هي مشاهدات من المغرب العميق الذي لا تصله كاميرا التلفزة ، و حتى أقلام الجرائد الوطنية لا يتحدث أحد إلا لماما عن مثل هذه المناطق ، يصلون إلى فاس و مكناس و لا يتحدثون عن أزرو و صفرو و إفران و وليلي و الأماكن المهمشة ، ثمة المغرب العميق ، ثمة التاريخ ، و ثمة الهدوء و ثمة البساطة . العناوين الكبرى للبلاد تصنعها الجمل الصغيرة .. . الذهاب إلى فاس .. نوع من النوستالجيا التاريخية .. و المغامرة بالتقاط أنفاس التاريخ في هذه المدينة شيء يستحق الوطن (!) . صباح باكر.. شتاء و رذاذ ..طاكسي مهترئ .. و ندوة تنتظرنا في جامعة سايس للأداب .. كل الأحبة سيلتقون هناك.. لابأس إن أدينا ثمن «كورسة» بمبلغ ست أناس.. المهم أن نصل و نتذاكر و نناقش و ننشر . فاس عاصمة المغرب العلمية تستفيق مبكرا .. المباهج لا تظهر إلا بعد الزوال.. أناس غير مكترثين بما يقع ، يتحركون الهوينى .. هدفنا ذلك اليوم هو النقاش حول موضوع غليظ اسمه تداول وسائل الإعلام المغربية لقضية الصحراء .. حضر من حضر و ناقش من ناقش، و انفعل من انفعل .. و النتيجة هي هوية مغربية قوية ببصمات البلاد . يحس المرء بمغربيته رغم بعض الأصوات النشاز و التي «تفضل» دائما أن تكون خارج التغطية السياسية و الوطنية .. ما علينا .. اليوم الآخر كان أكثر ألقا و عمقا .. لابد من زيارة المغرب العميق و ليس الاكتفاء بالعناوين الكبرى.. كفاس و الرباط و مراكش و البيضاء ، المغرب ليس كل هذا .. لندلف إلى المغرب العميق بتفاصيله الجميلة و الكارثية في نفس الوقت .. صفرو الهادئة.. الوصول إلى هذه المدينة العتيقة لا يتطلب أكثر من دقائق لا تصل إلى الساعة بالسيارة أو الناقلة العمومية ، و صلنا ذلك الصباح وكان أول باب يهاجم ناظرنا هو باب «الشباك» ، لم نتأخر في اختراقه ، المهم الاكتشاف.. أزقة بعبق التاريخ ، شباب و شيوخ يتحركون و يبسطون و يناقشون ، لكن لا يتصايحون ، ينظرون و يميزون الزائر من ابن البلد.. تابعنا مسيرنا ، لم تكن توقفنا سوى قفشات آلة التصوير ، قلت لمرافقي لو كان بنسماعيل الفوتوغرافي الرائع أو جعفر عقيل ابن مكناس لالتهموا هذه الفضاءات بنظرتهم التصويرية التي لا يقدر عليها أحد و لو مكنوه من كل الآلات الرقمية في العالم (!) . في صفرو لا مجال للكآبة ، بل المكان و الفضاء للبساطة ، للهدوء، للثقافة الشعبية التي تمشي على رجليها .. هنا بالضبط يوجد باب المقام .. و واد أكاي المخترق للمدينة الصغيرة و التي أغرقها في الخمسينيات ، لا يأبه إن فاض.. المهم أن مكانه يوجد بين ظهرانيها و يفرض نفسه على الجميع ..! في الحواري المحيطة بصفرو و المتدافعة داخلها .. تجد الجلابة و النقاب ، مازالت النسوة تصر على هذا التفصيل المحافظ ، و تتحركن بسلاسة فيها كثير من الوقار، بجانب ذلك هناك الجلابة الرجالية ذات الطابع المحلي و العْصابة الصفراء . أطلقنا أرجلنا بكل الحرية الممكنة ، اذهب و لا تخف و أينما وصلت ، فثمة اكتشاف. سواء في باب الشباك أو باب المربع أو باب المقام أو باب لخدوري .. ثمة التاريخ الذي ضخ ما تيسر في تاريخ فاس. الشيء السيء عند كتبتنا و بعض مؤرخينا أنهم ينتصرون للعناوين الكبرى و يتركون التفاصيل الثاوية وراء العمق .. للمدينة أبوابها .. و أناسها أيضا ، و مقاهيها التقليدية التي ينتصب فيها الشباب و الكهول يتماهون مع قهوة سوداء أو براد أتاي، يقارعون به الوقت الذي لا ينتهي و البطالة النازلة بكلكلها على الجميع، عيونهم تشي بالكثير ، لكنهم لا يتحدثون و يحسون بالغريب ، بل يفهمونه. صفرو لا يتحدثون عنها إلا مع لازمة حب الملوك و زيت العود، لا احد توغل في «جنسيتها»، و لا ثاني حاول اكتشاف مغاور نفسيتها . العيون الخضراء و العسلية، و السواك الذي يباع بدرهم على موائد يقتعدها شيوخ، كرنينة (عشبة خضراء عمة الخرشوف و البسباس إن صح التعبير) معروضة للبيع، سألنا أحد الجلوس بمقهى شعبي ، رد بالقول «إنها تقوم مقام البسباس و الخرشوف عندكم في مناطق أخرى ، كيخضروا بيها « . جاءت عجوز.. اشترت كل ما تبقى من البدوي الذي يحمل «تكرفيسة الزمن» ..يبدو من محياه أنه معذب ، لكنه مسرور و سعيد لبيع كل منتوجه البسيط. الجولة امتدت إلى كل التفاصيل .. حوانيت و أشكال هندسية و معمار قديم و بشر يتحرك.. هذا هو الشيء الجدير بالاهتمام ، ما يثير أيضا المرء و هو يتجول في هذه المدينة المقصية و المهمشة .. نقاء أهلها و نظافة أحوالها ، خصوصا في المدينة العتيقة ، لم نشاهد قط جزارا نظيفا لا أثر للدم على وزرته إلا هنا ، لم نشاهد في مغربنا خضارا نظيفا مرتبا و منسقا بضاعته إلا في صفرو. شيء وحيد استلفت انتباهنا و نحن محترفو حوت و سردين ، هو أن باعة هذا الصنف يتاجرون في القديم و»المبوق» من السمك ( يعني أعين حمراء و النتيجة قديم بدون استكشافه ، فالسمك يكتشف بالعين لا باليد ) . مقهى «كومباطا» ، مازالت تعصر القهوة و تستقبل الزبناء و تنتظر مقاوميها.. !.. لا أثر لمعمل هناك إلا واحدا ينتج الجلد و يستغل النساء المقهورات.. «الموقف» أو وزارة التشغيل التقليدية ينتظم فيه كل صباح جمع المذكر و نون النسوة.. الكل يبحث عن سويعات عمل من أجل مواصلة «فضيحة» الحياة كما كان يسميها باهي الصحراوي النبيل رحمه الله . هذه هي صفرو كما راينها و كما حكى لنا بعض أهلها الذي وجدناهم صدفة .. في الملاح ، و في ستي مسعودة، و في أبوابها التاريخية . إفران النظيفة.. بدون مبالغة، أنظف مدينة في مغربنا الراهن ، إفران .. هي صغيرة و بسيطة و منظمة، فيها الكثير من الصور المنتمية إلى سويسرا ، لكن لكل منا سويسراه.. هذا العام لم ينزل الثلج بالكثافة المعروفة .. بل ضَنَّ على الأشجار و الطبيعة ، و كل الزوار انتظروا الندف ، و سافروا لمخالطتها ، لكن البياض أبى ، ليترك ضيوف إفران ينسحبون للبحث عنه في ميشلفن و أعالي القمم ، حتى البرد كان رحيما بالجميع ، ما يمكن لك أن تلبسه و تتدثر به في فاس أو البيضاء أو الرباط ، يمكن أن ينفع المرء في إفران و برد إفران . إذا لم تقرأ الجرائد في الصباح و تشرب القهوة و تأكل «الحرشة « و بعض «الخليع» عند «بيتهوفن» و ترحل إلى المارشي القديم باحثا عن دجاجة مقلية أو لحم مفروم ، فلن تكتشف المدينة .. هذا بالنسبة للعوائل . غنه و لكنة في الحبال الصوتية ، غناء دافئ قادم من بهاء الطبيعة . كلمات أمازيغية فككنا تعابيرها و معانيها من لدن القيمة على «العيطة الجبلية» ، قالت المرأة التي هزت كيان المقهى، إنها أغنية عن الحب و الجبل و الأنثى ، و قليل ما يجتمع هذا الثلاثي ، رجع الصدى وسط الحضور له نغم آخر.. كنا نناقش تعثرات الانتقال الديمقراطي و مغرب ما بعد السلطوية ، و إذا بالكلام العميق يهاجم كل الموائد ، حتى النصارى الذين كانوا يتابعون مقابلة الباسك و برشلونة تركوا ميسي و مجانينهم، و التفتوا إلى صوت تلك المرأة .. ذكرتني في عيدة العميقة و فاطنة بنت الحسين، و مركوم التي تؤسس لمرحلة ما بعد الدعباجي ، لكن باللهجة الأمازيغية.. على أية حال ، إفران أو الكهوف ، هي دائما إفران ، عذاب في الشتاء و الخريف بالنسبة للمقيمين ، و نشوة و انتشاء بالنسبة للزوار و الضيوف . فتيات الليل يبدأن نشاطهن بعد الخامسة، يمكن ان يجدهن الراغب .. في حديقة ، في مقهى أو في متجر لاسيكون الذي تسيره عجوز مع عجوزها .. المهم أن الحركة دايرة، و بوزروك موجود ! و الدور السكنية متوفرة ، قدم نفسك بالنقود و الزرقاء و لا أحد يسأل فيك أو عنك ، هذه هي إفران باختصار شديد . أزرو.. الدخول إلى أزرو .. بل الطريق إليها مليء بالصور الجميلة .. الخضرة الغناء ، و الأبقار الجميلة ، حتى الحمير و الجحوش و الأتانات تشكل صورة متكاملة للمغرب العميق . فيها و داخلها تفاصيل تاريخية أيضا ، بل أكثر من هذا هناك مسحة أوروبية تكتنف ملامح بناياتها . و نحن دالفون إليها ، توقفنا و ترجلنا ، لسبب بسيط .. أننا واجهنا جنازة فيها كثير من العساكر يشيعون موت زميل لهم أو سليلة زميل لهم .. المهم أنه مازالت هناك حرمة الموت و احترام الموتى . من يتوقف و يقف اليوم عندما تمر جنازة ؟؟.. شربنا قهوة سوداء و ناقشنا و ضحكنا و عدنا أدراجنا ، أزرو لا يمكن أن تقضي فيها أكثر من ساعة ، ليس لبشاعتها و لكن لجمودها .. نتساءل بحسن نية و نعود إلى ديارنا سالمين .