اشتريت ورودا حمراء باسمك، و وضعت لك فنجان قهوة لعلّك تأتي.. لتكتمل الصورة، سمعتهم يغنون هناك: "جزائر يا وردة الروح".. أغرقتني في لهيب الذاكرة التي لم تعد تعترف بأحد سواك... أجل ذكرتني بك و بأخي و بأبي... و بالعربي بن مهيدي.. و مفدي زكريا..و مالك حدّاد.. وCAMUS...و SARTER و... "لا ترغب في شيء فوق طاقتك... ولا تكن فاضلا فوق قدرتك و لا تطلب من نفسك شيئا فوق احتمالك " نيتشه - 1- كان عليّ أن أقول أشياء كثيرة... لكنّي جمعت حقائبي على عجل و مضيت. كان عليّ أن أقول أنّني أحببتك بجنون. كان عليّ أن أبكي فوق كتفيك... أن أسقط تحت قدميك.. كما كان عليّ أن أختار أجمل فستان و ألاقيك في كل مكان. كان عليّ كتابة اسمك على كل الجدران. كان عليّ أن أثمل و أرمي بأوراقي و أسلّم نفسي للشيطان. كان عليّ لأكثر من امرأة تسكنني أن أفعل كل هذا... لكنّي لم أفعل.. و لن أفعل ! كان من المفروض أن أبكي و آتي إليك...و أسقط كل الأعراف و الأديان.. لكنّي لم أفعل. كنت الأول و الأخير..... كنت المهمّ و الأهم..... ماذا أفعل بالقلب الذي صار حطاما إكراما لك؟ ماذا أفعل بالذاكرة التي صارت رمادا إكراما لك؟ ماذا أفعل بالجسد الذي صار وباء إكراما لك؟ كان من المحتمل أن أزور جميع الكهنة، بل كان عليّ أن أزور جميع السحرة و العرافات لكنّي لم أفعل، و لن أفعل، فاخترت الطريق الأقوى... مواجهة الكلمات. -2- سفينتي يا سيدي غرقت قبل أن تصل أنت لتنقذها... انتظرتك طويلا لكنّك أهملتها.. لأنّك تحبّها، و جعلتها من مشاريعك المؤجلة لأنّك تحبّها، فانتقمت لكرامتها المهانة، و اختارت الحياة بعيدا عنك لأنّها تحبك. أجل ذهبت إلى بلد كرهتها صغيرا.. و أحببتها كبيرا.. بلد تحمل ملامحك القديمة، متكبّرة مثلك.. جائرة مثلك.. معذّبة مثلك، جميلة مثلك.. جذابة مثلك.. باردة مثلك.. حنونة مثلك.. شقراء مثلك.. ذهبت دون أن أودّعك و كأنّني واثقة أن لقاءنا قدر.. و حبّنا قدر.. و قدرنا معا.. ذهبت دون أحمل صورك.. دون أن أحمل رسائلك.. و هداياك.. دون أن أحمل جزءا منك.. لأنّني واثقة أنني أحملك.. واثقة أنني أملكك رغما عنك و رغما عن غيرك و رغما عنّي.. أنا امرأة يا سيدي، خلقت لتخلّصك من أساطيرك القديمة لتبعدك عن الخطيئة.. و تغرقك في خطيئة.. أنا امرأة خلقت لتقلب كل مسلّماتك إلى إشكال... لتقلب عالمك فرضيات.. لتقلب المخيف رائعا.. و الرائع رعبا. أنا ثورة ضدّك، لكن من أجلك. إذن دعني أفعل بك ما أريد... دعني أمارس سلطتي المحظورة منذ قرون و قرون و قرون. -3- وقفت هذا الصّباح أمام جريدة تحمل نبرات صوتك، جريدة تذكرني بك، تقسم ذاكرتي نصفين، نصف معك و نصف ضدك، نصف معي و نصف ضدي... ذاكرة لم يبق منها غير أشتات الأبيض و أشتات الأخضر و أشتات الأحمر، الأحمر الذي صار صديقا لك و صديقا لي، الأحمر الذي صار مأساتي و مأساتك... اشتريت ورودا حمراء باسمك، و وضعت لك فنجان قهوة لعلّك تأتي.. لتكتمل الصورة، سمعتهم يغنون هناك: "جزائر يا وردة الروح".. أغرقتني في لهيب الذاكرة التي لم تعد تعترف بأحد سواك... أجل ذكرتني بك و بأخي و بأبي... و بالعربي بن مهيدي.. و مفدي زكريا..و مالك حدّاد.. وCAMUS...و SARTER و .... ذكرتني بمن أحبّوها حتى الموت، بمن راحوا إكراما لها، فقلت: أجائرة هي؟ تقتل كل من يحبها و يخلص لها؟ أتبعد هي دائما كل من يتفانى لها و يسجد لها...؟ بعد الخامس نزف جرحنا..و بعد الخامس و العشرون..صرخ جرحنا...و نزف بعدها.. وصرخ بعدها...حتّى صار أصما، أعمى، لكن أقوى... أيعقل لأم مثلها أن تلفظ أبناءها و ترميهم خلف البحر؟ -4- كان كل شيء يشبه الصدفة، يشبه الحرقة، أحلام كثيرة و أشواق كبيرة تسقط لتنكسر و تتبخر، جروح تنزف و دماء تنشف في منعطفات الماضي و الحاضر، و ربّما المستقبل. التقينا ذلك اليوم، يوم ممطر يذكّّر بولادة الزمن الآتي، أناس يتضاربون تارة و يتعانقون تارة أخرى من أجل لقمة العيش، هذا يعرض بضاعة و هذا يساوم، و هذا ينصرف دون أن يأخذ شيئا، أسواق تذكرنا بفضيحة القرن... كانت فضيحتنا تعمّ الأرجاء، تهدد المكان، تنذر بإعصار مهدّم، دماء مرّة أخرى تلطّخ الجدران، تلطّخ ما تركه الاستعمار نظيفا، مسرحيات ساخرة و مؤلمة في آن، تمثل أمام شعب مخدّر من أنّات الجوع، و الدّمار، و الدماء، ...شعب لا زال تحت سيطرة أفيون الثّورة، و صور الرعب الكاسرة، شعب خاف أن يرى الحقيقة، فقرّر أن يبقى تحت مفعول المخدّر، الكثير يحدث وراء الستار...صراعات.. اغتيالات..نفي طوعي و جبري.. كلها رهينة سؤال صنعه الشعب المتعطش للحرية الحقيقية و الرخاء، من نصيب من ستكون هذه الدمية الرائعة كان الوجع ينام هنا !في الصدور، فرح مزعوم بالعلم الذي يرفرف في هذه السماء الباكية، فرح بالخبز و الراحة و الهدوء، و نشيد قسما الذي يخنق الأنفاس...أشياء كثيرة اشتقنا لها منذ زمن بعيد. لقد تحطّم الأمل، و ضاع الحلم، و أفقنا على الفاجعة، راح الضوء الباقي ...و عمّ الظلام. -5- كنت أنت تقف من بعيد، ترمقني بنظرات لم أعهدها ثم تغادر، دون أن تقول كلمة، كنت شخصا فريدا، أراقبك فأرى فيك تلك الملامح الغائبة في أهل هذا الزمان، كنت تشبه القادة السياسيين أو تشبه الفنانين المشهورين، أو شيئا لم أكتشفه بعد. كنت تفقدني كل معاني الصّبر و الفضيلة و الهدوء، تثير فيّ الطفولة الدفينة. أذكر قولك ذات يوم"تذكري أن علامة البلوغ هي قدرة المرء على الغفران"، فكيف يمكن لي أن أغفر برودك و هروبك و تجاهلك. كيف لي أن أنسى مواعيدك و هداياك و همساتك، كيف يمكن أن أنسى يديك القويتين و هي تلملم دموعي و جسدي، كيف لامرأة مثلي ؟أن تتنازل عن حقها في امتلاكك. كان جرحي لا يزال يتعلّم الكلمات الأولى و الآن صار قبيلة من الجراح، صار الحزن وطنا أسكنه و أتكلّم لغته و أحمل جنسيته ككل الأوطان. كنت تقول لي أنّ الوطن إحساس و ليس قطعة من تراب، ... ضاع يا عزيزي الوطن و الحلم، و لم يبق غير الألم. تجلسني على ركبتيك و تعيدني طفلة عابثة لا تعرف غير الدمى و الألعاب، طفلة تعبث بشعرك ، طفلة لا تجيد معرفة الحدود السياسية، لا تفهم القانون الدولي طفلة تحكي عن كل شيء، لا تعرف الطابوهات.. ! حكيت لي عن أناس كثيرين، عن أناس يموتون تحت لفحة الشمس، و آخرون يموتون من شدّة البرد، و آخرون يموتون جوعا و قهرا، حكيت لي عن وطن لا يجيد غير النفي و البتر و القتل. =================== آمال منصور فصل من رواية