إن تطور أو رفاه حضارة من الحضارات، مرتبط بحرية الإنسان، وبقدرته على التفكير والإبداع، وعلى خلق واقتراح الأفكار، وعلى ما يُبْدِيه من رأي ونقد، كلما رأى أن أمراً ما من أمور البلاد انحرف عن مساره، أو هو عُرْضَة للانحراف والفساد، سواء في السياسة أو في المجتمع أو في الاقتصاد، وفي إدارة دواليب الدولة ومؤسساتها. حتى حين لم يكن للصحافة وجود، كان المفكرون والمبدعون، والفقهاء والعلماء، هم من ينتقدون، وهم من يَعِظُون، ويُنَبِّهون إلى مواطن الخلل، في الإدارة والحكم، بما في ذلك ما بدا في حكم بعض السلاطين من خروج على الإجماع، أو ما يمكن اعتباره «تعاقُداً»، كان هو ما يضمن سير أمور البلاد بما تقتضيه الشرائع والقوانين والأعراف الجارية في البلاد. المثقفون، في العصر الحديث، هم من قاموا بهذا الدور، وهم من كتبوا وانتقدوا وأبْدَوْا رأيهم في قضايا الشأن العام، بل هم من درسوا وحللوا بنيات المجتمع، وعملوا على كشف الأعطاب التي تُعيق النمو والتطور والتقدم، وكانت العلوم الإنسانية، خصوصاً السوسيولوجيا والأنثربولوجيا والتاريخ والفلسفة وعلم النفس، بين أهم هذه العلوم التي فككت بعض هذه البنيات، وعملت على تشخيص مفاصل الخلل في المجتمع، في فكر وذهنية الإنسان، بل في ذهنية الدولة وما تقوم عليها من سلطة، أو تسلط بالأحرى. فالمثقفون، هم من كان جلدهم يتعرض للسَّلْخ، وهم من تحملوا تبعات أفكارهم، وعوقبوا بأشد العقوبات، وتعرضوا للسجن والنفي والإقصاء، ومثال ذلك في حضارتنا العربية، محنة ابن حنبل، على عهد الدولة العباسية، ومحاكمة ابن رشد وإحراق كتبه على عهد الدولة المرابطية، وما تعرض له قبلهما عبدالله بن المقفع من عقاب شديد، عن نقده للحكام وأشكال الحكم التي هي استبداد بالرأي، واستفراد بالسلطة، سواء في كتابه «كليلة ودمنة»، أو في غيره من الكتب التي كانت وَبَالاً عليه. الشِّعر بدوره لم يفلت من هذا التوتر الحادّ بين الثقافة والسلطة، وقد تمثَّل ذلك في محنة بشار بن بُرد، الشِّاعر الأعمى، الذي سجن وعُذِّب، وقُتِل تحت التعذيب، بسبب لسانه وما جَرُؤ عليه من رأي وخيال. لم تتوقف محنة الفكر والخيال والرأي والعقل، ولم تتوقف الحرب الضارية بين السياسة والفكر، أو بين السياسة الخيال، بل استمرت السلطة في معاداة المثقفين والفنانين والشعراء والمبدعين، وهي إما تكون سلطة باسم الدين، أو سلطة باسم السياسة، لأن المثقف وصاحب الرأي والفكر، لا رجال الدين، ولا رجال السياسة، يقابلون فكره بالنقد والقراءة، ومواجهة الحجة بالحجة، وتفنيد ما يقوله، وما يُبْدِيه، لأن الرَّجُلَيْن معاً، لا يملكان فكراً، وليست لهم حجج ولا براهين بها يواجهون حجة المفكر والشاعر والمثقف والمبدع والفنان، لذلك فهم كانوا يهربون من مواجهة السلطة الرمزية، باستعمال السلطة الزجرية والقهرية، التي هي سلطة المحاكمة والتهميش والسجن والتعذيب والإقصاء، ومواجهة العقل بالاعتقال، وهذا في ذاته تعبير عن عجز السلطة، عبر التاريخ، عن أن يكون لها مفكرون ونقاد وفلاسفة، يَرُدُّون عن الفكر وبالفكر، والنقد بالنقد، والعقل بالعقل، ويعملون على فضح بطلان ما يُقال في حق الحاكمين، أو من هم في درجتهم من المسؤولين في الدولة، بمختلف فئاتهم وطبقاتهم. الصحافة والإعلام، اليوم، باتا في مرمى السلطة، لأنهما هما سلطة قائمة بذاتها، لذلك، عانتا عبر تاريخهما من محن كثيرة، كثيراً ما أفضت، مثلما يحدث للمثقفين، إلى اعتقال الصحافيين والإعلاميين، وإلى محاكمتهم، وإلى مصادرة الجرائد والمواقع الإعلامية، بدعوى المس بالأمن العام، أو بتكييف قضايا الرأي مع قضايا الإجرام، لتصير القضية خارج قضايا الرأي، ويتحول الرأي والفكر، بالتالي، إلى جريمة مثل كل الجرائم. لا أعتقد أننا سنخرج من هذا الصراع المرير، بكل مستوياته وأشكاله، لأنه، هو صراع بين سلطتين، كلتاهما لا تتنازل عن دورها، أو لا ترغب في أن تبدو الواحدة منهما عاجزة أمام الأخرى، أو تابعة لها، أو تنصت إليها، فالمواجهة تزداد حدة، وبقدر ما السلطة الزجرية والقهرية للدولة تعمل على الردع والقمع، بقدر ما تعمل السلطة الرمزية على النقد والإصرار على قول ما تراه عين الصواب، في ما تصل إليه من نتائج، لأن الدولة دورها أن تخفي الحقيقة، ودور المثقف والإعلامي هو كشف الحقيقة، وهذا هو جوهر التعارض والتوتر بين الطرفين، وهو مستمر، لا يمكن حسمه، إلا بتوسيع مجال الحرية والرأي، والانتصار للديمقراطية، بمعناها الأثيني، حين انهرمت أثينا التي كانت رمزاً للتربية العقلية، أمام إسبارطة التي كانت رمزاً للتربية البدنية، أو التربية على القوة الجسمانية، ما جعل أفلاطون وتلميذه أرسطو لاحقاً، يهاجمان الديمقراطية، ويعتبرانها كارثة، وينبغي القضاء عليها، لأن أثينا انهزمت أما إسبارطة بسبب الديمقراطية، ما جعل الديمقراطية تختفي وتَنْكَتِم حوالي قرنين من الزمن، ولم تعد إلى الظهور إلا في آفاق القرن السادس عشر. فهل نحن ساعون لكتم الديمقراطية، وأن نضع الحرية والعقل، في مراجهة الزجر والردع، وسلطة القوة البدنية، التي كانت هي قوة إسبارطة في مواجة أثينا!؟