تشهد الآونة الأخيرة في مصر والولاياتالمتحدة، ظاهرة مبهرة لعودة الشباب المتعلم إلى العمل العام، سعياً إلى التغيير، في مواجهة الحرس القديم الذي يسيطر على الساحة منذ عقود. ورغم اختلاف المشهدين المصري والأمريكي في كل شيء تقريباً، إلا أن ما يجمعهما هو استخدام الشباب لوسائل جديدة في الدعوة والتنظيم والحركة، يعجز الحرس القديم عن ملاحقتها أو احتوائها، رغم محاولاته المحمومة للإبقاء على سيطرته على مقاليد الأمور، هنا في مصر، وهناك في أمريكا. ونحن بالطبع أكثر اهتماماً بما يحدث عندنا مصرياً... ولكن إطلالة سريعة ومقارنة تفرض نفسها، حيث كنت في جولة لإلقاء محاضرات عامة في الولاياتالمتحدة مؤخراً، حيث تحتدم معركة اختيار رئيس أمريكي جديد. ولفتت انتباهي ملاحظة للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون حول نفس الظاهرة، أي عودة الشباب إلى العمل العام، وبشكل غير متوقع، وبوسائل جديدة، لم تحسب زوجته هيلاري كلينتون لها حساباً وهي تستعد لخوض معركة الترشيح لمنصب الرئاسة الأمريكية. فبعد سنة من بداية جولات السباق بين مرشحي الحزب الديمقراطي، والذي كانت هيلاري كلينتون تتصدرها. وكان بيل كلينتون، ذو الخبرة والشعبية، هو مستشارها. ولكن الظهور شبه المفاجئ لمنافس زنجي من داخل نفس الحزب، وفوزه في عدة جولات مبكرة، أدهش المراقبين، بمن فيهم بيل كلينتون نفسه. فبعد أن تأمل الموقف، قال: «إن هيلاري لا تتنافس مع مرشح واحد آخر، هو باراك أوباما، ولكنها تواجه حركة اجتماعية جديدة، قوامها شباب الطبقة المتوسطة، الذين كانوا غائبين عن العمل العام، إلى أن ظهر باراك أوباما، فلمس قلوبهم، وأشعل حماسهم، فعادوا إلى المشاركة في العمل العام بشكل وأعداد غير مسبوقة منذ ستينيات القرن العشرين. وبيل كلينتون، هو خير من يدرك جوهر ظاهرة من هذا النوع. فقد كان هو نفسه واحداً من تلك الحركة الاجتماعية الشبابية، قبل أربعين عاماً، للاحتجاج على حرب فيتنام وعلى الممارسات العنصرية التي كانت لاتزال قائمة ومنتشرة بشكل فج في تلك الفترة. ونجح جيل بيل كلينتون في تغيير المشهد الأمريكي وقتها. وكان هو نفسه أحد من رفضوا الخدمة العسكرية، احتجاجاً على تلك الحرب غير العادلة، وفر وقتها إلى كندا، لاجئاً سياسياً، إلى أن أُجبر الرئيس ليندون جونسون، الذي كان يقود الولاياتالمتحدة وقتها على التخلي عن الترشيح لفترة رئاسية ثانية، وأُجبر خلفه ريتشارد نيكسون على الانسحاب من فيتنام... وتغيرت أشياء أخرى كثيرة في أمريكا نتيجة تلك الحركة الاجتماعية لجيل الستينيات. وبعدها انصرف الشباب الأمريكي عن العمل العام... ربما لإحساسهم أنهم أدوا الرسالة... وتفرغ معظمهم، ومعظم أبنائهم من الجيل التالي لشؤونهم الخاصة... ثم وقعت الحرب في العراق وأفغانستان في مطلع القرن الحادي والعشرين... وبدا لجيل شبابي أمريكي جديد أن القائمين على شؤونهم في واشنطن غير مستعدين، أو غير قادرين، على الخروج من مستنقع الحربين... ثم ظهر في الأفق ذلك السياسي الأمريكي-الزنجي باراك أوباما، ذو الأصول الإفريقية الإسلامية، وتحدث عن الأمل وعن التغيير في واشنطن... وبلغة جديدة، أوحت للشباب الأمريكي بالثقة في أنه يمكن بالفعل إحداث هذا التغيير... فبدؤوا في التبرع لحملته الانتخابية... ثم التطوع في صفوف تلك الحملة... ولم يفعلوا ذلك بالعشرات أو المئات، ولكن بالآلاف... حتى أصبحوا كالطوفان، واستخدموا في حركتهم هذه شبكة الأنترنت (العنكبوتية)، وبشكل غير مسبوق... وهذا ما لم تكن هيلاري أو زوجها ومستشارها وأركان حملتها قد حسبوه أو أعدوا له، رغم أنهم كانوا قد بدؤوا التخطيط مبكراً جداً. وبهذا المعنى صدق الزوج بيل كلينتون في توصيف حالة السباق... أنه لم يعد منافسة فردية بين هيلاري وباراك أوباما من ناحية، ولكنه منازلة بين هيلاري وحركة اجتماعية جديدة... قوامها الشباب الجامعي بعد أربعين عاماً من غيابهم عن الساحة. هذا هو المشهد الأمريكي عام 2008. المشهد المصري سألني عدد من الصحفيين والطلبة الأمريكيين أثناء جولتي الأخيرة، عن «إسراء عبد الفتاح»، وعن «بلال دياب»، وعن «أسامة عباس»، وعن «حسام الحملاوي»... وفي ما عدا الأخير، الذي كان طالباً عندي في الجامعة الأمريكية، فإن الآخرين كانوا مجهولين بالنسبة إلي، واتصلت بباحثي مركز ابن خلدون في القاهرة، واستفسرت بدوري عن أصحاب هذه الأسماء، وتمت إحالتي إلى عالم «المدونين» و»كتاب الوجوه» والشبكة العنكبوتية عموماً، وهو عالم ذو بداية هي مفتاح الكمبيوتر، ولكنه فضاء بلا نهاية الأثير .وهو عالم جديد نسبياً لمن هم من أبناء جيلي، فوق الستين من أعمارهم. ولكنه عالم مذهل... ومبهر... ومبحر... يتجول أبنائي وأحفادي فيه بسهولة ويسر. وكما تأمل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون المشهد في بلاده، وما تواجهه زوجته الطموحة، هيلاري، من تحديات، في مواجهة جيل الشباب الذي يناصر منافسها الأول باراك أوباما، فإنني بناء على ما زودني به باحثو ابن خلدون (من أمثال سامي دياب، وعمرو ثروت في القاهرة، وشريف منصور في واشنطن)، تأملت ومازلت أتأمل المشهد المصري، وخرجت بالخلاصات التالية: 1 نحن بصدد جيل جديد، ممن هم دون الثلاثين من أعمارهم، تلقوا تعليماً جامعياً أو ثانوياً، مهما كانت عيوبه، إلا أنه زودهم على الأقل بالفرصة والقدرة على دخول فضاء الأثير والشبكة الدولية للمعلومات، وفيها يتصفحون ويتفاعلون مع غيرهم، بحرية نسبية، دون رقيب أو حسيب، وهي أمور جديدة على الشباب المصري المحروم من المشاركة السياسية خاصة، والمشاركة الاجتماعية الاقتصادية عامة. 2 إن هذه المشاركة المستحدثة قد أعطت شبابنا، أو بالأحرى نسبة متزايدة منهم، إحساساً جديداً بالقدرة وفي هذا الصدد تختفي الفروق النوعية، بين (الذكور والإناث)، والطبقية (الأغنياء والمتوسطون والفقراء)، والجيلية (الصغار والشباب والكبار). وبهذا المعنى فإن الشبكة الدولية العنكبوتية ليست فقط ثورة رقمية اتصالية، ولكنها تنطوي على ثورة اجتماعية ديمقراطية صامتة، أو «ناعمة». وهذا ما يُفسر قدرة فتاة مصرية، مثل إسراء عبد الفتاح، وهي مثل مليون فتاة في عمرها، أن تدعو إلى إضراب عام وأن يستجيب لها ملايين من المصريين المجهولين احتجاجاً على الغلاء الذي استفحل، وعلى الفساد الذي استشرى، وعلى الاستبداد الذي طغى. 3 إن هذه الاستجابة من ملايين المغمورين... لدعوة فتاة مغمورة... تمت خارج المساحة أو الأفق الذي تغطيه أجهزة «الرادار» الحكومية المصرية، القادر على سحق الأجسام الدخيلة التي يمكن أن تعكر «صفو الأمن العام». أي أن «المبادرة الإسرائية» (وليس الإسرائيلية) كانت مبادرة ناعمة، لم تتعود الأجهزة الأمنية الرادارية على رصدها مبكراً، وحتى بعد أن رصدتها، لم تستطع أن توقف تأثيرها، حيث نتج عنها إضراب يوم 6 أبريل 2008، ومن تجاوزوا الإضراب الناعم الذي دعت إليه إسراء عبد الفتاح، ولجؤوا إلى إضراب صاخب، على نحو ما حدث في المحلة الكبرى، فإن الأجهزة الأمنية تعاملت معهم بنفس الأسلوب المعتاد، وهو القوة والبطش، مما ترتب عليه وقوع قتلى وجرحى. 4 إن قيام قيامة الدولة المصرية ضد فتاة مغمورة في السادسة والعشرين من عمرها، وإلقاء القبض عليها، هو الذي حوّل هذه الفتاة المغمورة إلى «بطلة شعبية» (Folk Hero) خلبت خيال الملايين الذين قرؤوا عنها في الداخل والخارج. 5 إن إسراء عبد الفتاح، مثل ثلاثين مليون مصري ومصرية آخرين، ولدت بعد أن أصبح محمد حسني مبارك رئيساً لجمهورية مصر العربية (1981)، وهي وهم لم يعرفوا رئيساً آخر لمصر غيره، ولكن إسراء والثلاثين مليونا، بل و77 مليون مصري الآخرين، قد سمعوا أو قرؤوا أن أمريكا، مثلاً، قد تعاقب عليها في نفس السنوات، أربعة رؤساء آخرين، هم ريغن، وبوش الأب، وكلينتون الزوج، وبوش الابن. كما أن في بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، والهند، ونيجريا، والسنغال، وموريتانيا، ومائة بلد آخر في العالم، قد تعاقب عليها رؤساء جمهوريات، أو رؤساء وزراء عديدون، بينما في مصر، ظل نفس الرئيس ونفس النظام ونفس الأجهزة البطشية ونفس الركود والتعفن. 6 لا بد أن إسراء وجيلها قد استخلصوا أن دوام نفس الرئيس ونفس النظام هو سبب الركود الذي حوّل حياة مصر والمصريين إلى مستنقع كبير، تكاثرت فيه الآفات والحشرات والكائنات المفترسة للأخضر واليابس، وهم سبب الغلاء والفساد والاستبداد. 7 لا بد أن إسراء وجيلها قد تأملوا التركيبة السياسية القائمة بمجملها من حزب وطني متشبث بالسلطة، وأحزاب معارضة متهالكة ولاهثة وراء أي فتات يتساقط من أنياب الحزب الحاكم، أو يقذف هو به إليهم بين الحين والآخر، ما داموا لا يتجاوزون حدود معينة يرسمها هو لهم. ولا بد أن إسراء وجيلها يئسوا من تلك التركيبة الراكدة، الموبوءة، وقرروا أن يحركوها، لعل وعسى أن يبدأ التغيير من أجل بناء مستقبل أفضل. 8 قد يستطيع النظام أن يُخمد صوت إسراء والعشرات من أمثالها ممن نجحت الأجهزة الأمنية في تعقبهم. ولكن أجهزة النظام لن تستطيع أن تتعقب وتخمد أصوات الملايين من جيل «الثورة الرقمية» الذين اكتشفوا التأثير التحرري الاستقوائي للتواصل والعمل الجماعي الناعم والمقلق في نفس الوقت للأجهزة التسلطية. 9 ربما كان المكسب الأول للثورة الرقمية والنجاح النسبي لإضرابها الأول (6/4)، التوجس من الإضراب التالي (4/5) هو الذي دفع أو عجل بقرار الرئيس مبارك زيادة المرتبات والأجور بنسبة 30 في المائة، وهو أمر غير مسبوق. 10 إن المشاركة الديمقراطية الحقيقية في مجتمع مفتوح هي الحل النهائي لمشكلات مصر والوطن العربي، فهل يستمع المستبدون قبل أن يجرفهم طوفان الثورة الرقمية لشباب القرن الحادي والعشرين؟ وعلى الله قصد السبيل.