لم تكن العلاقة بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية في عهد الاشتراكيين عادية وبسيطة، بل لم يسبق أن كانت العلاقة بينهما في عهدي "فرانسوا ميتران" والعاهل المغربي الراحل، سمن على عسل، في الوقت الذي كانت فيه الرابطة بين المملكة المغربية وجمهورية ساركوزي أكثر من طيبة. كل شيء بدأ قبل سنوات. لا، بل كل شيء بدأ قبل عقود. عندما يسكن الإشتراكيون قصر "الإليزيه"، يكون لون العلاقة السياسية بين الرباط وباريس رمادي، لا تتخذ لون السواد ولا البياض في نفس الآن، ولذلك كانت العلاقة بين "ميتيران" أو "فرونسوا الأول" كما يلقبه البعض، وبين الملك الراحل الحسن الثاني حذرة، وقد ترتب عن هذا الوضع التاريخي معادلة تتمثل تفاصيلها في أن يبقى "الإليزيه" قلعة بعيدة عن الاشتراكيين، وفي أن تبقى المملكة بعيدة عن حسابات الاشتراكين واليمينيين في ما بينهم. حينما انتخب فرانسوا هولاند أو "الرئيس العادي جدا" كما لقب نفسه، خرج "نيكولا ساركوزي" من الباب الضيق للإليزيه، لكن لا أحد كان يعتقد أن يطفو نجم شبيه "بونبارت" في سماء السياسة من جديد، فقد عاد إلى الواجهة تارة بتفتيش مكتب محاماته من طرف القضاء الفرنسي، وتارة أخرى من خلال العطل المخملية تحت شمس مراكش رفقة زوجته عارضة الأزياء السابقة "كارلا بروني"، حتى بلغ إلى الصحافة الفرنسية أن "ساركو" اقتنى قصرا بمنطقة النخيل بحوالي ست مليارات سنتيم، دون الحديث عن استفادته من طائرة ملكية وضعت تحت إمرته لتوفر عليه عناء التنقل من باريس إلى مراكش. لم تنقطع علاقة "ساركوزي" بالمغرب، حتى حينما سلم مفاتيح "الإليزيه" إلى "فرانسوا هولاند"، فالرئيس السابق لفرنسا، والزعيم الكبير لليمينيين، أصبح مستشارا كبيرا للمملكة المغربية، والكلام هنا للكثير من الأخبار التي تواترت في الآونة الأخيرة، منذ لقاءه السري مع رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران مع بداية صيف هذه السنة، وهو اللقاء نفسه الذي لم يبخل فيه الرئيس الفرنسي السابق بنصائحه للرئيس الجديد للحكومة المغربية، ومنها ضرورة احتياطه من مغبة التعامل المفرط مع الصحافة، وذلك حينما وصف له معشر الصحافيين باليساريين، ربما لأنه يميني الهوى والانتماء، فكانت آذان بن كيران صاغية لحكمة الرئيس السابق. ومن سخرية القدر أنه أياما بعيد هذا اللقاء أقسم رئيس الحكومة بأغلظ اليمين بألا يرد على مكالمات الصحافيين عقابا لتناولهم موضوع علاقته بمحيط الملك، وهو الأمر الذي كلف عبد الإله اعتذارا للملك عن شيء لم يفعله. قد تكون نصيحة ساركوزي لبن كيران بشأن الصحفيين، هي أول مهمة غير رسمية لمستشار غير رسمي، وقد يكون الخبر الذي تداولته بعض المواقع الإخبارية جاء فيه أن نيكولا ساركوزي نصح الملك بإبعاد منير الماجيدي عن الاقتصاد المغربي أكبر دليل على انخراط ساركوزي في عمله الجديد دون مواربة. من يعرف مسار ساركوزي وهو الرجل الذي خبر منعرجات السياسة بكل عقباتها، يعرف أنه إنسان يأبى حياة الظل، فدراسته المعمقة للقانون التجاري جعلت منه شخصا براغماتيا يهوى سمو المناصب وعظمة الهالة الإعلامية، فأول شيء بدا به عند تسلمه مفاتيح الإليزيه من سلفه جاك شيراك، لم يكون لا ملف الهجرة ولا الأزمة المالية، بل كان "تغيير" زوجته سيسيليا بنجمة عرض الأزياء كارلا بروني، فخلق الحدث بأول زفاف لرئيس فرنسي في قصر الإليزيه، وحتى عندما تكالبت الأزمة العالمية على فرنسا، لم يجد ساركوزي غير فتح مشروع الحديث عن مفهوم "الهوية الفرنسية" ريتما يجد لبلاده مخرجا. يرى المراقبون أن ساركوزي لم يكن في يوم من الأيام صديقا للمغرب، عكس جاك شيراك، فجميعنا يتذكر ما حدث في المواجهة المباشرة في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية ضد "فرانسوا هولاند"، وكيف ارتدى "ساركوزي" من جديد جلباب اليمين ليغازل الفرنسيين "الحقيقيين" بشأن سياسته في مجال الهجرة بخطاب لم يرق للمهاجرين الذين يتقدمم المغاربة، فمنطق البراغماتية كان ولا يزال منهجه في الحياة السياسية. الآن وفي ظل حكومة فرنسية تميل أكثر للجزائر، لم يجد المغرب الا خيار الديبلوماسية السرية، فاليوم ساركوزي مستشار في الأمور السياسية وغذا دومنيك ستروس كان في الأمور الاقتصادية، لتظل "خالتي فرنسا" تراقب التطورات في المغرب في السر والجهار.