سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
العلاقات المغربية الفرنسية.. حالات المد والجزر استدعاء الحموشي يوتر العلاقات بين البلدين ودوكول يحمل الحسن الثاني مسؤولية اختطاف بن بركة وميتران يدخل على خط حقوق الإنسان
ظلت العلاقة بين المغرب وفرنسا تعرف حالات مد وجزر كلما صعد اليمين أو اليسار إلى سدة الحكم منذ دوكول إلى فاليري ديسكار ديستان، ثم فرانسوا ميتران وشيراك وساركوزي، قبل أن يصل فرانسوا هولاند اليوم. وظلت ندوات الملك الراحل الصحافية وحواراته، خصوصا مع وسائل الإعلام الفرنسية، هي الفرصة التي يكشف فيها لرجال فرنسا عن معرفته بتاريخ بلد نابليون، وتفاصيل القوانين التي جاء بها. لذلك ظل في المقابل ملكا يحظى بالكثير من التقدير والاحترام من قبل جل قادة فرنسا ومثقفيها، على الرغم من أن بعض رؤساء الجمهورية الفرنسية كانوا لا يخفون انتقاداتهم للسياسة التي ظل ينهجها الملك الراحل في عز قوته. أولى ملامح الخلاف بين الحسن الثاني، وهو لا يزال وقتها وليا للعهد، وقادة الجمهورية الفرنسية انطلقت حينما قال إن والده قامر بعرشه، وخسر الرهان حينما ساير العناصر الوطنية، بدلا من أن يجد مساندا أكبر من قوة الفرنسيين. وهو ما قام به الأمير مولاي الحسن، الذي نجح في صفقته حينما عاد والده إلى عرشه، شريطة ألا يقوم الملك بأي عملية انتقامية ضد زعماء القبائل، الذين ساندوا الاستعمار الفرنسي في خلع السلطان من عرشه، وكان في مقدمتهم القائد الباشا الكلاوي. غير أن هذا التودد للمسؤولين الفرنسيين سيتغير مباشرة بعد اختطاف واغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة حينما قال الجنرال «شارل ديكول»، في اجتماع خاص لمجلس الوزراء الفرنسي في 10 من نونبر من سنة 1965، «إن فرنسا تعتبر ملك المغرب مسؤولا مباشرا عن انتهاك قانون الإنسانية، وقانون فرنسا، وحرمة الأراضي الفرنسية بالتحريض على جريمة القتل، وبالتواطؤ مع عناصر من الأمن الفرنسي. كما سجلتها المخابرات العسكرية الفرنسية من خلال مكالمات تيلفونية». ومن ثم شكلت قضية المهدي بن بركة، أولى الشرارات التي انطلقت معها الخلافات بين فرنسا، التي ظلت تعتبر المغرب بلدها الثاني، وبين نظام الحسن الثاني، الذي كان يرفض أن يقتسم السلطة مع من يعتبرهم خصوما للنظام. نفس هذا المد والجزر، الذي انطلق مع دوكول، هو ما ستعيشه العلاقات المغربية الفرنسية بين يمين ويسار. مع فاليري جيسكار ديستان، كان الحسن الثاني، وهو في عز قوته، يعرف كيف يجر فرنسا إلى صفه، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالملفات الدولية. ومع ديستان، كانت للمغرب الكثير من نقط القوة التي ربحها هنا وهناك. لكن مجيئ فرانسوا ميتران اليساري إلى الحكم، سيقلب الكفة رأسا على عقب. وسيعيش نظام الحسن الثاني واحدة من أصعب مراحل حكمه بعد أن دخل ميتران على خط عدد من الملفات ذات الصلة بملفات حقوق الإنسان. غير أنه مع عودة اليمين لحكم فرنسا مع انتخاب جاك شيراك، سيتنفس نظام الحسن الثاني الصعداء، وستعيش المملكة «أزهى» أيامها في التقارب مع رئيس ظل يعتبر من أقوى المقربين للنظام الملكي إلى درجة أن الصحافة الإسبانية، التي اعتبرت نفسها متضررة من هذا التقارب، سمت الرئيس الفرنسي «شيراك العلوي». نفس هذا الود عاشته المملكة، بدرجات متفاوتة، مع نيكولا ساركوزي. لذلك فحينما كان الفرنسيون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع ليختاروا من يخلفه، كان المغرب بكل مكوناته الشعبية والرسمية، يتطلع لما ستسفر عنه هذه الصناديق لأن ذلك يعنيها بدرجة ما، قبل أن يفوز فرانسوا هولاند بمقعد الرئاسة. كانت الحرب بين «حزب فرنسا»، الذي تكون في المغرب منذ عقود، و»حزب أمريكا»، مشتعلة قبيل وصول محمد السادس إلى الحكم. ولم يكن المتتبعون يخفون حقيقة أن فرنسا كانت تقف في الظل ليصل الملك إلى عرشه بدون إكراهات. وحينما قال الملك محمد السادس بدستور جديد، بعيد اشتعال نيران ما سمي بالربيع العربي، ودعا لانتخابات شفافة ونزيهة، عادت نفس الحرب لتشتعل من جديد. وفي الوقت الذي اعتقد الكثيرون أن «حزب فرنسا» سينتصر، عادت الغلبة «لحزب أمريكا»، التي ظلت مع فكرة إشراك الإسلاميين في الحكم لنزع شوكتهم. لذلك لم يتردد «آلان جوبي»، وزير الخارجية الفرنسي وقتها في التعليق على نتائج الاستحقاقات المغربية حينما قال «إن حزب العدالة والتنمية لم يحصل إلا على 100 مقعد في البرلمان من أصل 400.. وإن باريس تريد ألا يتجاوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي الخطوط الحمراء وهي احترام الانتخابات وحقوق الإنسان والمرأة». وصلت الرسالة. وبعدها كان لا بد أن تصل بقية الرسائل الاقتصادية والثقافية على الخصوص من خلال هيمنة اللغة والثقافة الفرنسية، وهيمنة الشركات الكبرى التي استطاعت، في ملف القطار فائق السرعة المقرر أن يربط بين مدينة طنجةوالدارالبيضاء، «التي جي في»، أن تظهر بشكل مثير وغريب. أما سياسيا، فقد ظلت لفرنسا اليد الطولى في عدد من الملفات لعل أبرزها ملف الصحراء المغربية، الذي تلعب فيه دورا هاما، وتحقق من ورائه عائدات اقتصادية أهم. ثقافيا، ظل «حزب فرنسا» يسعى إلى فرض هيمنته اللغوية والثقافية تمشيا مع الفكر القديم الذي قبلت بموجبه فرنسا أن توقع عقد نهاية الحماية لاستقلال المغرب بعد معاهدة «إيكس ليبان»، والذي يقول بضرورة أن يحافظ المغرب على مصالح فرنسا بعد الاستقلال. اليوم فصول الحرب يتقاسمها الاقتصادي بشكل كبير ومثير، ويحضر فيها السياسي بتصوراته وخططه ورجالاته أيضا. كما تحرك فيها الثقافة الشق الأساسي لكي تظل فرنسا حاضرة بقوة. هذا هو الحقل الذي تتحرك فيه العلاقات المغربية الفرنسية بين رئيس من اليمين وآخر من اليسار. وهو حقل ألغام يحركه الاقتصادي والثقافي، وتجني من ورائه السياسة نتائجها. من دوكول إلى ديستنا وميتران وشيراك، ثم ساركوزي وهولاند. ظلت العلاقات المغربية الفرنسية تحت رحمة مد وجزر. كيف دخلت العلاقات المغربية الفرنسية مرحلة الجمود استدعاء مدير المخابرات كان النقطة التي أفاضت الكأس لم يشكل غياب وزير الخارجية المغربي، صلاح الدين مزوار عن المسيرة التي احتضنتها العاصمة الفرنسية باريس تضامنا مع ضحايا الجريدة الساخرة «شارلي أيبدو»، غير فصل من فصول أكبر في العلاقة الباردة اليوم بين الرباطوباريس، حيث اكتفت السفارة المغربية بإصدار بيان تحدثت فيه عن تقديم الوزير المغربي لتعازي المملكة في ضحايا الاعتداء. فالأجواء بين مملكة محمد السادس والجمهورية الفرنسية ليست على ما يرام منذ جاء الاشتراكي فرانسوا هولاند إلى الحكم، بدلا من نيكولا ساركوزي، الذي ظل يعتبر من المقربين من الملك إلى درجة أن المغرب الرسمي ظل لا يخفي مساندته لفوز ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. غير أن هذه العلاقة ستزداد توترا بعد أن وجه القضاء الفرنسي لمدير الاستخبارات المغربية عبد اللطيف الحموشي أثناء تواجده بباريس، استدعاء للاستماع إليه في قضية تعذيب. كان لا بد أن يستدعي المغرب السفير الفرنسي للاحتجاج على الاستدعاء الذي وجه لرئيس المخابرات، بعد أن قالت السفارة المغربية بالعاصمة الفرنسية إن سبعة من رجال الشرطة الفرنسية زاروا مقر إقامة السفير المغربي «لإبلاغه باستدعاء من قاضي التحقيق» للمدير العام لجهاز مكافحة التجسس». وكان القضاء الفرنسي قد تحرك، بناء على طلب لجمعية «العمل المسيحي من أجل إلغاء التعذيب»، التي دعت السلطات القضائية الفرنسية إلى اغتنام فرصة وجود مدير الاستخبارات المغربية في باريس للاستماع إليه. حيث قدم بطل الملاكمة السابق زكريا مومني أيضا شكوى ضد حموشي، الذي سيقول إنه «شاهد حموشي خلال إحدى جلسات التعذيب، الذي يقول إنه تعرض له، في مركز الاعتقال بمدينة تمارة التابع لجهاز «مراقبة التراب الوطني». لقد وضعت هذه القضايا، العلاقات الفرنسية المغربية في امتحان صعب، لا سيما بعد الرد القوي وغير المعتاد للمغرب على تحرك القضاء الفرنسي تجاه مدير الاستخبارات المغربية. قبل أن تصف الدبلوماسية الفرنسية ما حدث ب»المؤسف». لكن أجواء العلاقات بين البلدين ستزداد توترا أكثر بعد التصريحات التي نسبت للسفير الفرنسي في واشنطن، الذي شبه «المغرب بالعشيقة التي نجامعها كل ليلة، رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها»، على حد تعبيره. ثمة فصل آخر من فصول العلاقة بين مملكة محمد السادس وجمهورية هولاند، وهي المتعلقة بالوضع الأمني لفرنسا على الخصوص. وهو الوضع الذي فجرته عملية الاعتداء على شارلي ايبدو. لقد ساهمت قضية الحموشي في توقيف التعاون الاستخباراتي والأمني بل والقضائي الذي كان سائدا بين البلدين. لذلك لم يتردد نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، في الاعتراف بضرورة تقوية شبكة الاستخبارات مع الأجهزة الأمنية الأجنبية ولا سيما مع كل من تركيا والمغرب. كما دعا وزير الداخلية الفرنسي السابق، على عهد الرئيس جاك شيراك، إلى ضرورة التعاون الأمني والاستخباراتي مع المغرب للتصدي للهجمات على فرنسا. وجاءت هذه التصريحات بعد الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له مجلة «شارلي إيبدو» حيث يكشف هذا حسرة الفرنسيين لفقدان قناة معلومات، مصدرها المخابرات المغربية في الحرب على الإرهاب. أشعلت الحرب السياسية بين المغرب وفرنسا. وفي الوقت الذي تعتبر فيه بعض الجهات، أن القضاء الفرنسي مستقل، وأن خطوة الاستماع لمدير المخابرات المغربي، ليست سياسية، وأن محاولة الاستماع إليه وطرق باب سفير المملكة المغربية في باريس، كان يجب ألا تنتهي بكل هذا الجمود بين البلدين، اعتبر المغرب أن ما حدث لم يكن ضروريا. ومن ثم اختار خطوة تجميد العلاقات المغربية الفرنسية فيما يشبه رسالة احتجاج شعر بها الفرنسيون اليوم، والذي علق بعضهم على أن اختيار الملك قضاء عطلة نهاية السنة في تركيا، بدلا من فرنسا، التي اعتاد أن يختارها كوجهة لقضاء عطلته العائلية نهاية كل سنة، كان رسالة قوية لباريس ولفرانسوا هولاند. يوم دخل فرنسوا ميتران على خط حقوق الإنسان في مملكة الحسن الثاني من مكر الصدف أنه حينما وصل الاشتراكيون إلى الحكم في فرنسا، خصوصا على عهد الرئيس فرانسوا هولاند، كان مغرب الحسن الثاني يعيش سنوات القمع السياسي الذي كان ضحيته الآلاف من مناضلي الحركة الاتحادية واليسار عموما. وهو المسلسل الذي بلغت ذروته يوم 20 يونيو 1981، بعد الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والذي خلف عشرات القتلى في الدارالبيضاء، وكذا الآلاف من المعتقلين على امتداد المغرب، أولئك الذين سماهم وزير الداخلية وقتها ادريس البصري في خطابه الشهير ب»مناضلي كوميرة»، مع ما رافق ذلك من منع صحف اليسار، واعتقال قادة الحزب والنقابة حيث انطلقت محاكمات ماراطونية في كل محاكم المغرب صدرت عنها أحكام ضد العشرات من مناضلي اليسار. وهو ما يعني أنه، بعد شهر ونصف من وصول فرانسوا ميتران إلى قصر الإليزي، كان حلفاء حزبه المغاربة في السجون. وكان لهذا الحراك المغربي القوي والحي صدى هائل في كل وسائل الإعلام الفرنسية، بل إنه كان موضوع اهتمام خاص من قبل الرأي العام الفرنسي. سيتضاعف هذا القمع أكثر في خريف 1981، بعد المحاكمة الشهيرة للزعيم الإتحادي عبد الرحيم بوعبيد، وعدد من أعضاء المكتب السياسي للإتحاد، إثر البلاغ الشهير الرافض لقبول مبدأ الإستفتاء حول الصحراء المغربية بمؤتمر القمة الإفريقي بنيروبي، والذي تقدم به الملك الراحل. والحصيلة هي أن نظام الحسن الثاني سيحكم على صديق ميتران، عبد الرحيم بوعبيد بالسجن سنة نافذة، في سجن ميسور. لقد عاش مغرب الحسن الثاني أكبر أزماته مع فرنسا على عهد رؤساء اليسار وفي مقدمتهم فرانسوا ميتران. والذي كانت مرحلته مؤطرة بظروف خاصة من الجهتين المغربية والفرنسية. فحينما فاز الزعيم الإشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتران في 10 ماي 1981 برئاسة فرنسا، بعد محاولات عدة سابقة لم يحقق فيها فوزا يذكر، كان ذلك تتويجا لتوحيد صفوف اليسار الفرنسي، في المؤتمر الشهير لأميان، والذي برز فيه ميتران كزعيم لليسار يحمل مشروعا سياسيا واضحا، تجميعيا وجريئا. مثلما برزت فيه زعامات جديدة لحزب الوردة الفرنسي، كانت السند الحاسم لميتران، من عيار الثلاثي «جاك دولور»، «بيير موروا»، و»ميشال روكار»، والنقابي «بيير بيريغوفوا». إضافة إلى فريق من القيادات الشابة من عيار «بيير جوكس»، و»رولان فابيوس» و»ليونيل جوسبان». وهي القيادات التي كانت على علاقة وثيقة باليسار المغربي، في إطار الأممية الإشتراكية، خاصة مع قيادات الإتحاد الإشتراكي بزعامة الراحل، عبد الرحيم بوعبيد، ومع جناحه النقابي ضمن المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. في حين ظل نفس نظام الحكم في المغرب يتميز بعلاقات خاصة مع الرؤساء الفرنسيين القادمين من اليمين، خاصة على عهد جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، وقبلهما جيسكار ديستان. على عهد ميتران، كان لابد للوضع السياسي في المغرب أن يشغل اهتمام الرئيس الفرنسي، الذي سيشكل الوضع الحقوقي في نظام الحسن الثاني واحدا من الملفات التي فتحها وهو يقوم بزيارته للمغرب. بل إن تلك الزيارة لم تكن فقط زيارة نقد سياسي، بل كانت حاملة لحلول مساعدة على فك الأزمة المجتمعية الخانقة اقتصاديا بالمغرب، والتي كانت سببا في أحداث الدارالبيضاء سنة 1981 بعد الزيادة الصاروخية في مواد الإستهلاك الرئيسية. لذلك كانت المشاريع المالية التي وقعت بين المغرب وفرنسا خلال تلك الزيارة، من أبرز ما تركه ميتران في المغرب. وكانت الرسالة السياسية الواضحة التي أرادها الرئيس الفرنسي أن تصل وقتها للمغرب، هي أن نظام الحسن الثاني كان عليه أن يغير من استراتيجيته التدبيرية داخليا، سياسيا واقتصاديا وحقوقيا بالإنفتاح على القوى الحية في المجتمع، وإطلاق الحريات النقابية والطلابية والإعلامية، لتجاوزالحصار السياسي والنفق الذي يهدد المغرب. وكانت أهم تلك الأوراق مرتبطة بملف حقوق الإنسان وملف المعتقلين السياسيين والمنفيين، وأيضا ملف المختطفين ومجهولي المصير. وكانت قوة ذلك الضغط، قد بلغت درجة جعلت صورة المغرب سلبية جدا على المستوى العالمي في كافة المحافل والمنظمات الدولية. وأصبح النظام المغربي، سياسيا، يصنف كنظام قمعي استبدادي. ومع توالي السنوات، كانت مواقف باريس أكثر تشددا. وكان المشهد الإعلامي والحقوقي الفرنسي يتابع ويفضخ حلقات مسلسل الخروقات بالمغرب، فيما كانت وزارة الداخلية، على عهد الراحل ادريس البصري تكتفي بشحذ المغاربة، بالإكراه، للتعبير عن رفضهم لمواقف باريس تلك. وبلغ الأمر دروته بعد صدور كتاب جيل بيرو الشهير «صديقنا الملك» الذي أصبح قضية دولة، وتسبب في أزمة حقيقية بين قصر الإليزي ونظام الحسن الثاني. انتظرنا سنة 1994 مع صدور العفو الملكي العام على المعتقلين السياسيين والمنفيين والنقابيين والطلبة، وتأسيس النواة البكر للمجلس الإستشاري لحقوق الإنسان، وتأسيس المجلس الوطني للشباب والمستقبل كإطار لبلورة حلول ناجعة للأزمة الإقتصادية والإجتماعية الخانقة بالمغرب، ليقتنع أخيرا نظام الحسن الثاني بقيمة تلك الرسائل التي أرادها فرانسوا ميتران. علما أنه كانت للراحل ميتران علاقة خاصة مع المغرب، فهو مطلع على الملف المغاربي بشكل جيد منذ أربعينيات القرن العشرين لدرجة أنه قدم استقالته احتجاجا على نفي محمد الخامس من حكومة أنطوان بيني سنة 1953، وكان وراء إصدار البيان الشهير ب»بيان من أجل فرنسا والمغرب العربي» الذي وقعه معه كبار مفكري فرنسا وأدبائها من طينة «ألبير كامو»، و»جون بول سارتر»، و»لوي فالون» و»ألان سافاري». بين ثمانينيات ميتران والحسن الثاني، والآن مع وجود فرانسوا هولاند ومحمد السادس، راهن الكثيرون على أن يشكل الاقتصاد المحرك الأساسي للعلاقة بين البلدين، اللذين حكمت عليهما ظروف الاستعمار أن يتعايشا، خصوصا وأن ساركوز ثبت، قبل أن يغادر قصر الإيليزي في 2012، أقدام الفرنسيين في أكثر من قطاع صناعي وتجاري وسياحي أيضا. لكن يبدو أن رياح الاختلاف هبت ولا تزال على العلاقة بين مملكة محمد السادس وجمهورية الاشتراكي فرانسوا هولاند. وهي رياح تزيد يوما عن يوم. يوم علق ساركوزي على دستور 2011 وقال إن المملكة نموذج للديمقراطية ظل المغرب، الرسمي والشعبي على السواء، يولي أهمية كبرى للانتخابات الفرنسية بالنظر إلى الدور البارز الذي تلعبه فرنسا في العديد من القضايا والملفات المهمة. فقد كانت باريس سياسيا ولا تزال هي المدافع الأول عن مقترح الحكم الذاتي المغربي في نزاع الصحراء المغربية، خصوصا حينما يتعلق الأمر برئيس من اليمين، الذي تربطه بالنظام المغربي علاقة خاصة. لقد اتسمت هذه العلاقة تاريخيا بالتقارب والتفاهم الدائم، إذا ما قورنت بعلاقته باليسار الفرنسي، الذي عرف فترات صعبة، مثل تلك التي تلت اختطاف واغتيال الزعيم اليساري المهدي بن بركة، في باريس، خلال الستينيات، ثم الخلافات التي نشأت على عهد الرئيس فرانسوا ميتران والملك الحسن الثاني في الثمانينيات، على خلفية اضطهاد المعارضة اليسارية، حيث وصلت الأمور إلى حد سحب السفير الفرنسي من المغرب. لقد كان من مصلحة النظام الملكي دائما بقاء اليمين الفرنسي في الحكم، لأنه أكثر تفهما لطبيعته. بينما يخضع اليسار لعلاقات البلدين على الدوام بمدى الاحترام الفعلي للحريات ولحقوق الإنسان. ومع ذلك، فقد تحرك نظام محمد السادس في عز الحملة الانتخابية لرئاسيات فرنسا، لفتح قنوات الاتصال مع الحزب الاشتراكي الفرنسي، حينما استقبل الملك محمد السادس مبعوثة فرانسوا هولاند، مارتين أوبري. خصوصا وأن المتتبعين ظلوا يرون أن الرئيس الاشتراكي الجديد لن يكون راديكاليا مثل ميتران في موقفه من المغرب، لأنه محاط بعدد من الشخصيات ذات الأصل المغربي، والتي ظلت تنظر بإيجابية إلى الإصلاحات الأخيرة التي عرفتها مملكة محمد السادس، ومن هؤلاء مديرة حملة هولاند، نجاة بلقاسم. قبل هولاند لم يتردد نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، في القول وهو يعلق على دستور 2011 إن «المملكة نموذج في الديمقراطية». لقد وصلت رسالة ساركوزي للمغاربة، الذين يعرفون أن نظام محمد السادس كان أكثر حضورا في اهتمامات الرئاسة الفرنسية، التي حافظت على ما سبق أن وضع أسسه جاك شيراك. ولأن الاقتصاد والمال هو عصب كل علاقة دولية، فقد وقعت حكومة ساركوزي في آخر لقاء للاجتماع المغربي الفرنسي الحادي عشر رفيع المستوى، بالرباط، على 13 اتفاقية للتعاون بين البلدين في عدد من المجالات، بينها اتفاقيتا قرض بقيمة 107 ملايين أورو من الوكالة الفرنسية للتعاون، تخصص 50 مليونا منها لتمويل برنامج الوكالة الوطنية للموانىء للاستثمار بالموانىء الجهوية٬ و57 مليون أورو لتمويل البرنامج الثالث لتعزيز شبكة نقل الكهرباء. وتوزعت الاتفاقيات الموقعة بين المغرب وفرنسا خلال ذلك الاجتماع، بين اتفاقية للتعاون في مجال تطوير الاستعمال السلمي للطاقة النووية٬ وأخرى للإعفاء المتبادل من التأشيرة لفائدة حاملي جوازات الخدمة، زيادة على تصريح مشترك لدعم التعليم والتكوين باللغة الفرنسية بالمدرسة، واتفاق إداري بين وزارتي العدل بالبلدين، وتصريحا بالنوايا بين وزارة الداخلية الفرنسية ونظيرتها الفرنسية، إلى جانب اتفاق تقني يتعلق بالتكوين التطبيقي لأطقم المروحيات، وتصريح مشترك حول التوطين المشترك في المجال الصناعي. وقال رئيس الحكومة وقتها «إن العلاقات المغربية الفرنسية نشأت لتستمر». فالمغرب ليس بلدا مغلوقا، بل كان دائما مفتوحا، وإذا كان كذلك، فهو لصالح الفرنسيين. قبل أن يخاطبهم بقوله: «لا تعتبروننا سوقا بل شركاء». ظلت المملكة على عهد نيكولا ساركوزي حاضرة في اهتمامات الدولة الفرنسية ليس سياسيا فقط، بل اقتصاديا أيضا. وعرف ساركوزي كيف يبحث لمواطنيه من رجال المال والأعمال عن الكثير من الصفقات التي وفرت بالتالي فرص شغل مغربية. ومن الأرقام التي تفخر بها حكومة ساركوزي في المغرب ما خصصته الوكالة الفرنسية للتنمية، من تمويلات وصلت 173 مليون أورو، منها 150 مليونا لتمويل برنامج قطب تكنولوجي، ومناطق الصناعات المندمجة المندرجة في الميثاق الوطني للإقلاع الصناعي الرامي إلى تطوير عرض «المهن العالمية للمغرب» والتي تضم «الأوفشورينغ» و»الإلكترونيك» وتجهيزات السيارات، وصناعة الطيران، والصناعة الغذائية، والنسيج والجلد. في حين خصصت 23 مليون أورو المتبقية، لفائدة شركة مشاريع النقل في الدارالبيضاء ومنها مشروع التراموي. غير أنه بموازاة مع هذا الحضور الفرنسي اللافت اقتصاديا، ظل مغاربة فرنسا يعانون أكثر في ظل حكم اليمين وفي مقدمتهم نيكولا ساركوزي الذي قاد أكثر من حملة لطرد المهاجرين وتشديد عملية اندماجهم في المجتمع الفرنسي مقارنة مع القادمين من دول شرق أوروبا. في 2011 كانت زيارة ساركوزي للمغرب، وهي الثانية، إعلانا عن أكثر من حسن النية. ولعل خطوة تدشين مشروع « تي جي في» الرابط بين طنجةوالدارالبيضاء كانت هي الدليل على أن فرنسا، لا تزال حاضرة في أكبر المشاريع الاقتصادية لمغرب محمد السادس. لقد دعمت حكومة ساركوزي بقوة ملف حصول المغرب على صفة الوضع المتقدم في الاتحاد الأوربي. وحينما أخرج ساركوزي مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، من أجل استتباب الأمن ومحاربة الارهاب وحوار الثقافات، كان يعرف أن المغرب سيكون من أشد مسانديه. لذلك لعبت فرنسا دورا كبيرا في تولي الكاتب العام في وزارة الخارجية التعاون السابق يوسف العمراني منصب الأمانة العامة للإتحاد. وهو ما اعتبر من أهم مؤشرات عودة التنسيق بين الطرفين على أعلى مستوى، ليتواصل فيما بعد بتشكيلهما جناحا هاما داخل مجموعة الاتصال الدولية الخاصة بشأن ليبيا. قبل أن تنشر بعض وسائل الإعلام الفرنسية خبر شراء نيكولا ساركوزى لقصر فخم بالمدينة الحمراء بقيمة خمسة ملايين يورو، مشيرة إلى أن هذا القصر يمتد على مساحة 1500 متر مربع، ويضم عدة مرافق ضمنها قاعة سينما، وثمانية أجنحة فخمة، وصالة تجميل، وحوض سباحة بمساحة 21 مترا على سبعة أمتار وحديقة بها 600 نوع من مختلف الأغراس والزهور. كيف أصبح جاك شيراك واحدا من «الأسرة العلوية» لم يتردد أفراد من العائلة الملكية في طلب تدخل الرئيس الفرنسي «جاك شيراك» لإقناع الحسن الثاني بضرورة إشراك ولي عهده الأمير سيدي محمد في تدبير الملفات السياسية لتدريبه على الحكم، قبل أن يعتذر شيراك عن هذا الطلب الحساس، خصوصا أن الكثير من المتتبعين للشأن المغربي في علاقته بفرنسا على عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، ظلوا يصفون تلك العلاقة ب «القضية العائلية». وقبل أحد عشر يوما من وفاة الحسن الثاني، اختار الملك الراحل أن ينزل ضيفا على جاك شيراك. وهناك كان لا بد أن يضع بين يديه الوصية، حين طلب منه، من خلال حديث قصير غلبت عليه العاطفة، أن يرعى بناته وأبناءه، وأن يكون لهم بمثابة الأب، وأن يساعد الملك المقبل محمد السادس في مهمته حينما يغادر هو إلى دار البقاء. أما جاك شيراك، فقد اعترف بعد ذلك بأنه مدين للحسن الثاني بنوع من الإلمام بتعقد العالم العربي والإسلامي وقيمه، كما «أدين له، يقول شيراك، بتحليلاته الثاقبة للمآسي وكذلك لحظوظ السلام في الشرق الأوسط، وبالإدراك الواضح للرهانات الدولية، ولدور أوروبا في حوض المتوسط، وكذلك بما ينتظره العالم من فرنسا». ولذلك أيضا سمت الصحافة الإسبانية في أكثر من مناسبة، وبعد أن وجدت أن فرنسا فتحت لجارها المغرب الكثير من الطرق والممرات في السياسة وفي الاقتصاد، الرئيس الفرنسي ب»شيراك العلوي». وقد امتدت هذه العلاقة منذ الحسن الثاني، وتوطدت أكثر في السنوات الأخيرة من عمره إلى درجة أنها أغضبت أحيانا المجتمع السياسي الفرنسي الذي ظل يطالب، إذا كانت فرنسا ترغب حقا، كما يصرح بذلك مسؤولوها، في مساعدة المغرب، بإعادة النظر في علاقاتها به، في الاتجاه الذي ينقلها إلى علاقات موضوعية وأكثر شفافية. يحكي الكاتب الصحافي «جان بيير توكوا» في كتابه عن العلاقة بين النظام المغربي وجاك شيراك «جلالة الملك، أنا مدين لوالدك بالكثير»، عن أبرز المظاهر التي تمنح هذه العلاقات طابعا استثنائيا واضحا، إلى درجة ظلت تثير استغراب الدول الأوروبية. فمنذ ليوطي، أشهر مقيم فرنسي إبان عهد الحماية الفرنسية التي فرضت على المغرب، ظل هذا البلد يسيل لعاب الفرنسيين. وبالمثل، ظل بلد الأنوار مغريا للمغاربة. فبالنسبة للفرنسيين، يمثل المغرب الشمس والطبيعة والطاجين، كما كتب «بييرا تيكوا». وما عدا ذلك، فهو سوق مهمة للاستثمار. أما فرنسا، فتعني بالنسبة للمغاربة الملاهي والبحث عن المتعة وبعض الأعمال، وهي ظاهرة ستتعمق وتتوطد أكثر بعد انتخاب جاك شيراك رئيسا للجمهورية الفرنسية، فمن زيارة رسمية إلى إقامة خاصة، ومن يوم دراسي إلى توقيع اتفاق تجاري إلى افتتاح ملتقى أو تدشين بناية رسمية، ازداد التقارب بين الرباطوباريس إلى حد أصبح يضرب به المثل في باقي عواصم الدول الأوروبية. ويحكي الكاتب كيف أصبحت فرنسا، في إطار علاقاتها بالمغرب، تمثل المرتبة الأولى في كل شيء. فهي المصدر الأول للسياح بأكثر من مليون سائح فرنسي سنويا. وهي الشريك التجاري الأول، والمستثمر الأجنبي الأول، والمقترض الأول، والمانح الأول أيضا. فكبريات البنوك الفرنسية والشركات حاضرة في شوارع أهم المدن المغربية، مثل شركة «فيفاندي» التي وصلت إلى «اتصالات المغرب» للهاتف والأنترنيت. ومجموعة «أكور» الفندقية التي أضحت بمثابة إمبراطورية داخل المملكة، وكذلك شركة «بوينغ» التي انخرطت في عالم البناء. فبعد أن حازت على صفقة تشييد مسجد الحسن الثاني، استحوذت على صفقة أخرى لا تقل أهمية وهي بناء ميناء طنجة المتوسطي. أما شركتا «سييس» و»فيوليا» فهما تتقاسمان سوق المواد الغذائية والمياه المعالجة، حسب تيكوا. وكذلك تدبير نفايات المعامل الكبرى، أما شركة «دانون» فهي تغرق المغرب بمنتوجاتها، في وقت تهيمن فيه «رونو» على سوق السيارات. وبذلك فإن الفرنسيين يكونوا قداشتروا كل شيء. ورغم الواقعة التي يرويها الكاتب عن رفض الملك الحسن الثاني الاستجابة لطلب صديقه شيراك بتنويع علاقاته في مجال الطيران والاقتراب من شركة «ايرباص» الفرنسية، بدلا من أن يستمر وفيا لزبونه التقليدي «بوينغ» الأمريكية، معللا رفضه ب «الدواعي الديبلوماسية»، إلا أن ذلك لم يمنع الفرنسيين، مع تولي الملك محمد السادس العرش، من النجاح في وضع حد للاحتكار الذي ظلت تمارسه شركة الطيران الأمريكية في هذا المجال، حين عرضت شركة الخطوط الجوية الملكية المغربية عام 2005 على «ايرباص» صفقة تحديث جزء من معدات الطيران المغربي، قبل أن تحصل «داسو» الشركة الفرنسية المعروفة، عليها. وصف شيراك وهو في قصر الإيليزي بمحامي المغرب. بعد أن وجد نفسه في قلب هذه الظاهرة، اذ طالما شدد على أن علاقته بملك المغرب وبعائلته، قوية. كما أن واقع الممارسة كشف إلى أي حد ظل هذا البلد حاضرا في «أجندة الرئيس» وفي اهتماماته المختلفة. فإلى جانب حرصه الشديد على أن يجعل من المغرب مستقره الثاني ومكانه المفضل لقضاء عطله الخاصة، حيث كان من قبل في مراكش وأصبح في ما بعد في تارودانت، ظل بمثابة «محامي» المملكة والمدافع عنها وعن قضاياها. ويضرب الكاتب المثل على ذلك بموقفين أولهما معارضة شيراك لأي اختيار من شأنه أن يمس بمصالح المغرب في قضية الصحراء، حتى عندما كان المجتمع الدولي يتجه نحو اعتماد مخطط جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، والممثل الأسبق للأمين العام للأمم المتحدة في الصحراء المغربية بشأن تقسيم المنطقة بين المغرب وجبهة البوليساريو، إذ تدخل «صديق المغرب» لوضع تعديلات على صيغة هذا المخطط تصب في صالح المغرب. أما الموقف الثاني فقد تجلى في قضية «جزيرة ليلى» التي تسببت بأزمة ديبلوماسية غير مسبوقة في تاريخ العلاقات المغربية الإسبانية، وكان شيراك حاضرا بقوة إلى جانب المغرب، للحيلولة دون أن تقوم الأجهزة الأوروبية باتخاذ موقف متطرف ضد المغرب، ومن أجل لجم إسبانيا حتى لا تقوم بردود فعل عنيفة تجاه جارها الجنوبي. وهو الموقف الذي أقلق إسبانيا كثيرا، كما كشف ذلك رئيس حكومتها آنذاك خوسيه ماريا أزنار، بعد أربعة أعوام من الحادث، حين صرح بأنه «لم يكن المغرب وحده وراء المبادرة، بل كانت هناك دولة أخرى، في إشارة إلى فرنسا. لقد كان مؤكدا أن شيراك ساند المغرب عندما دخل الجزيرة. ومما يكشفه الكاتب هو أن دور «المحامي» هذا أخذ يلعبه شيراك حتى في بعض القضايا العائلية المحضة، ويقول: «كثيرا ما تدخل في قضايا من هذا النوع حتى أن الأميرة للامريم، كبرى بنات الملك الراحل الحسن الثاني، ظلت بالنسبة إليه الملجأ عندما يريد أن يوجه رسالة ما إلى أخيها الملك».