تضمن العدد ما قبل الأخير من أسبوعية نيوزويك الأمريكية (28 دجنبر 2009 - 4 يناير 2010) استجوابان رئيسيان على خلفية نهاية سنة وبداية سنة جديدة. أحد هذين الاستجوابين كان مع الرئيس الامريكي الأسبق بيل كلينتون، والثاني كان حوارا مطولا بين زوجته هيلاري، كاتبة الدولة في الخارجية، وأحد دهاقنة السياسة الدولية الباقين من عهد الحرب الباردة في مراحلها الملتهبة هنري كسيجر. الاستجوابان معا تمحورا حول أوضاع عالمنا وتحدياته الكبرى، وواقع الممارسة الديبلوماسية على ضوء تلك الأوضاع والتحديات وما تفرضه أو تستدعيه من ضغوطات جديدة بالنسبة لمتخذي القرارات في أقسام وزارات الخارجية اليوم. شاءت الصدفة الخالصة أن أقرأ الاستجوابين معا، بعدما كانت قد فرغت من قراءة عمود من بضع فقرات في صحيفة وطنية تضمن استعراضا لوقائع اجتماع وزراء خارجية بلدان المغرب العربي في دورته التاسعة والعشرين بطرابلس، وما تمخض عن هذا اللقاء من قرارات أو ما يبدو كقرارات. تزاحمت في ذهبي التعليقات، تداعت تباعا تسابق التحليل، وأنا أحاول مقارنة ما ورد في الاستجوابين معا من خلاصات تهم واقع الممارسة السياسية الدولية، سماتها وخصائصها، كما يبينها مسؤولون من العيار الثقيل طبعوا ويطبعون الحدث الدولي، بحكم مهامهم الحالية أو السابقة، ما تقدمه حياة مؤسسات اتحاداتنا الاقليمية نحن، من خلال دوراتها المعتادة من خلاصات وما تولده من انطباعات لدى المتتبع، سواء كان منتميا إلى هذا الفضاء الاقليمي أو كان من خارجه. في كلام بيل كلينتون تحليل مستفيض عن طابع التداخل، وخاصية التبعية المتبادلة التي صارت عنوان المرحلة بالنسبة للعلاقات الدولية اليوم، تزيدها تغلغلا وشمولا التحديات المتعاظمة، القائمة حالا أو المرتسمة في الأفق، سواء منها تلك المرتبطة بتدبير التداعيات العالمية للأزمة المالية الأخيرة، أو تلك المرتبطة بانعكاسات التكنولوجيات الجديدة على حياة الأفراد والمجتمعات، أو تلك المرتبطة بأزمات الماء والغذاء وتدبير تبعات التغيرات المناخية، وما تفرضه هذه التحديات وماتستدعيه على مستوى انبثاق حاجيات جديدة في مجال التعاون، حاجيات يغذيها ويسرع من مداها منطق وواقع التبعية المتبادلة ذاته. في كلام هيلاري حديث مستفيض عن حاجة متخذي وصناع القرارات اليوم، عند التعاطي مع مختلف القضايا الدولية داخل أية منظومة شمولية كانت أم فرعية إلى استحضار الأبعاد الثلاثة لأي فعل أو ممارسة في المجال الدولي، والتي حددتها في المستعجل المهم وما يرتبط بالأمد البعيد، حيث تتوقف نجاعة الفعل ومردوديته، بل ومصداقيته على استحضار هذه الأبعاد الثلاثة كاملة ومجتمعة والتوفيق بينها بما يعني عدم جواز إلغاء أي بعد أو تهميشه أو التضحية به. وقد أكدت السيدة هيلاري في نفس السياق، أن تجربتها الميدانية قد بينت لها بوضوح أنه وخلافا للرأي الشائع ولما هو مظنون به أو خروج له من تصورات، فإن تطور وسائل الاتصال بالشكل السريع والمذهل التي هي عليه الآن لم تقلل إطلاقا من الحاجة الأكيدة في مجال الممارسة الدولية إلى اللقاءات المباشرة، خاصة حينما يتعلق الأمر بتدويب مخاوف وشكوك والتغلب على حساسيات وبناء الثقة وصولا إلى فهم موضوعي لدواعي الخلافات القائمة ومستلزمات التعاون المطلوبة. الوعي بمنافع التبعية المتبادلة حاصل اليوم بشكل كبير، حتى من قبل من فرق بينهم التاريخ بالحروب والعداءات، وحتى من طرف من تفرق بينهم الجغرافيا بالبحار والمحيطات (الولاياتالمتحدة والصين مثالا) لكن في اتحاد مغربنا العربي تبدو الامور مختلفة، إذ لا يبدو أن لهذا الوعي حقا الكلمة الفصل، إذ لازلنا حسبما يبدو من منطوق قرارات الدورة 29 لوزراء الخارجية عند مستوى البحث في أمر تشكيل اللجان التي ستتولى بدورها البحث في انعكاسات التبادل الحر على الاقتصاديات الوطنية، ومعنى هذا أننا لازلنا وحدنا ودون التجمعات الاقليمية في آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا، شرقها وغربها والوسط - لازلنا مرتابين مترددين غير متيقنين من منافع التبعية المتبادلة مع أن التوزيع القائم لخرائط الموارد، الطبيعي منها والمصنع على امتداد التراب المغاربي وحاجيات المغاربيين كما تكشف عنها الارقام هي معطيات كافية لإبراز حجم وأهمية المنافع التي يمكن أن يجنيها الجميع عبر تكثيف سيولات التبادل تجسيدا لتبعية متبادلة لصالح كل شعوب المنطقة. من جهة ثانية، فإن مطلب تأسيس الفعل الدولي، والقرارات الدولية على الربط الضروري والمحكم بين ماهو مستعجل وما مهم، وماهو مرتبط بالأمد البعيد، صار اليوم متطلبا مسلما به في الممارسة الدولية حينما يتم بسط المشاكل بين فاعلين دوليين والتفكير في مقاربات الحلول، لكن في اتحاد مغربنا العربي تختلف الأمور بكل تأكيد، إذ لا يمكنك أن تعرف من خلال البيانات الصادرة عن الاجتماعات ومنطوق القرارات المتخذة ماهو المستعجل من المهام، وما هو المهم وماهو هذا الذي ينتمي إلى الأمد البعيد، ولا كيف يتم الربط إن وجد بين هذه الأبعاء والمستويات، فمدبجو البيانات الختامية لايجدون مثلا أية غضاضة في الحديث عن اقامة التبادل الحر والسوق المشتركة فيما الحدود البرية بين قطرين أساسيين في الاتحاد، المغرب والجزائر، لازالت مغلقة، علما بأن فتح الحدود، وهو أضعف الايمان في البناء الوحدوي هو أمر مستعجل ومهم وضروري على الأمد البعيد، وعلما كذلك باستحالة اقناع أي مخاطب دولي (الاتحاد الاوربي مثلا) بأننا جادون في مساعينا باتجاه اقامة فضاء اقتصادي موحد وكيان اقليمي متجانس، وهو يرى الأقفال الحديدية في أبواب بعض أقسام تلك البيانات الرسمية الحدودية التي كانت تختم بداخلها جوازات سفر المواطنين المغاربيين العابرين للحدود، للسياحة أو لزيارة الأقارب فيما مضى من الزمن. حينما تم تأسيس اتحاد المغرب العربي منذ عقدين من الزمن، كان الإحساس قويا في صفوف المغاربيين الوحدويين بأننا ربما نكون أخيرا في هذه المنطقة من العالم العربي، قد تبنينا المنطق الوظيفي في الاندماج، القائم على تطوير المصالح المشتركة بشكل تدريجي أسوة بالتجارب الناجحة من حولنا اندماج يبدأ ببناء أسس الوحدة في المستويات التقنية والاقتصادية ويتوسع لاحقا ليطال المستويات السياسية والاستراتيجية - الآن بعد عقدين من الزمن يبدو وكما لو أن لعنة الوحدات الاندماجية المشرقية، والتي قامت على الكثير من ِشعر الوحدة يلقى بشكل موسمي في مقرات فاخرة تعج بالموظفين وقليل من آليات الاندماج الفعلية، يبدو كما لو أن لعنة ذلك النوع من الوحدات الاندماجية تلاحقنا نحن كذلك في مغرب الوطن العربي.