ذكرت في مقال سابق بأن تجربة الفيلم مع الرواية حملت معها الكثير من التساؤلات التي من شأنها أن تعزز أو تميز تلاقح النص الأدبي مع السينما , وإن كانت الرواية أصلا هي القاعدة الأساسية للفيلم ناهيك عن الاستفادة من الفنون الأخرى كالمسرح كما حصل مع مسرح شكسبير أو التشكيل كما جرى مع لوحة غرونيكا (لبيكاسو) أو القصيدة الشعرية كما لمسنا ذلك في تحول قصيدة الشاعر الكبير(ألكسندر بلوك) الحياة المرحة إلى فيلم أخرجه الإيطالي المعروف فيلني ... إلا أن النص الروائي يبقى القاسم المشترك الذي تدور في فلكه التجربة السينمائية . وهذا يحيلنا إلى مفهوم السؤال الذي أثارته الحداثة عبر التقنية والتكنولوجيا العصرية إلى القول: هل دفعت أو أدت هذه التقنية بكل أشكالها إلى خلخلة أو اهتزاز بنية السينما من الداخل من أجل خلق نموذجها الخاص , والاستغناء عن النص والكتابة عبر الضوء كما تدعو إليه جماعة التيار الحديث الموجة الجديدة التي أقترن عملها السينمائي بالروائي المعروف (آلان روب غرييه) والسينمائي الفرنسي (آلان رينيه) , والتي هي باعتقادي تجسيد لفكرة أو نظرية (أزنشتاين) في التكوين الإبداعي للصورة المونتاج ثم إعادة إنتاج الفيلم وفق رؤية الخيال البصري كما دعا إلى ذلك المخرج الإيطالي (فيلليني) . فلا نريد أن نقف عند هذه النقطة أو تلك وإنما نترك لتلك التساؤلات بحثها فيما تتقصاه أو في الأفق الذي يرسم لنا صورة التداخل الإجرائي بين فنين هما صناعتين إذا جاز لنا التعبير تسميتهما , متجاوران في عالميهما الأدبي والسينمائي . قي ضوء هذا التشاكل أو التعالق المفترض .. تقترح الورقة أسئلتها حول تأثير اللغة بوصفها وسيط إبداعي يتخلق داخل العمل الأدبي والسينمائي ومدى تجسيد أبعادها في اللقطة السينمائية أو المشهد النصي وتأثيرها على ذهنية المشاهد / القارئ , لأن التلقي كما هو معروف طرف المعادلة الذي تتركز حوله حركة النص وقيمته وثراه , ومن هذا المنطلق نحاول أن نكتشف طبيعة النسق الصوري ... هل يتداخل حقا مع مستويات النسق السردي ... وإذا تداخلت هذه الأبعاد فيما بينها المقصود السردية والصورية هل تعطي فهما مشتركا للمعنى أم تحتفظ كل منها بخواصها وأنساقها ودلالاتها الأسلوبية . واختصارا لانسياب الأسئلة وتداعياتها , نجد من المناسب أو المفيد أن نسلط الضوء على أهم التجارب الفنية / الأدبية التي تمخضت عنها سمات إبداعية سواء ما ظهر منها على المستوى الفني الشريط السينمائي أم على المستوى الأدبي النصي . فالكاتب الكولومبي (غابريل غارسيا ماركيز) يرى أن الصورة السينمائية لها فلسفة خاصة في تفسير الأنساق السحرية للغة , فهي عالم من الجمال الذي يفوق بامتياز على ما يمكن أن يوصف على الورق , هذه الميزة خلقت لديه انطباعا بأن الكتابة وسيلة وغاية يتداخل فيها فن الإغراء والقناع والتماهي , فبعد أن كانت أمه تحدثه في بواكير حياته عن السحر والجن حتى يبدو السحر عندها جزء من الواقع بالتصاق غريب وطاغ تفعل معه الآن الصورة السينمائية ذات التأثير في قدرتها على نقل الأحاسيس إلى الآخر ... فهذا الحافز كما يقول : (ساعدني كثيرا على التعبير وبطرق مختلفة عن موضوعة الخرافة التي تستحوذ على حياة البسطاء في أمريكا اللاتينية . أما الناقد الإنكليزي (ليوناردو وولف) زوج الكاتبة المعروفة (فرجينيا وولف) التي أرست قواعد مشروع تيار الشعور أو التداعي الحر في الجنس الروائي , قال بعد إن عرض فيلم (غرفة يعقوب) المأخوذ عن رواية الكاتبة (فرجينيا) : (صحيح إن الرواية مقروءة على الرغم من عقدة شخصياتها الغامضة ولكن الكاميرا استطاعت أن تكسر هرمية هذا البناء وتمنح رؤيا مثالية للغة مقعرة وعسيرة الهضم وأن تعطي للمشاهد يقينا ثابتا بحضور النص وكشف أنساقه الدلالية مهما تعددت معانيها) , أي أن السينما قادرة على صياغة تعبيرها ومشاركة النص من خلال فهم مكونات فن الصورة التي تسعى بدورها إلى تحقيق طموحات النسق السردي وتفجير طاقته ومخزونه الثر وأن تخوض التجربة السينمائية في طور إبداعاتها إلى تخليق نصها وعالمها الذي انتقلت إليه .. فيشير إلى هذا التحول الكاتب (محمد زفزاف) بقوله : (إنه يمنحنا خصوصية الجملة في العمل السينمائي). أما الروائي البرازيلي (باولو كوبلو) كاتب رواية الخيمياء التي طبعت شهرتها الآفاق وعدت من أجمل روايات هذا العصر , حيث غزت بأفكارها ورؤاها وتصوراتها صالات العرض بنفس القدرة التي حققتها في دور النشر , يقول في معرض إشارته عن (سانتياغو) الشخصية المحورية في الرواية / الشريط , : (إنه جعلني أشعر أمام واحد من الكهنة أو القديسين وهو يخوض تجربة المفازات في الصحراء للعثور على الحلم , الحلم الذي استفاق منه لتحقيقه في العثور على الكنز). ثم يضيف (كوبلو) , إن للسينما قدرة على شحن الخطاب الروائي رؤى ومهارات ومتعا حسية وجمالية تستكمل فيها أدوات النص , المسافات الشاقة والمقطوعة عبر الصحراء , تأملات (سانتياغو) المثقل بأوهامه وأحلامه وهو يواجه العقبات والمنزلقات في أتون الرحلة المجنونة التي تنظر إلى (الخيميائيين) الذين يحولون في تصوره المعادن إلى ذهب , دافع حقيقي لا يملك سواه في تخطي حدود الممكن والمحتمل . هذه الشخصية التي أعجب بها وكأنها لم تكن من صنع مخيلته يقول: إنها انطلقت من مواصفات ومجازات تضمنها الشريط السينمائي برؤية ثاقبة خلاقه تحدى بها الإخراج المغزى المتواري بين السطور . إن التكوين الإبداعي للصورة يجري تعريفه كاللغة داخل النسق ويعطي مفهوما جديدا لبناء الجملة السينمائية ..وعلى هذا الأساس فسر بعض المخرجين السينمائيين هذا المفهوم بأنه نظام يعيد ترتيب التجربة الفنية / الأدبية بشكل ينتج عنه إبداع مزدوج الوظيفة , إبداع في الفن بوصفه جماليا وإبداع في القول بما يتضمنه السرد وهذا ما أشار إليه الناقد السينمائي المعروف (أوزبنسكي) مؤلف كتاب (كينونة الخطاب العصري) الذي أنطلق من معنى شمولي أسماه (النص الفني) الذي يمنح فيه القصة خواصا يؤهلها للحوار مع خواص الفيلم , مذكرا بالوقت نفسه بقيمة الرؤية الإخراجية عند (فيلليني) و (فسكونتي) و (هيرزوج) و (أندريه فايده) و (أنطونيوني) الذي كان يسحره في القصة الصورة (الجوهر الأقصى) التي يتحرك بواسطتها نظام الدلالات , أي إن النص هنا يشكل ظاهرة الخطاب ومن خلاله تتدفق الصور ودلالاتها كمنظومة متكاملة الأنساق في الشريط السينمائي. بينما البعض الآخر كان يدعو إلى التكثيف والتركيز الذي يحقق تلاحما بين ثنائية المقروء / المرئي (سيناريو) أي أن النص عبارة عن مادة خام يمكن إعادة إنتاجه بحرية على الشاشة وهذا ما فعلته الموجة الجديدة التي إنطلقت من أوراق سينمائية بموازاة المنظر الفرنسي (أندريه بارت) , فهي ما زالت تنادي بمفهوم نص الشاشة حيث إنهم يتوقعون وجود إرادة محتملة لدى الجمهور وإن النص قد يسبقهم في الوصول إليه ودليلهم في ذلك الروائع الشكسبيرية التي نقلت إلى السينما مثل (هاملت , ماكبث , الملك لير) لم تعط قيمتها الحقيقية مثلما هو فعلها على المسرح باعتبار النص الشكسبيري موجه أساسا من خلال خشبة المسرح إلى الجمهور , وتطبيقا لقواعد الانتماء إليه التي تضم الحركة , الأداء , الديكور , الإنارة وهي كذلك عناصر يستعيرها المؤلف أحيانا للتأثير والدلالة في البناء الدرامي بالإضافة إلى أداء الممثل الذي يشكل محور العمل المسرحي. فهذا التمايز في الأداء ينطبق في تصورهم على روايات مثل (كازنتراكس , زوربا , الأخوة كارامازوف , ذهب مع الريح , الجريمة والعقاب , البؤساء , جسر على نهر الدرينا , الإشارة القرمزية ...) وغيرها من الروايات , وبذلك لا يمكن أن يكون هنا المعنى متساويا في تشكيل الملامح الذهنية فالذي يتذكر هذه الأعمال لا يمكن أن يستقيم لديه المعيار نفسه على الشاشة ومن هذا المنطلق نفسر مثلا ابتعاد هذه المجموعة عن تناول الرواية , أي رواية مهما كان حضورها فنيا وعالميا فأنها بنظرهم كونت خصوصيتها بفعل تأثير قراءة سابقة ولذا تحد من قدرة التخيل وتكوين الملامح بعد تحويلها إلى شاشة . وفي هذا الشأن يؤكد (غربيه) على نص الشاشة بقوله: (عندما تولد في ذهني فكرة ما أعرف حالا فيما لو أكتب منها رواية أو أصنع منها فيلما ... لأن ما نكتبه لا يمكن أن يقرأ فورقتنا الوحيدة هي الصورة المجسدة على الشاشة ... أحيانا تعجز اللغة عن وصف ما نريده أو تتأخر في الإبلاغ فتحمل انطباعنا هذا أدوات الكاميرا بمهارة وحساسية شديدة ... بل يتعدى في موضع آخر هذا التصريح ليس فقط إلى التخلي التام عن الرواية ويصف السينما والأدب بأنهما عالمان مختلفان ليس فقط بينهما أي رابط , معللا ذلك بأن الرواية مادتها اللغة والسينما تصنع من الصورة والصوت ... بينما نجد في حوارية (جيمس) و(إيزنشتاين) المنظر الروسي المعروف ثمة رابطة مشتركة حول النص تسير باتجاه منح الإخراج فرصة استثمار النص وليس عزله أو نفيه والانفتاح على توليد معالم تثري الشريط السينمائي معان إنسانية جديدة ومتطورة . وقد أشار (إزنشتاين) من قبل إلى جوهر هذا البناء الفني وأهميته في التصور الذهني فيعطي لنا النموذج ليس متحدثا عن تجربته الفريدة في التكوين الإبداعي التي تجسدت في فيلمه المعروف (القيصر إيفان) الذي وصفه (إستالين) بالرهيب أو المدرعة (بوتومكين) التي استعاض عنها بالمدرعة (أرورا) الذي صار لوحة فنية جذابة لما يتمتع به هذا الفيلم من صور إيحائية معبرة رغم موقف العالم من الثورة البلشفية وهو يعرض في لقطاته سلالم المدرجات الحلزونية والأحذية الإمبراطورية وعربة الطفل المتقلبة واللحم المتعفن ونظرات الطبيب المتعجرفة / لقطات تتجاوز الفواصل الطبيعية للفيلم , سريعة متقطعة , فيها نوع من الذهول , الصدمة , الغرابة , ومع كل ذلك يطرح تجربة المخرج (تاركوفسكي) في فيلم طفولة (إيفان أو إيفان) , الذي لا يعرف أن يعيش في السلم لأنه صنع من الحرب وتجربة (بازوليني) القاص والشاعر والرسام مع رواية (دكنز) آمال كبار وكيفية استثمار رؤياه القصصية في معالجة النص سينمائيا ثم يتحول إلى تجربة (سيرجي بوندر تشوك) مع رائعة (تولستوي) في ( الحرب والسلام). هذه التجارب التي نوه عنها (أزنشتاين) وإن غادرتها ؛ الموجة الجديدة بسؤلها الرؤيوي الجديد , باعتقادي منحت النص القصصي أو الروائي هيبته على الشاشة بعد إن ظلت علاقة الفيلم بهذا الجنس أو ذاك تستنسخ بشكل يقيد من حركة النص وآلياته ومعالمه . فنرى في تجربة المخرج الياباني (كيراساوا) مثال حي في تجسيد معالم الرؤية الإخراجية في تعاملها مع النصوص الأدبية ... فكان أسلوب (كيراساوا) يعتمد على ربط الأشياء الحقيقية التي تولدها الرواية بمغزاها الرمزي والخيالي وهذا ما استنتجته فاعلية الصورة عند الروائي المعروف (بونزو بورد أوي) عندما وصفه (يأوليني) الذي جاء عالم السينما من عالم الشعر . أما (جاك كلايتون) الذي أخرج رواية (قلب الظلام) ل (جوزيف كونراد) يقول من الصعب فصل شفرة اللغة الفلمية عن النص ولكن لابد أن يكون ثمة إجتهاد لإطلاق الشفرة . وفي هذا الصدد أيضا يشترك (ترفو) مخرج فيلم (451 فهرنايت) ذائع الصيت الذي يعد اليوم من أفضل عشرة أفلام سينمائية , إذ يقدم الفيلم صورة لفقدان الوعي الحضاري في غلواء المجتمع الاستهلاكي , حيث يعدم الكتاب وتطارد الثقافة ويتولى رجال الإطفاء بدل واجبهم في إطفاء الحرائق .. إطفاء الكتب , هذا المخرج يؤكد على أن السينما تنطوي على مسارات توليد تتقهقر أمامها قوة المعنى المباشر . وهكذا نرى بعد هذه القراءة التي أحسبها غير معنية بالتفاصيل , إن النص الأدبي الذي تحول تحت تأثير متغيرات مفهوم السيناريو أو السينو رواية أو حتى مصطلح نص الشاشة هو بالأحرى نص إبداعي صاغت مفرداته التجربة السينمائية برؤيا تتجسد فيها صورة وملامح الخطاب المقروء / المرئي . مصادر البحث: 1) الرؤية المزدوجة , أندريه فايدة , ترجمة: طاهر عبد مسلم , دار أزمنة عمان 1999. 2) آلان روب غرييه , الجن والمتاهة , لقاءات شاكر نوري , الشؤون الثقافية بغداد 1990. 3) إزنشتاين, التكوين السينمائي أو الأساس السينمائي ,ترجمة: سهيل جبر, بيروت 1975. 4) السينما المعاصرة ,روبيرت لافوت, ترجمة: موسى بدوي , الهيئة المصرية للكتاب 1977. 5) هنري أجيل , عالم جمال السينما , ترجمة : إبراهيم العريس . 6) سامي محمد , الرواية والسينما , التأثير المتبادل / مقال في مجلة الأقلام . 7) فرجينيا وولف , كتاب السينما والحقيقة , ما جاء فيه أن نحصل عليه بالكلمات على السينما أن تتجنبه . 8) سامي محمد , يقول : إننا نشهد بأن سلطة التفكير البصري(السينما) سوف تمارس دورها على العقلية الروائية . 9) الإخراج السينمائي,ضمن سلسلة كتابي التي تصدرها دار المعارف, د.فاروق الرشيدي , 1981. * أكد الدكتور طاهر عبد مسلم : أن أغلب الروائيين ( لم يتجاوزوا ) نظرة كتاب السيناريو في كتابة النص معيدا إلى الأذهان ما ذكره محمد البرادة بهذا الشأن حينما أشار إلى فيلم عصر البراءة للكاتب (أريث وارتون) إخراج الأمريكي (مارتن أسكور سبنري) فكان التكثيف السينمائي يحل محل التكثيف السردي ، وثمة صور لا يمكن إنتاجها يف النص بقدر ما هي معبرة على الشاشة ، وفي هذا المجال يمكن الحديث عن أفلام الموجة الجديدة التي استفادت من هذا المفهوم في معالجة أفلامها من دون أن تتجاوز فيلم (الملاك القاتل) لمايكل شارا ، إخراج (رونالد ماكسويل) بعد إن حرف عنوانها وغيرها إلى (غينس بورغ) وفيلم (باليكان يريف) الذي كتبه براون وندل إخراج ( ألن باكولا) . * ومن المخرجين العرب الذين أهتموا بهذا اللون من المعالجة (يوسف شاهين) الذي أول من أطلق على هذا النوع من الأفلام مصطلح (فيلم النص أو النص الفيلمي) . * (أندريه بازان) يرفض المونتاج لأنه يخدع الجمهور . عباس خلف علي ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة