لطالما شكل الحديث عن مفهوم المثقف و علاقته بالسلطة مجالا خصبا للكتابة و التعرض بالنقد و التحليل من طرف الكتاب و الأدباء و المفكرين و الفلاسفة و النقاد و الباحثين، كل يدلو بدلوه لعله يضيف لهذا المدلول الغامض و الملتبس شيئا من التوضيح ينير به طريق البحث و يزيل لغما من الألغام الإشكالية في ضبط هذين المفهومين: المثقف و السلطة. فتاريخيا مفهوم المثقف غربي بامتياز، و رغم وجود إرهاصات قوية لتواجد وظيفته منذ قدم التاريخ، إلا أن المصطلح ظهر بشكل حاسم و قوي في فرنسا، عندما تم اعتقال ضابط في الجيش الفرنسي من أصل يهودي يدعى "دريفوس" سنة 1894 ، بتهمة التخابر مع الألمان، فتم تجريده من عمله و الحكم عليه بالإعدام. فكتب إيميل زولا رسالة لرئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك رسالة يحتج فيها على هذه الواقعة التي عرفت تضامنا غير مسبوق من أصحاب الرأي و الكتاب و المفكرين، فأطلق عليهم لفظة "مثقفين". كما أن مفهوم مثقف مرتبط بلفظة "أنتلجنسيا" و التي تدل على فئة من الناس ممن يمتهنون الأعمال الذهنية تمييزا لهم لهم عن ذوي الحرف اليدوية. و قد تطرق لموضوع المثقف بالشرح و النقد و التحليل العديد من الكتاب و الفلاسفة و النقاد الغربيين، و كذلك العرب و نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر "إدوارد سعيد"، "محمد أركون"، "عبد الله العروي" و "محمد عابد الجابري" ... في الحقيقة لا يمكن المرور على مفهوم "المثقف" دون التذكير المقتضب بمقولة "المثقف العضوي" عند "أنطونيو غرامشي"، الذي تطرق له في دفاتره بالسجن في إيطاليا، و الذي وضعه فيه "موسوليني"، باعتبار أن وظيفة المثقف هي الانخراط في الشأن العام، و كذلك مقولة المثقف الملتزم" لجون بول سارتر التي لا تبتعد عن نفس المفهوم. و هما مقولتان مهمتان لا يستطيع المتخصص في هذا الموضوع أن يمر عليهما مرور الكرام. و بالعودة للحديث عن علاقة المثقف بالسلطة تجعلنا أمام نوعين من المثقفين و هما المثقف على يمين السلطة بمعنى المنضوي تحت لوائها و المتماهي معها، و المنافح عن أطروحاتها و سياساتها، و هو ما يمكن التعبير عنه في ثقافتنا العربية الإسلامية "علماء البلاط" أو "فقهاء السلاطين"، و المثقف عن شمال السلطة و هو ذلك المثقف الملتزم الناقد. و حتى لا ندخل في متاهات و مطبات متعلقة بالإشكال المفاهيمي و التي تحتاج لكثير من الاستفاضة، فنحيل إلى ما قاله الأستاذ "محمد عابد الجابري" في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل و نكبة ابن رشد" من أن لفظة مثقف تحيل إلى صاحب مشروع و تصور لقضايا المجتمع، و صاحب الرأي و الناقد. و في الحقيقة أن الأستاذ الجابري عبر كتابه المشار إليه قدم تبيئة رائعة من خلال تنزيل مفهوم الثقافة الغربي على ثقافتنا العربية الإسلامية ليستنبط من خلالها معاناة أصحاب السلطة الثقافة (المثقفون) من ويلات في مواجهة أصحاب السلطة السياسية (الخلفاء و السلاطين" و أصحاب السلطة الدينية (علماء الدين و حتى الخلفاء و السلاطين باعتبارهم يحكمون باسم الله)، كما أن للأستاذ "محمد أركون" مساهماته الكبيرة و المفيدة كذلك في تبيئة مفهوم المثقف و السلطة لجعله متلائما مع الحضارة العربية الإسلامية. لطالما وصف المثقف بكونه متعاليا و حبيسا لبرجه العاجي، و لكن إذا ما تأملنا ثم تعمقنا في هذا الاتهام الذي يبدو مقبولا لأول وهلة، سنجد أن المجتمع و كذلك السلطة يتنكران للمثقف بدورهما، مما يؤدي به إلى مقابلة التنكر بالنرجسية، و بالتالي فالجفاء هو السمة الغالبة في هذه العلاقة ثلاثية الأطراف : المثقف – السلطة – المجتمع. و يبقى دور المثقف مثيرا للقلق خاصة في حضارتنا العربية الإسلامية، ما لم يتم فتح المجال أمام التجديد و إعادة المساءلة و فحص التراث، و قد كشف عن كنه هذه الحالة الخطيرة الأستاذ عبد الله العروي الذي يرى و بحق أن المثقف وليد و إنتاج ثقافة، و هذه الأخيرة إنما تنتج عن وعي و سياسة، حيث ظل المثقف العربي حبيس تصورين لا ثالث لهما إما الاغتراب (بمعنى الاستلاب الحضاري و الثقافي بالغرب) أو الاعتراب (بمعنى ظل حبيس ثراته)، حيث يرى "العروي" أن الاعتراب أشد استلابا و خطرا و أنكى من الاغتراب، لذلك وجب التمرد على الاتجاهين و التحرر منهما معا، فدور المثقف حتى بالنظر لرمزيته يبقى التعمق بحرية و دون تقيد في جوهر القضايا بحثا عن الحقيقة. ذات يوم قال نابليون بونابارت عندما أسمع كلمة مثقف أستل مسدسي على الفور، في واقع الأمر تكفي هذه الجملة للاستدلال على الصداع المزمن الذي يشكله المثقف في رأس السلطة الحاكمة بشقيها السياسي و الديني اللاهوتي، فمثلا تكفي قصيدة حتى يزج بشاعرها في غياهب السجون بحيث لا يعرف له الذباب طريقا، و الأمثلة متنوعة ففي قطر سجن الشاعر "محمد بن الذيب العجمي" لمدة 15 سنة عن قصيدته "الياسمين" التي تماهمت مع الثورة التونسية سنة 2011، و قد حوكم بتهمة التحريض على النظام القطري. و في نازلة مماثلة حكم على شاعر جماعة العدل و الإحسان في المغرب "منير الركراكي" عن قصيدته "عجب في رجب" يتضامن من خلالها مع بعض "المختطفين السبعة" بمدينة فاس، و قد حكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة شهر موقوف التنفيذ و غرامة 10.000 درهم و تعويضين بقيمة 50.000 درهم. و لم تقف محنة هؤلاء عند الاعتقال و السجن و حتى المنع من السفر كما حدث مع المؤرخ "المعطي منجب" رئيس منظمة "الحرية الآن". بل إن الأمر وصل لحد إزهاق الروح، فمثلا اغتيل في مصر الكاتب "فرج فودة" لأن أفكاره لم تلق قبولا عند بعض التيارات الدينية "المتشددة"، و نفس الشيء في مصر أيضا بخصوص الكاتب "سيد قطب" الذي أعدمه نظام "جمال عبد الناصر" لأنه كان يدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية في كتاباته و يدعو للثورة لقيام نظام "إسلامي". كما أن هناك من طاله المنع من عرض منتجاته الفكرية على الجمهور و الانتشار عبر وسائل الإعلام و استحضر هنا حالة الفنان المغربي "أحمد السنوسي" المعروف بلقب "بزيز"، مع التأكيد على أن هذه العقوبة جدا هينة فوسائل الاتصال الاجتماعية جعلت أمر نشر الأفكار بين الجمهور يسيرا جدا. و هناك من طاله اعتداء جسدي من "مجهولين" تحت جنح الظلام، وفقا لما تتناوله الصحافة من حين لآخر ، مثلا الروائي و الكاتب "عزيز بن حدوش" صاحب رواية "جزيرة الذكور" الذي تعرض للضرب في "تازناخت" بالجنوب المغربي، و محاولة قتل "عبد اللطيف اللعبي" في بيته و تعنيف زوجته أمام ناظريه ... و إذا كانت كل حقبة في الفكر العربي المعاصر قد أفرزت لنا نوعا من المثقفين، فعلى سبيل المثال أفرزت إصلاحات محمد علي باشا في مصر مفكرين من أمثال "محمد عبده" و "رفاعة الطهطاوي" و "قاسم أمين" ... و أثرت "الحركة العلمانية الأتاتوركية" في بروز تيار من المثقفين من طينة "طه حسين" أحد رواد الفكر التنويري، و نفس الشيء بالنسبة لظهور تيار المثقفين القوميين الذين انعكست عليهم ثورة أو انقلاب الضباط الأحرار بقيادة "محمد نجيب" و "جمال عبد الناصر". كما ظهر مثقفون "إسلاميون" تزامنا مع نشأة جماعة الإخوان المسلمين بمصر و كذلك مع ثورة الخميني في إيران. و لعل ما يسمى الربيع العربي بعد أن تنكشف سيناريوهاته و تهدأ عواصف قد يؤدي لبروز نوع جديد من المثقفين، و قد دعا الأستاذ "إدريس كسيكس" في برنامج "مشارف" إلى ضرورة أن يراجع المثقف التقليدي نفسه و دوره، حيث أن الجيل الشاب الجديد و لاسيما في ظل هذا التقدم التكنولوجي الهائل في تقنيات الاتصال و التواصل أضحى يملك وعيا متزايدا و ثقافة لا يستهان بها، و هو ما قد يشكل بعض إرهاصات بداية نهاية المثقف كما كان قد قال بذلك "ريجيس دوبري". و بخصوص ما يصطلح عليه إعلاميا ب "الربيع العربي"، نود أن نشير بادئ ذي بدء أن دور المثقفين في الحراك الجماهيري التي شهدته المنطقة العربية كان مخيبا و شبه غائب عن مسرح الأحداث، مما جعل المفكر الجزائري "الطاهر وطار" يحكم على الربيع العربي بكونه "ولد أعرجا" لانعدام دور فعال للمثقفين فيه، و ما يفترض في المثقف لكونه سماد كل تغيير حقيقي، أما بخصوص نوعية المثقفين التي قد يفرزها "الربيع العربي"، نجد أن الأستاذ و عالم الاجتماع "أحمد شراك" الذي يختلف كليا مع مقولة "نهاية المثقف"، فيرى في محاضرة ألقاها بعنوان "المثقف بين السلطة و التنوير، قبل و بعد الربيع العربي" أن هذه المرحلة ستفرز لنا ثلاثة أنواع من المثقفين: 1- "المثقف التأسيساتي": الذي يجمع بين أطروحتي البداية و نهاية المثقف و يتميز على "المستوى الأداتي" من خلال استعمال وسائط تكنولوجية حديثة كأداة للتواصل و التعبئة ضد الفساد، ثم "المستوى الابستمولوجي" الذي لا يلغي بموجبه دور المثقف الأصلي، بل يدعو على مشاركته في الفعل و الممارسة، بالإضافة لكونه يتميز بإيمانه بالديمقراطية و الحداثة و ابتعاده عن الأنانية و الفردانية. و في نظره هناك ثلاثة فئات تنتمي لهذا النوع من المثقف هي "المثقف الخبير" المبدع في استعمال الوسائط التكنولوجية الحديثة لقيادة مناورات رقمية ضد الاستبداد، ثم "المثقف من فئة المدونين" أو كتاب الرأي الرقميين المساهمين في التحريض، و أخيرا "المثقف من فئة المنخرطين" المساهمين في الإسناد. 2 - المثقف التقريراني": و يعني هنا ذلك التعدد و الغزارة في التقارير و في القرارات التي تهم ميادين متعددة بتعدد استنشاق الهواء السياسي. 3 - "المثقف النقدي أو الميتا - نقدي أو المشاكس": باعتبار أن النقدية المستمرة هي الوظيفة التي لا تنتهي بالنسبة للمثقف. و تبقى محاولة الأستاذ "شراك" منطلقا جادا و مؤسسا للمزيد من الغوص في استشراف نوع المثقف الذي سيسفر عنه ما يقع في المنطقة العربية، من أحداث و تفاعلات بدأت باحتجاجات جماهيرية شعبية اجتماعية، قادها شباب عاطلين في غالبيتهم غير منتمين لكيانات سياسية، سرعان ما لبست جلباب الاحتجاج ضد سياسات "الحكرة" و التهميش و الفساد و الإقصاء، بغض النظر عن التسميات "ثورات" أو "انتفاضات"... المهم أن منها ما أطاح بأنظمة، و منها من ذهب إلى حرب أهلية، و منها من أعاد إنتاج النظام القديم بصيغة جديدة ... أحداث طرحت عدة أسئلة و عرفت عدة سجالات و تراشقات فكرية و إعلامية بين أنصار "نظرية المؤامرة" الذين رأوا في الحراك الجماهيري خطة غربية لإعادة تقسيم المنطقة و تفكيكها بمنطق "سايكس بيكو" جديد، تقسيم قائم على النزعات العرقية و الدينية و اللغوية، و أنصار "المنطق الثوري" الذين رأوا في الحراك ثورة لاقتلاع الظلم و الفساد. و قد انخرط المثقفون في دينامكية الجدل كرست في واقع الحال تشرذم المجتمعات، حتى أصبحت لغة التخوين و الإقصاء متبادلة بين المثقفين أنفسهم، فمن لا ينتصر للمعسكر الذي أؤمن بأفكاره فهو بالضرورة أهل لكل إقصاء يطاله، ناسين أو متناسين أن هم المثقف هو وظيفته التنويرية النقدية بحثا عن الحقيقة و كفى و لو على حساب الإيديولوجيات و الحسابات السياسوية الضيقة أو الانتماء الطائفي أو العرقي. ما يجعل المرء يتذكر مقولة الكاتب المصري "أيمن عبد الرسول" في كتابه "نقد المثقف و السلطة و الإرهاب" يطلق لفظ "المثقف الروبابيكيا"، و تعني هذه الأخيرة باللهجة العامية المصرية "المتلاشيات" أو ما يعرف عندنا كمغاربة "بالي للبيع". هي أزمة مثقفين على شاكلة الكوميديا السوداء، فقد أصبح جزءا من المشكلة عوض أن يصبح هو الحل نفسه، من حيث الانحراف عن الدور الرئيسي للمثقف كناقد اجتماعي في جوهره كما بين الأستاذ الجابري، همه أن يحدد و يحلل و يعمل، من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظام أكثر إنسانية و أكثر عقلانية. و كذلك كما بينه الأستاذ "برهان غليون" الذي يرى أن وظيفة المثقف ليست شيئا آخر سوى وظيفة إنتاج المجتمع نفسه من حيث هو آلية تختص بجمع و توحيد الأجزاء و العناصر التي يتألف منها، و بث الروح الجمعية فيها و تحويلها بالتالي إلى كيان حي قادر على الحركة و التنظيم و التحسين و الإصلاح. غير أننا بتنا نسمع اليوم عن مثقف يدافع عن "بشار الأسد" ينبري له مثقف يدافع عن "داعش" و "النصرة"، و يغيب عن المشهد بشكل شبه كلي مثقف يدافع عن سوريا الحضارة سوريا الإنسان. مثقف يستميت في الدفاع عن "السيسي" فيسلقه بحد لسانه أو قلمه مثقف متمسك بشرعية "مرسي"، و لا نكاد نسمع صوتا لمن يدافع عن مصر كبلد صدرت الحضارة للعالم منذ 7000 سنة. مثقف يرى "الحوثيين" و عبد الله صالح الأجدر لحكم اليمن الذي أضحى تعيسا، فيرد عليه آخر من بني جلدته ألا صوت يعلو على صوت "عبد ربه منصور هادي" و تبقى الأصوات المدافعة عن "اليمن السعيد" نشارا لا تأثير لها و لا وزن. انقسام الساسة أدى لاصطفاف مجتمعي و فرز اجتماعي على أساس الانتماء السياسي أو الطائفي، ليتبعه و هنا الطامة الكبرى انقسام المثقفين لنكرس مقولة "تقسيم المقسم و تجزئة المجزأ". (*) باحث في مجال الدين و السياسة.