في كافيتيريا المسرح القومي في القاهرة، كان سعد أردش حريصا على عزلته الخاصة، رجل ثمانيني يبدو بسبب أناقته أكثر شبابا من سنوات عمره المتقدمة. هكذا رأيت هذا الرجل قبل عام في قاهرة المعز، محاطا بتلك الهالة التي لا يتمتع بها إلا الكبار. ولأنه الرجل بكل ذلك الثقل، لم يكن أحد يتجاسر عليه، حتى من قبل أولئك الذين صاحبوه في المسار الطويل للمسرح المصري، وفي معاركه الأكثر نقعا. يجلس الرجل في بيدروم الكافيتيريا، تلك الغرفة الأنيقة ذات الكراسي الجلدية الحمراء، يدخن، واضعا رجلا على رجل، مثل قيصر صغير أو مثل كاليغولا في مسرحية سوفوكل الشهير. في الخارج، وفي ساحة المسرح القومي المصري، مايزال ديكور مسرحية «الملك لير» مركونا في عراء الساحة، حيث يظهر يحيى الفخراني في ملصقات المسرحية الشكسبيرية. وعلى مسافة غير بعيدة، فرخت القاهرة مسارحها، الهناجر والطليعة وغيرهما، وبدا أن التيار التجريبي الذي قاده سعد أردش قد آل إلى غيره من شباب المسرح التجريبي في مدينة تحتضن عشرات المسارح الخاصة والعامة، وتتفاخر بأنه تعرض كل يوم على خشباتها مسرحيات دون انقطاع. الرجل المريض الذي كان يحمل أمراضه «بصدر رحب» دون أن يظهر تعب ما أو ألم على محياه، جعل منه شخصية خارج المتاجرة بآلامها، ولذلك لم يكن معه كثير من متاع الدنيا، عفيفا ومحتفظا بأرستقراطية خاصة، وببذلة أنيقة وربطة عنق.. لم يكن رقما عابرا في المسلة المصرية، لقد كان أحد أعمدة الهرم. حتى وإن كان قد أسلم الروح في الولاياتالمتحدةالأمريكية عن عمر ناهز 86 عاما بعد صراع طويل مع المرض، فإن تاريخه الفني في المسرح والسينما وفي التلفزيون يؤكدان على قامة من عيار نادر، عن وريث الآباء الحقيقيين للمسرح العربي من أمثال يعقوب صنوع وألفريد فرج. وقد كان لانتمائه إلى ذاكرة الشعب المصري وثقافته أثر كبير في عالمه، شأنه مثل شأن الفنانين والمبدعين المصريين الذين زحفوا من الأقاليم إلى القاهرة كي يقولوا كلمتهم في هذه المدينة التي تدوخ فيها الأفكار وتتصاغر الكيانات. ولد في مدينة فارسكور بمحافظة الدقهلية وحصل على بكالوريوس العلوم المسرحية عام 1952 و على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1955، كما حصل على الدكتوراه من الأكاديمية الدولية للمسرح بروما عام 1961 . وعمل الفنان الراحل أستاذا ورئيسا لقسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وتدرج في عدة مناصب حتى أصبح رئيسا للبيت الفني كما كان عضوا في لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة . ونال الفنان الراحل العديد من الجوائز والأوسمة، منها وسام العلوم والفنون عام 1967 وجائزة الدولة التقديرية من المجلس الأعلى. وللراحل العديد من المؤلفات الفنية والدراسات والأبحاث، أهمها: «المخرج في المسرح المعاصر» «خادم سيد درويش»، «ثلاثية المصيف»، جريمة في جزيرة الماعز»، «انحراف في مقر العدالة»، «أجوينى»، «بياتريس»، و«كارلو جولدونى» وهي سلسلة مسرحيات عالمية. يقول عن مفهوم الالتزام: «من البديهي القول إنه لا يوجد فن بلا قضية. ويجب أن يلتزم الفنان بقضايا مجتمعه، وأن يعبر عنها بالأسلوب الفني الذي يراه مناسبا. لهذا نجد هامشا واسعا من الحرية للفنان. فكل فنان يستطيع أن يبتكر الزاوية المناسبة والمتميزة التي يرى منها المجتمع، والتي يتناول من خلالها قضايا المجتمع، وكذلك له الزاوية المختلفة التي يعالج بها هذه القضايا». مخرج الروائع من أهم المسرحات التي أخرجها «النار والزيتون» للكاتب المسرحي الراحل ألفريد فرج و»الأرض» المأخوذة عن رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي والتي تحولت إلى فيلم أخرجه يوسف شاهين وشكل معلما من معالم السينما المصرية. كما اخرج مسرحية «السبنسة» و«سكة السلامة» للكاتب المسرحي الراحل سعد الدين وهبة و«الذباب» لجان بول سارتر إلى جانب «الإنسان الطيب» و«انتيغون» و«عطوة ابو مطوة» لالفريد فرج. وفي الفترة الأخيرة قام بالخراج عدد من المسرحيات بينها مسرحية «يا طالع الشجرة» لتوفيق الحكيم وكانت آخر مسرحية ظهرت فيها عملاقة المسرح المصري أمينة رزق. وشهد مسرح الطليعة في حينها إقبالا على المسرحية التي شارك في بطولتها إلى جانب أمينة رزق الفنان احمد فؤاد سليم. واخرج مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» لبريخت و «كاليغولا»، وكانت مسرحية «الشبكة» آخر ما قدمه على خشبة المسرح القومي العام الماضي. وشارك الفنان الراحل أيضا في العديد من المسلسلات التلفزيونية، من أهمها «المال والبنون»، وشارك بعد ذلك، في فترات متباعدة، ممثلا في أفلام شكلت علامات في السينما المصرية بينها «قنديل أم هاشم» و«شباب امرأة» و«الأسطى حسن» إلى جانب مشاركته مع المخرج العالمي يوسف شاهين في فيلم «الاختيار» و«الحجر الداير» لمحمد راضي، آخر فيلم مثل فيه في عام 1992.