، أساطير الحكايات من مدغشقر إلى سان كلو إلى الرباط، رجل بقامة تاريخ البلاد. رد له المغاربة في مثل هذا اليوم، الجميل عندما خرجوا بمئات الآلاف لوداعه، وهو في نعشه البسيط مسجى.. وراية البلاد تصحبه إلى آخر الدنيا.. لم يكن بوعبيد سوى عصارة الإنسية المغربية في أبهى تجلياتها، كانت الوطنية ، في عز الثورة العالمية لديه حياة مختلفة عن الثورة العالمية، وهو اليوم مرجع فعلي عندما ننظر إلى الأرض التي تحت أقدامنا، لأنه كان يدرك بحدسه وبحسه الوطني أن الديمقراطية والثورات لا يمكن أن تكون إلا على الأرض التي تحت أقدام أصحابها، لهذا انخرط في التحرير إلى النخاع. كان يدرك أن الوطنية ستجد دوما في الأصولية عدوا شرسا، وكانت السلطة تراود الماضي السحيق عن نفسه، لكي يطيعها في كسر المد التقدمي والديمقراطي، كان يدرك أن الأصولية تعتبر أن الوطن لا يعدو أن يكون طابوها، لا يمكن أن نقبل به إلى في انتظار الخلافة .. وكان يدرك أن الديمقراطية هي محرك التاريخ حتى عندما كان جزء من النخبة الحاكمة يعتبر أن الشعب دون اللحظة الانتخابية، أو أنه لا يصلح سوى للعصا وللخبز المعجون بالذل والاحتقار.. رحم الله بوعبيد، الاشتراكي، البسيط ، العفيف، الجريء، الشجاع، المخلص ، المتجرد، الذي لم يكن يعرف أن السلطة تحتاج إلى الذبح والانتقام والعجرفة والاغتيالات الرمزية المتوالية.. عبد الرحيم أبونا الذي في القلب، وفي العقول، وفي الرمزية..