ما دلالة تعيين كل من محمد بنشعبون ويوسف العمراني في موقعين دبلوماسيين حساسين في أوربا وفي توقيت متزامن؟ لا بد من العودة إلى السياق الذي جاء فيه هذا التعيين والذي يتميز بحالة من الأزمة الدبلوماسية القائمة منذ شهور بين المغرب وإسبانيا وألمانيا، وكذا المواجهة الصامتة مع فرنسا. نحن أمام رجلين تقنوقراطيين بامتياز، عبرا عن نجاحات عديدة في القطاعات التي تحملا مسؤولياتها ويمكن أن يمثلا مفتاحا لمرحلة دبلوماسية جديدة بين المغرب وأوربا، أعلن الملك محمد السادس خطوطها العريضة وفلسفتها العميقة في خطاب ثورة الملك والشعب عندما أكد أن هناك حاجة إلى إعادة رسم قواعد التعامل الجديدة مع الدول الأوربية. بنشعبون في باريس، هذا عنوان يستحق التوقف عنده لحظة تأمل وتفكير وتحليل. فهذا الرجل الذي يحمل خلفية اقتصادية ومالية مهمة، بفضل تجربته المتميزة في تدبير وزارة الاقتصاد والمالية، سيواجه وضعا حساسا في مهمته الجديدة. إنه يدخل على سياق تعرف فيه العلاقات المغربية الفرنسية نوعا من إعادة البناء والصياغة بشكل هادئ وأحيانا تطفو بعض جوانب الخلاف فيه على السطح. فرنسا لم تنظر بعين الرضا إلى التوجه الأنغلوسكسوني للمغرب، وتشعر بمزاحمة غير ودية من طرف النفوذ الأمريكي والبريطاني، خصوصا بعد أن وسع المغرب من دائرة علاقاته مع هذه البلدان، التي قدمت مواقف أكثر جرأة فيما يتعلق بقضية الصحراء المغربية. كما أن النشاط الاقتصادي والإنساني المتزايد في إفريقيا، التي تعتبرها فرنسا حديقة خلفية لها، ليس أمرا مقبولا لدى كل النخب الفرنسية، وخصوصا منها تلك المحسوبة على التيار الماكروني، المرتبط بقوة برجال المال والأعمال في فرنسا. هذا اللوبي يريد أن يظل المغرب مجرد مصنع مفتوح للشركات الفرنسية وسوقا للسلع والبضائع والمقاولات الفرنسية، لترويج القطارات وخدمات توزيع الماء والكهرباء والسيارات في الوقت الذي يريد فيه المغرب أن يخرج من دائرة هذه التبعية المطلقة للفاعل الفرنسي. ويحاول جاهدا أن ينفتح على شركاء وحلفاء آخرين، خصوصا من القوى الجديدة التي تمثلها بلدان صاعدة كالصين والهند وروسيا. الدور الأساسي الذي سيلعبه السفير بنشعبون في باريس إذن هو إقناع النخبة السياسية الفرنسية بهذا التحول الطبيعي في تاريخ بلد مثل المغرب، لم يعد مجرد حليف تابع بل شريكا ينبغي احترامه ومراعاة مصالحه واختياراته. هذه المهمة ليست سهلة ولا ميسرة لهذا الرجل، الذي اعتاد التعاطي مع المعطيات الاقتصادية وتدبير أزمات التوازنات الكبرى للاقتصاد الوطني، المبني في جانب منه على شراكات عميقة ومتشابكة مع الفاعلين الاقتصاديين الفرنسيين. هذه المهمة الصعبة هي تكاد تكون شبيهة بمهمات السفراء المغاربة في القرون الوسطى، الذين كانوا يتوجهون إلى البلدان الأوربية في الجوار المتوسطي، محملين بثقل مواجهة الضغوطات ومحاولة إعادة بلورة العلاقات على منطق الندية وإقناع الآخر بأن الكثير من المعطيات تغيرت على أرض الواقع. وتستدعي هذه المهمة الصعبة بلورة خطاب دبلوماسي مختلف وجريء. ولا شك أن بنشعبون نفسه يمثل جزء من هذا الخطاب، أو الرسالة السياسية التي تريد الدولة المغربية أن توصلها إلى الشريك الفرنسي. إنها الرسالة التي مفادها أن المصالح المشتركة بين البلدين في مجالات عديدة وعلى رأسها المجال الاقتصادي تعد أهم بكثير من الاعتبارات الأخرى، التي تشغل الفرنسيين هذه الأيام على هامش السباق الانتخابي الذي بدأ قبل أوانه. لجوء فرنسا مؤخرا إلى تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة، كان رسالة انتخابية داخلية لكنها تضمنت إشارة سلبية تجاه المغرب والمغاربة، ومن المؤكد أنها إذا أرضت الكتلة اليمينية الناخبة في فرنسا ظرفيا، فلن تمثل بالضرورة قرارا حصيفا ومثمرا في مسار العلاقات بين البلدين. بنشعبون في باريس لأن المغرب يريد أن تتحول العلاقات مع فرنسا إلى علاقات عملية بعيدا عن المزايدات الهوياتية والسياسوية الضيقة.