ستّ سنوات سجنا وأكثر من 22 ألف أورو غرامة، هذه هي العقوبة التي تنتظر مواطنة فرنسية بسبب تدوينة نشرتها على حسابها الشخصي في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تنتقد فيها بطريقة غير مباشرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. بعد تداول التدوينة يوم 21 مارس الجاري، تتفاجأ هذه المواطنة يوم 24 مارس بزيارة رجال الأمن الذين سلموها استدعاء للمثول أمام المحكمة بتاريخ 20 يونيو المقبل بتهمة سب وقذف شخصية ذات سلطة. وعلى الرغم من "قذارة" الشتيمة التي وجهتها للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عشية ظهوره التلفزيوني بالنشرة الزوالية للقناة الأولى الفرنسية، إلا أن هذا التضييق الذي بدأت تمارسه السلطات الفرنسية على المدونين وعموم المواطنين ينذر بتراجع كبير على المستوى الحقوقي. تنضاف هذه الواقعة الجديدة إلى التعامل القمعي الشرس الذي تواجه به قوات الأمن الفرنسية بشكل يومي المحتجين المتظاهرين على قانون نظام المعاشات الجديد، الذي خلق جدلا واسعا في فرنسا بعد إقرار رفع سن التقاعد. مظاهر العنف الصارخة التي تلتقطها الكاميرات في كل المظاهرات حيث الضرب المبرح بالهراوات وسحل المتظاهرين واستعمال القنابل الكروية التي تصيب الأعين، إضافة إلى توجيه القنابل المسيلة للدموع نحو الصحافيين كلها مظاهر تظهر مدى شراسة الأجهزة الأمنية الفرنسية وعنفها غير المتناسب مع طبيعة الاحتجاجات السلمية التي يخوضها المحتجون الفرنسيون. وتؤكد هذه الأحداث مجتمعة أن الدولة الفرنسية تتجه تدريجيا نحو المزيد من التضييق على الحريات وتكميم الأفواه. فما الذي يدفع الدولة الفرنسية نحو هذا النهج القمعي غير المسبوق على الصعيد الداخلي؟ لقد عُرفت فرنسا تاريخيا بوجهيها المتناقضين: الوجه الأول حضاري يقدمها على أنها بلد الحريات والأنوار، ومهد حقوق الإنسان وجنتها الآمنة. لا يمكن أن ننسى أن الثورة الفرنسية كانت على سبيل المثال لحظة مؤسسة للحداثة والتنوير، ومن ثمة لتكريس مفهوم الديمقراطية لاحقا. أما الوجه الثاني فهو البعد الدموي، القمعي والعنيف. الثورة الفرنسية نفسها هي التي أكلت أبناءها على مدى عقود من الزمن وأفرزت نظاما استبداديا بقيادة جنرال من طينة نابليون، وحركة إمبريالية واستعمارية كاسحة، احتلت نصف الكرة الأرضية، وارتكبت مجازر وفظاعات في كل بقاع العالم، وقتلت وشردت الملايين. ليس من المستغرب إذاً أن تسترجع فرنسا في هذه الأيام الحالكة وجهها القبيح وهي تحاول قمع الاحتجاجات الاجتماعية والحد من الانتقادات الموجهة لنظام إيمانويل ماكرون. لكن ما سرّ هذا العنف المفرط في هذا التوقيت بالضبط؟ هناك عاملان رئيسيان يفسران التوقيت وحجم القمع: العامل الأول سياسي يتعلق باهتزاز شرعية ماكرون وتراجعها في المجتمع الفرنسي. فبعد إقدامه على فرض قانون المعاشات الجديد، يفقد ماكرون ما تبقى من شعبيته المتراجعة أصلا تحت ضغط الأزمة الاقتصادية وارتفاع مستويات التضخم، ومن ثمة أصبحت شرعيته كرئيس منتخب على المحك، خصوصا أنه الرئيس الفرنسي الوحيد الذي تجرأ على اتخاذ قرار رفع سن التقاعد بعد أن ظل هذا القانون في أدراج الحكومات السابقة على مدى سنوات. العامل الثاني جيواستراتيجي مرتبط بالأزمة الكبيرة التي تمر بها صورة فرنسا ومكانتها على المستوى الأوربي والدولي. فجمهورية ماكرون تواجه في القارة الإفريقية على سبيل المثال موجة تمرد، بل وطرد من مختلف الحكومات في القارة السمراء، مع تنامٍ في الوقت نفسه للنفوذ الروسي الذي ينفتح على دول المنطقة، مستثمرا الشعور الإفريقي العارم الذي لم يعد يقبل الاستغلال الفرنسي لثرواته والتحكم باقتصاده ومستقبله. آخر مظاهر هذا النبذ الإفريقي قرار سلطات بوركينافاسو وقف بث قناة "فرانس 24" حتى إشعار آخر من داخل الأراضي البوركيانبية، ومشاهد الإهانة التي تعرض لها إيمانويل ماكرون خلال جولته الإفريقية الأخيرة التي شملت أربعة بلدان من بينها الكونغو الديمقراطية والغابون. من الممكن إذاً في ظل هذه الضغوطات الداخلية والخارجية على جمهورية ماكرون أن تتوجه الدولة الفرنسية نحو المزيد من إجراءات التضييق على الحريات الفردية وخصوصا حرية التعبير، إضافة إلى تشديد الإجراءات القمعية ضد المظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية الكبيرة التي تجتاح البلاد بعد إقرار نظام المعاشات الجديد.