قبل أيام، توصلت برسالة الكترونية قصيرة، تفيد أن نصا شعريا عنوانه "عبد الكريم الخطابي"، يتضمن بعض الإشارات الخفيفة "ذات الطبيعة السياسية" مثل دفنه في أرض ليست أرضه، ومثل استعادة بعض الومضات من سيرته وكفاحه وتطلعه من قبره للعودة إلى موطنه، لا يصلح للنشر في موقع رسمي. طبعا لم يكن المانع من النشر المستوى الفني للنص، وهو جانب ليس من حقي الحكم عليه ولا مناقشته لأنه متروك للقارئ والناقد ولهما علي أن أحترم حكمهما سلبا أو إيجابا، بل المانع هو كونه سينشر في موقع رسمي، هو موقع وزارة الثقافة المغربية. في تلك اللحظة التي قرأت فيها الرسالة القصيرة من محرري الموقع، استشعرت حجم التراجع الذي يمكن أن تنتهي إليه السياسة الثقافية في مغرب يحاول أن يمسح عنه مخلفات الزمن الماضي، من خلال المصالحة مع الذاكرة، ومع أوشامها المختلفة، على الأبدان والأذهان معا. وعندما قرأت مؤخرا، أن من أسباب حجب أو تأجيل جائزة المغرب لهذه السنة (ربما) اكتشاف أن محمد برادة، المفترض أنه فاز بجائزة السرد، يوحي إلى إحدى الشخصيات التي كانت قريبة من الملك الراحل، وهو سبب يضاف إلى سببي الخاص أعلاه، ليؤكد أن الزمن الثقافي المغربي عائد إلى الوراء بدون منازع. إن إغراء السلطة أمر صعب، ومقاومته لا شك أكثر صعوبة، ولهذا نجد أن السيد وزير الثقافة قد آثر، تحت قوة إغراء المنصب، أن يقطع دابر علاقته بعالم الكتاب والمثقفين، بما هو نفسه كاتب ومؤرخ ومبدع وأستاذ جامعي، ويتناسى أن الخيرات الرمزية التي ينتجها هؤلاء لا تقل أهمية عن الخيرات المادية التي تنتجها القطاعات الاقتصادية المختلفة، بل إنه إذا كان من الممكن إتلاف منتوج مادي لم يخضع لمعايير الجودة الضرورية بإحراقه مثلا، فإنه من غير الممكن القيام بذلك عندما يتعلق الأمر بخيرات رمزية عبارة عن فكر وأدب، لأن هذه المنتوجات ليست معنية بالعرض والطلب، وإنما هي أنتجت من أجل أن تحلق في الأعالي، وحتى عندما يتم تفنيدها، فهي لا تتعرض للإتلاف النهائي بل يكون لها شرف الاصطفاف ضمن التراكم الفكري الإنساني الذي أسس لتطور العالم. لقد تنكر السيد الوزير، واعيا أو غافلا، للكثير من التصريحات التي أطلقها عقب وصوله إلى مكاتب الوزارة، ربما استهوته الأضواء، وهو الذي لم يتعود عليها كثيرا إلا من خلال الكتابات الممجدة لأعماله الروائية بشكل خاص، وهي الكتابات التي حملت، ولا شك، بعض الناس إلى مناصب في وزارته، وربما هم الذين بدأوا يرسمون السياسة الثقافية الجديدة للمغرب، السياسة التي تتكشف ملامحها شيئا فشيئا، بما هي تقهقر وتراجع عن الكثير من الأشياء التي تحققت خلال السنوات الأخيرة. إن أول الأشياء التي أجهز عليها السيد الوزير والذين معه، مجلة الثقافة المغربية الورقية. حولها إلى مجلة إلكترونية. بالأحرى إلى موقع سيكون كأي موقع يشرف عليه شخص واحد، يجلس إلى حاسوبه كل ليلة، في بيته أو في المقهى وربما في الحانة، ويتصرف فيه وفق مزاجه وهواه، ولن تكون له أي قيمة توثيقية، ولن يكون شاهدا بأي شكل من الأشكال على حال المنتوج الثقافي والأدبي في المغرب مستقبلا. إذا كان هذا ما يريده السيد حميش فمن الأفضل له ألا ينفق أموال وزارته، وقد دخل مرحلة التقشف والتقتير، في بناء متاحف من طوب وإسمنت وزجاج، والاكتفاء فقط بالمتاحف الافتراضية ليعرض فيها نفائس التراث الفني المغربي، إن ذلك سيوفر عليه الكثير من المال والجهد، وسيوفر عليه أيضا عناء تفقد الأوراش في كل مرة للسهر شخصيا على سير الأعمال ! من المؤسف أن يكون أول القرارات في إطار السياسة الثقافية الجديدة إعدام مجلة الثقافة المغربية الورقية. لقد كان من الممكن إعادة النظر في حجمها وفي طبيعة الملفات التي تشتغل عليها، والنظر إليها كأحد المكاسب التي ينبغي الحرص عليها، وتعميق رؤاها بما يضمن لها أن تكون معبرا، ليس الضرورة من وجهة النظر الرسمية ما دام أن ما ينشر فيها يعبر عن آراء أصحابه، عن التعددية الثقافية المغربية وبما يتيح لها أن تنفتح على كل مكونات هذه التعددية، وبما يفسح المجال لتوسيع دائرة ما ينشر فيها لاحتضان الأدب المغربي المكتوب بالأمازيغية والفرنسية والإنجليزية واللغات الأخرى، هذا إذا كان الإيمان بالتعددية الثقافية والاختلاف الفكري مسلمة مشتركة بين المغاربة جميعهم ! لقد ابتدع السيد الوزير، عوضا عن حفظ جزء من الذاكرة الثقافية المغربية عبر مجلة الثقافة المغربية، كما حفظت أجزاء منها، في أوقات سابقة، مجلات مثل أقلام وآفاق والثقافة الجديدة والزمان المغربي وأنفاس وغيرها، ما أسماه أولمبياد الحفظ لاستظهار بعض النصوص من التراث العربي والمغربي المكتوب بالعربية أساسا، وهو بذلك يقع في تناقض صارخ جدا، لأن كل ما تم استظهاره محفوظ في كتب وليس في مواقع أو أقراص مدمجة، ثم كيف يمكن له أن يحفز بهذه البدعة (القديمة) على قراءة الكتاب بينما هو يبدأ بقتل منبر رقي، ولو كان مجلة؟ عندما تم تعيين ثريا جبران عقب انتخابات 2007 وزيرة للثقافة، لم تسلم منذ نشر الخبر من ألسنة الناس. لم ير فيها أحد أنها أهلٌ للمهمة. عندما تم تعيين السيد حميش بدلا منها لم يتكلم أحد بسوء عن الرجل، ربما لأنه جزء من المشهد، وحاضر فيه أكثر من سابقته، وذلك بفضل عدد الكتب والكتابات التي راكمها، وأيضا بفضل تكوينه الأكاديمي واطلاعه على ثقافات الغير. لقد انتظر الناس فتوحاتٍ ما على يديه، لكن يبدو أن الأمر تشابه عليهم، ولم يضعوا حسابا لإغراء المنصب... للأسف فممارسة السلطة، ولو كانت ثقافية، هي، وهنا اقتبس كلاما للسيد الوزير، "مجرد محطة مرور، وليس محطة بقاء. يصبح المرء وزيرا ثم يمر. يكتشف تجربة ويضع يده في العجين"، وحتى الآن يبدو أن العجين لن يختمر، وأنه حتى إذا كان "الكلام بخواتمه"، بصدد حديثه عن المعرض في نفس الحوار، فيبدو أن ما تم طبخه من أجل هذه التظاهرة قد احترق. بعد مجلة الثقافة المغربية، التي تم دفنها مع انتهاء معرض الدارالبيضاء، كانت الخرجة الأخرى التي قام بها السيد وزير الثقافة، هي التقتير الذي واجه به الكتاب المغاربة الذين استدعوا لتنشيط لقاءات المعرض. ماذا يمكن أن يتوقع الكتاب المغاربة إذا كانت الوزارة في حلتها الجديدة تفكر في استجداء المحسنين لتنويع مواردها والرفع من ميزانيتها. إننا نتفهم أن تبحث الوزارة عن شراكات مع فاعلين عموميين أو خواص، أو منظمات ومراكز ثقافية دولية، لكن أن تلجأ الوزارة إلى "طلب الصدقة" كما جاء في الحوار ذاته، فإن هذا من الدواهي الكبرى في الزمن الثقافي الراهن بالمغرب. ماذا تركت الوزارة للكتاب والشعراء الذين يستلفون مقابل فوائد لطبع ما يكتبون، ولكنهم لا يتسولون. هل بالصدقة ستساهم وزارة الثقافة في إشعاع الثقافة المغربية في الخارج؟ وهل بالصدقة ستكتمل المشاريع التي تم الشروع فيها؟ وهل بالصدقة سيصل الكتاب إلى المناطق النائية، وهل بذلك سيتم حل أزمة القراءة في المغرب ككل؟ مع الأسف، ما فتئ المثقف لدينا حبيس الهواجس المحكومة بالذاتي قبل أي شيء آخر. الذاتي الذي يجعل صاحبه لا يريد أن ينطلق إلا من الفراغ، كي يشعر، في النهاية، أنه قد أنجز شيئا ما، ليس من منظور التراكم والإضافة اللذين ساهم فيهما الذين سبقوا، بمعية الفاعلين من خارج الإطار الرسمي أي المثقفين على وجه العموم والإطلاق وإنما من منظور الرؤية الضيقة التي تبحث عن التفرد وليس عن الإضافة. هذا الأمر، مع الأسف، لا يمكن تفسيره دائما بأشياء مادية. ثم إنه في ظل مشهد محكوم بكل التناقضات، على غرار كل مناحي الحياة المغربية، وإذا اعتبرنا أن المثقف (الذي يصل إلى السلطة)، على حد تعبير الطاهر لبيب في كتاب قديم، هو "مفكر له القدرة على صياغة رؤية كلية تعي التناقض وتطرح البديل المتماسك لحسمه وتجاوزه"، فأين نحن، في لحظتنا الراهنة، من هذا الوعي ومن هذا البديل؟ لعل الكلام عن الصدقة والمحسنين، بالرغم من "جديته" يظل من زلات اللسان والاندفاع الذي ليس من شيم المفكر والفيلسوف الذي يتأمل الأشياء ويزن وقع الكلمات. على هذه الزلة يمكن أن نقيس زلات أخر، مثل ذلك الحديث، في حفل تسليم الأركانة لسعدي يوسف، عن زيت الأركان وزيت الزيتون، وعن استعداد السيد الوزير لإرسال لتر من هذا النوع أو ذاك إلى عنوان الشاعر. إن الأمر لم يكن أكثر من استهانة بحرارة اللحظة الإبداعية وبالمحفل الذي كان مخصصا للشعر وللاحتفاء بالشاعر وليس للاستطرادات التي لا معنى لها. وأيضا مثل قوله، وهو الوزير المثقف الذي عليه مسؤولية أن يرفع رأس الثقافة المغربية إلى الأعلى، في غمرة فرحه بتكريم السفارة المصرية إثر فوزه بجائزة نجيب محفوظ " إذا كرمتني أم الدنيا فلا شأن لي بالآخرين"، وذلك جوابا على سؤال لصحافية مغربية حول عدم تكريمه من قبل فعاليات ثقافية مغربية. لقد آثر السيد حميش، مزهوا بالمديح الذي الطويل الذي خصه به السيد محمد الداهي وباقي الذين تناولوا الكلمة في حضرته، ما هو شخصي على ما هو جماعي، ودون أن ينتبه، في غمرة هذا الإحساس بالزهو والاندفاع، إلى ضرورة الحرص على قول ما ينبغي قوله مراعاة لبروتوكول المجاملة من جهة، مع استغلال المناسبة للتأكيد على حضور الثقافة والأدب المغربيين في المحافل والمنتديات العربية والدولية، وعلى الإضافة النوعية للأدباء والمثقفين المغاربة ومساهمتهم في إثراء الرصيد الإنساني في هذا المجال. إن هذا الكلام يعضده أن السيد الوزير لم يجد الكثير من الكلمات ليعبر عن شعوره إزاء فوز الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي بجائزة الغونكور لسنة 2009، وكأنه فوجئ بالسؤال، أو كأنه استكثر عليه هذا التتويج، وإلا فإنه يحق لنا أن نطرح السؤال ذاته حول "جحود الآخرين" ونتوجه إلى السيد الوزير ونقول له لماذا لم تعمد إلى تكريم الشاعر اللعبي؟ يبدو أن المشهد الثقافي المغربي يعيش فعلا زمن الأزمة. فبعد ما حدث في اتحاد كتاب المغرب، وما يحدث في بيت الشعر، المؤسستين المستقلتين، عن الدولة على الأقل، ها هو الإطار الرسمي الممثل في وزارة الثقافة يسحب لبنات أخرى كي يتصدع البنيان الثقافي المغربي الهش أكثر فأكثر. فهل هذا مؤشر على شيء ما قريب الحدوث؟ ربما. وقد تكون هذه الأزمة بداية نهاية الهدنة التي دشنها المثقفون المغاربة مع حكومة التناوب والحكومات التي جاءت بعدها. نهاية الهدنة مع سلطة المعارضة التي فتحت أعينهم على الحلم بانتقالها لتدبير الشأن الثقافي العمومي. لكن من سيصدق أن الهدنة انتهت فعلا، وأن المثقف سيخرج عن صمته من جديد، ليستعيد نبرة الخطاب النقدي المفروض أنها نبرة المثقف المنشغل بالحداثة وقيمها.؟ الناس لم تعد تنطلي عليهم أحابيل السياسيين، ولا دليل لنا على ذلك إلا هذا العزوف عن كل ما له علاقة بالسياسة في إطارها الحزبي، الذي يبدو أضيق من خرم الإبرة، هذا العزوف الذي ترجمته بشكل ملموس آخر محطتين انتخابيتين. هذا يعني أن الناس أخذوا مواقفهم من الجميع، من السياسي ومن المثقف معا، لأنهم يرون هذا الأخير مسؤولا بدرجة ما عن التردي الذي نعيشه حاليا. إنهم يستعيدون بشكل ما، مجازا على الأقل، تلك المقولة التي ترى في الثقافة عدوا يجب أن يٌردى "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي". =============== جمال الموساوي هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته