إلى حدود نونبر 1999، كان معظم المغاربة يعتقدون أنه من الصعب إزاحة إدريس البصري من منصبه كوزير للداخلية، بسبب الوهم الذي ترسخ لديهم من أنه وزير قوي، وبأن إزاحته ستؤدي إلى انهيار شامل ل «السيستيم" ،لكن لما تم إعفاؤه يوم 9 نونبر 1999 لم يقع «تسونامي»، بقدر ما تفجرت طاقات كانت مهمشة في أكثر من قطاع، سواء أكان تابعا للداخلية أو للمرافق الخاضعة لوصاية الوزارة. تأسيسا على هذا المثال، طرحت «الوطن الآن» سؤالا على العديد من المهتمين بخصوص إمكانية نجاح الدولة في زعزعة «إمبراطورية آل الرشيد» بالصحراء، فكان الجواب أن الدولة بإمكانها فعلا إزاحة آل الرشيد من «الكوركاس» مثلا إن أرادت لأنه منصب يتم إدراكه بالتعيين، لكنها ستجد صعوبة في زعزعة نفوذ آل الرشيد برلمانيا وجماعيا وجهويا، بالنظر إلي تجذر العائلة في المجتمع المحلي بعاصمة الصحراء، العيون. إن القوة التي أصبح «آل الرشيد» محاطين بها، والتي تحولت إلى حديث العام والخاص، تنهض كمثال يغري الباحثين في العلوم السياسية لدراسة أسباب اكتساح عائلة آل الرشيد للمشهد السياسي والعقاري والمالي بالعيون، ولفهم الآليات والشبكات المنسوجة، ولتفكيك الجدران العازلة المبنية لتحصين القلعة العائلية. صحيح أن المغرب يعرف ظاهرة «اقتطاع» أشخاص معينين لجزء من التراب الوطني وتحويله إلى محمية انتخابية لهم (حالة محمود عرشان في تيفلت، وطارق القباج في أكادير، وشباط في فاس، وبنعيسى في أصيلا، وقيوح في هوارة، وولد العروسية في مراكش..). لكن لم يسبق أن حدث ورأينا شخصا يقود عائلة بأكملها إلى مقاعد البلدية والبرلمان والجهة والغرف. فبلدية العيون يسيرها آل الرشيد في شخص مولاي حمدي، علما بأنها كانت دوما تحت إبط العائلة منذ الثمانينات في شخص شقيقه خلي هنا، والجهة يسيرها سيدي حمدي ابن شقيق مولاي حمدي، والمقعد البرلماني حاز عليه آل الرشيد في شخص الابن الصاعد سيدي محمد ولد الرشيد، المستشار البرلماني وعضو غرفة التجارة والصناعة بالعيون.. هذا دون الحديث عن الأذرع المنتمية لقبائل أخرى التي تشكل جبهة الإسناد والإمداد لآل الرشيد (أحمد لخريف عن أيتوسى، ومولود علوات عن ازركيين، وسعيد الجماني عن اركيبات البيهات..) فالدولة لما استرجعت الصحراء عام 1975 قامت بتطبيع الأرض، لكن ليس بالمراهنة على الشيوخ وبوجهاء القبائل فقط، بل أيضا بانتهاك حقوق الإنسان والزج بالناس في مراكز الاعتقال السرية (أكدز، مكونة..). واليوم بعد طي صفحة الماضي ورغبة الدولة في الشفافية، ظهر أن من حق كل صحراوي أن يكون رئيسا للبلدية أو برلمانيا أو مستشارا، وهو الحق الذي تزامن مع طرح الجهوية الموسعة. من هنا وجاهة السؤال: أية جهوية ستنجح في الصحراء ما دامت عائلة واحدة تتحكم في القرار، وفي المشهد العام؟ فإذا كانت الجهوية تعني لامركزة القرار من المركز نحو المحيط، فإن العديد ممن استأنست «الوطن الآن» بآرائهم يربطون الجهوية بمسألة وجوب لامركزة سلطة العائلة الواحدة decentralisation، خاصة وأن العيون لم تشهد أي تناوب منذ 1984 بشكل أدى إلى تغييب سلطة مضادة للتوازن، بما فيها سلطة الدولة التي أضحت تحت رحمة العائلة، بدليل أن الوالي رغم أنه الآمر بالصرف للجهة وللعمالة، فإن فرضية إسقاط الحساب الإداري وتعطيل ذراع الوالي تبقى قائمة، بالنظر إلى هيمنة عائلة ولون سياسي على المشهد، حيث يظهر وكأن الدولة نفسها «تورطت» في اللعبة الديمقراطية، وبالتالي الخوف من أن تقود الجهوية إلى منح الحكم إلى عائلة حاكمة بفعل احتكارها لمعظم الأنشطة. فما هي الدواعي التي جعلت آل الرشيد يقفلون verrouiller المشهد؟ هل للموضوع علاقة بالصحوة الأولى لقائد العائلة (خليهن) حينما اختار الالتحاق بالمغرب عكس الصحراويين الآخرين الذين اختاروا الانفصال ومواجهة المغرب؟ هل هي مرتبطة بفراغ الساحة آنذاك بسبب ظروف الحرب وانشغال الناس بتجنب بطش الدولة والانصراف لمعيشتهم اليومية؟ أم هو نتيجة لتلك «الدوخة» التي أصابت العديد من الصحراويين بعد تدمير مجالهم الحيوي وفرض التمدين عليهم بالقوة، بشكل جعلهم عالة على الدولة التي تمنحهم الإعانات والكارطات (بطائق الإنعاش)، بالنظر إلى أن أغلبهم جُرِّد من فلاحته وبهيمته ولم يعد يتقن شيئا آخر، اللهم انتظار الإعانات الشهرية؟ صحيح أن الوضع بالعيون لم يصل بعد إلى ما تعيشه باكستان أو أفغانستان، حيث تتميز هاتان الدولتان بتحكم عائلات قوية لا تقوى الدولة هناك على فعل أي شيء ضدها، إلا باعتماد التفاوض مع رموز كل عائلة، مما يؤدي إلى إضعاف هيبة الدولة وهيبة أمنها.. لكن شظايا «الحرب الانتخابية» في يونيو 2009 بالصحراء التي طالت كل مناطق المغرب والأنباء المسربة حول احتمال احتدام الصراع الانتخابي في محطة 2012، تدفع المراقب إلى طرح أكثر من سؤال حول المآل الذي ستؤول إليه الأوضاع بالمنطقة، خاصة وأن الاحتفالات بموسم عيد المولد النبوي الأخير بمدينة أسا جعلت كشافات الضوء تسلط على الترتيبات التي يتم التحضير لها، علما بأن أسا (عاصمة أيتوسى) كانت مجرد منجم لتزويد اركيبات آل الرشيد بالأصوات في المحطات الانتخابية، بالنظر للقوة العددية لأيتوسى بدون أن يكون لها حضور في القرار السياسي والمالي والاقتصادي بالصحراء، خاصة إذا استحضرنا معطى آخر يتجلى في تململ قبائل ازركيين التي بدأت تبرز في صفوفها أصوات تحذر من تعاظم نفوذ آل الرشيد، مما قاد إلى الاعتقاد بأن القوة المالية لازركيين إذا تحالفت مع القوة الديمغرافية لأيتوسى، فإن سلطة آل الرشيد (الأمر لا يهم اركيبات التي تضم أيضا عائلات أخرى) قد تتقزم، وهو الاعتقاد الذي ترسخ لما حضرت وفود من قبائل ازوافيط وأيت لحسن في موسم أسا، مما جعل البعض يظن أن هناك ترتيبات تروم خلق حلف قبلي لهزم آل الرشيد. لكن من ينسج مثل هذه الفرضيات -والكلام هنا لأحد الصحراويين الذين جالستهم «الوطن الآن»- يتناسى أن آل الرشيد عنصر توازن مهم، توازن مادي ونفسي. فماديا، ليست لولد الرشيد خصومة مع الدولة، بل قد تكون له خصومة مع جناح في الدولة. أما نفسيا، فإن التوازن يتحقق بما يوفره ذلك التمثل الشائع عند العديد من الصحراويين من أن ولد الرشيد هو «بلدوزر» يقرر بنفسه ولا ينتظر أن يحركه الوالي أو الوزير كالدمية، فيطمئن المواطن معتقدا أن القرار يصنع محليا وليس في «الرباط». أيا كان الاعتقاد، فإن ما ينقص الصحراء هو نور الشمس، بالنظر إلى أن نور الشمس هو أحسن مطهر Désinfectant، ويسلط الأضواء على المناطق المظلمة ويكشف الحقائق ويشفي من الأمراض. والدليل على الحاجة الملحة لهذا النور هو أن الرأي العام ظل متلهفا لمعرفة نتائج التحقيق في البقع والعقار بالعيون، ولم تتمكن وزارة الإسكان -التي يسيرها مسؤول من نفس حزب آل الرشيد- من نشر اللوائح لطمأنة الرأي العام من أن الصحراء ليست «فاتيكان» في «قلب الطاليان»، اللهم إلا إذا كنا مطالبين بانتظار أشعة الشمس لتدخل مكاتب المسؤولين بالرباط ليتململوا وليتحولوا إلى سلطة مضادة لتوزيع المنافع والمكافآت حتى لا يظن المرء أن هذه العائلة أو تلك هي مفتاح العدالة الاجتماعية. وإلا فإننا لن نكون أمام نسخة من «الفاتيكان وسط الطاليان»، بل سنصبح أمام نسخة مكررة ل «وزيريستان في باكستان». ملحوظة اتصلت «الوطن الآن» مرارا بحمدي ولد الرشيد رئيس بلدية العيون، وابن شقيقه حمدي ولد الرشيد رئيس جهة العيون بوجدور، من أجل إضاءة هذا الموضوع، إلا أن الأول لم نتمكن من أخذ وجهة نظره، والثاني تحفظ عن التحدث باسم آل الرشيد. كما اتصلت «الوطن الآن» بأحمد الحكوني المفتش الإقليمي لحزب الاستقلال بالعيون، لكنه أوضح أنه مسؤول حزبي ولا علاقة له بآل الرشيد. الوطن الآن