عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    "منتخب U17" يتعادل مع الجزائر    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    المغرب التطواني يفوز على مضيفه اتحاد طنجة (2-1)    الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    النصيري يسجل هدفا في فوز فنربخشة أمام قيصري (6-2)    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رشيد نيني كاتبا/ الحلقة الخامسة: فخر المتنبي وبوح الشابي...
نشر في مرايا برس يوم 13 - 07 - 2010

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
(أبو الطيب المتنبي)
سَئِمْتُ الحياة َ، وما في الحياة ِ وما أن تجاوزتُ فجرَ الشَّبابْ
فَمَا العَيْشُ فِي حَوْمة ٍ بَأْسُهَا شديدٌ، وصدَّاحُها لا يُجابْ
(أبو القاسم الشابي)
يتهم بعض خصوم رشيد نيني الرجل بأنه سقط في الغرور، وأن الكبر أخذه ، لكن قراءة حصيفة في كتاباته ومقالاته تظهر أنه لا يعدو أن يكون شاعر ينظم أبيات الفخر,,, والبون شاسع بين الفخر والغرور..فإذا كان منبع الغرور وهم زائف بقيمة زائدة للذات، فإن الفخر وعي بصير بقيمة الذات الحقيقية وتميزها على ما عداها وعلى من عاداها... وإذا كانت من طبيعة الغرور أن يثير الاشمئزاز بين الناس، فإن الفخر على العكس من ذلك يلف صاحبه بهالة تثير الإعجاب والتقدير... وإذا كان الغرور سلوك العامة والغوغاء، فإن الفخر مسلك النخبة والعظماء... أسلوب فخر الكاتب رشيد نيني يذكر بفخر شعراء الفخر العربي، والرجل شاعر متشبع بروح هذا الشعر بحكم دراسته الأكاديمية للأدب العربي وبحكم ثقافته العامة المشبعة به؛ والفخر ليس تمجيدا مجانيا للذات ولا نرجسية مرضية، بل وعي بواقع الحياة باعتبارها حلبة للجد والكفاح والصراع، والفخر فيه عنصر من عناصر الصراع يروم غايتين اثنتين هد معنويات الخصوم وتحميس الذات ضد كل انهزامية أو تردد... إن فخره يدخل في إطار الحرب النفسية لما كان الرجل وسط حرب داحس والغبراء مع خصوم متعددين.. ولا حرب بلا طبول الشعر وحروب نفسية تقيمها الكلمات... وزير إعلام الحرب لا يكون متواضعا ولا ينبغي له.. فمعنويات المقاتلين لا تحتمل إلا قصائد البطولات وإنكار الإخفاقات... فالميت في المعركة شهيد بطل ... وأنين الجريح زئير أسد...
كن ابن من شئت واكتسب أدباً, يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ:
وحين يفتخر نيني أمام جهات تحاول النيل من تميزه أو تقزيم منجزه، فهو بذلك يريد أن يثبت ما يعي أنه وصله ويفرض الاعتراف به.. وفخر نيني لا يمكن الاستهانة بمناسباته... فللرجل فتوحات "بطولية" معنوية ونجاحات فعلية: يحسب لنيني أنه كتب كتابا هو "يوميات مهاجرسري"اشتهر اشتهار في المغرب وخارجه؛ فد أزعم (وللمتخصصين أن يصححوا ) أنه ثاني أهم كتاب إثارة للانتباه وثاني أكثر مقروئية في الأدب المغربي بعد "الخبز الحافي"... وللرجل أن يفتخر بشجاعة قرار العودة من هجرة سرية، وقراره التحدي للنجاح في الوطن بدلا عن "ذلة" الهروب والاغتراب... فالشاب رشيد نيني هاجر وعاد، في حين أن أغلب من هاجروا لم يملكوا من الشجاعة والثقة بالنفس وبالوطن ما يكفي ليعودوا.. يحكي لنا الرجل في الصفحات الأخيرة ل"يوميات مهاجر سري" عن قرار العودة لبدء الكفاح ضد التهميش والفقر في الوطن... رفع الرجل التحدي للنجاح في وطن هجره بحثا عن الفردوس المزعوم والموهوم... رفع التحدي وربح الرهان... للرجل أيضا أن يفتخر بذلك المنجز الأدبي... وللرجل أن يفتخر بتلك الشجاعة المغامرة ( فمن كان بإمكانه اتخاذ قرار العودة من أوربا في نهاية عقد التسعينيات من بين خريجي الجامعات وفي فترة من أحلك فترات البطالة الجامعية )... وللرجل أن يفخر بانتصاراته الصحافية لمدة تفوق الأربع سنوات... وللرجل أن يفتخر بالقدرة الهائلة على الجلوس إلى مكتب لمدة تفوق الأربع سنوات... وللرجل أن يفخر بأنه صار من أشهر شخصيات الوطن... وللرجل أن يفخر أن موقعا مثل هسبريس الواسع الانتشار بوأه بالتصويت المفتوح رجل السنة وبنسبة تصويت قياسية أمام شخصيات من العيار الثقيل... وللرجل أن يفخر بكونه رافق المغاربة "صباح- مساء" لمدة سنوات دون أن يملوا قلمه ولا أن ينفروا من صورته... وبالخصوص له أن يفخر بقدرته الخارقة على الكتابة اليومية المسترسلة والمتسلسلة طيلة سنين(حتى أن الأسطورة تقول أن للرجل معاونين يكتبون له بينما هو يوقع فقط... لكن العبارة النينية لا تخطئها العين والبصمة النينية لا تخفى على كل ذي بصيرة)... وقد رفع التحدي أمام لمنتقديه أن يأتوا بحديث مثله، قائلا إنه تلزمهم رجولة من" نحاس"... حدثهم الرجل بفخر عن السفير الأمريكي الذي يقرأ كل صباح مقالته مترجمة، فاستنكر البعض هذا الكلم واعتبره عن جهل أو عن تغافل أن الرجل يزايد، لكن الأمر لا يمكن أن يكون إلا كما قال. فالسفارة الأمريكية ليست في نزهة هنا في الرباط، بل هي تعرف وتتابع ما يجري في البلد ومن يعرف السياسة الأمريكية البراغماتية، لا يمكنه إلا أن يعلم دون إخبار أنها لا بد متتبعة لكاتب يصنع جزء من الرأي العام ويوجه جانب من التفكير في هذا البلد "الأمين"
لذلك لا يتردد الرجل في أن يصيح في القوم أنه "خير من تسعى به قدم" على هذه الأرض.. ويفتخر بكونه وصل ما وصل دون نسب أو حسب قائلا " أنا الفتى الذي يقول منذ طفولته ها أنا ذا، وليس ذلك الفتى الذي يقول كان أبي ... ألم يكن نبي (مجازا طبعا حتى لا يختلط الأمر على مترصدي الكلمات) هذا الشعب الذي يبلغ رسالاته كل صباح؟ ألم يرفع تحدي إعجازه أمام خصومه في أن يأتوا بحديث مثله ما دامت الكتابة -كما يقول في إحدى مقالاته في هذا الصدد- لا تحتاج سوى ورق وقلم؟ ... هو نبي يعي نفسه ودوره حين يقول: "أنا لسانكم الطويل الذي تشحذونه في جلساتكم الخاصة. أنا ضميركم غير المستتر، والفعل المبني للمعلوم والذي تقديره دائما أنتم...
خادمكم الذي عينتموه واليا على ديوان مظالم يوجد مقره في «الجيمايل بوان كوم"
ورغم هذا ففخر أشهر الصحفيين بالذات بعيد عن كل غرور زائف؛إن الرجل يمارس فخر أعتبره متواضعاأي يقدم الكاتب نصا ظاهره الفخر وباطنه التواضع، فأن تجده مثلا يسمي عن الشاعر عبد الرفيع الجواهري "أستاذنا" لا يمكن إلا أن يكون عرفانا متواضعا أمامرجل ربما لم يبلغ ما بلغه نيني في كتاباته... وهذا "الفخر المتواضع" يقابل ما يأتي به بعض الكتاب الذين بهم مس حقيقي من الغرور الواهم الذين يبادرون في كتابتهم إلى إبراز تواضع – حين يتحدثون عن شخصهم المتواضع، أو رأيهم المتواضع، أو كتابهم المتواضع- يكون باطنه إحساس واهم بالتفوق والعلو، فتجد الكاتب يظهر التواضع في حين تحس فيه إعجابا بالنفس وزهوا بالمعرفة وهو ما يسمى في البلاغة الغربية بالتواضع الزائف (LA FAUSSE MODESTIE )... أما فخر نيني ففخر متواضع، بما أن وراء الفخر بالذات يختفي فخر بالشريحة الاجتماعية التي نشأ فيها... فخر متواضع وفخر طبقي...
شاعر القبيلة والفخر الطبقي:
إن المتأمل في حديث نيني عن إنجازاته وفخره بذاته يستشف فيه حديثا يتجاوز الذات ليصير حديث كل تلك الشريحة القادمة من القاع عموما والطامحة إلى النجاح بالعمل والكد والتي يمثل لها نموذج رشيد الأمل والمستحيل الممكن... اجتماعيا يعتبر فخر نيني فخرا طبقيا، إنه فخر طبقة غير أشراف القوم الذين بنوا مجدهم وذواتهم خارج منطق الوراثة والسلالة والمحسوبية والزبونية... وفي هذا السياق المغربي يجب وضع نيني ضمن رموز ثلاثة يتعاطف مع الجمهور الكبير في المغرب من باب وعي بسيط بقيمتها الرمزية: رشيد نيني في الكتابة والصحافة، و بادو الزاكي في كرة القدم، وسعيد عويطة في ألعاب القوى... هؤلاء الثلاثة يطمحون إلى تبوء مراكزهم كما يرضونها لأنفسهم ويريدونها استحقاقا لا تكرما... هي رموز محبوبة أيضا لسمة إخلاص (أرجو أن لا يكون حدسي مخطئا) في حب الوطن ولبحثها عن نشر ثقافة ثقة الشعب المقهور في ذاته...لذلك تجد الدوائر الساهرة على النسق الرسمي والتي تعي القيمة الرمزية لهؤلاء الذين ينشرون الأمل في الرقي الاجتماعي خارج منطق الريع والهبات والعطايا، تجد هذه الدوائر المنتمية لثقافة الأنساب والسلالات والعائلات وتحارب بناء ثقافة الاستحقاق والمساواة، تجدها تحاول الإطاحة بهذه الرموز والتهوين من نجاحاتها (كما فعلوا مع نجاحات الزاكي) وتكسير المهنية والحرفية (كما فعلوا مع مبادرات عويطة في التنظيم والتدريب ..) هي رموز تمر عابرة لترسم في العقول نماذج تزعج نسق الوراثة والسلالة والدوحات الأصيلة: هي رموز تحيي في الوطن، وتحيي في الناسإمكان المستحيل، وإمكان تبادل الأدوار والمواقع على قاعدة إسناد الأمور لأهلها... (لا ننسى دموع الزاكي على الوطن، ولا ننسى أن الرجل كان يهدي كل مساء انتصار في نهائيات افريقيات تونس إلى "الشعب المغربي"... وهو الرجل الذي قضى سنوات في بلاد أسبانيا وتشبع مبادئ وأجواء الحرية ورأى الفرق بين هنا وهناك ويعي ما يقول... وأستغنى بعرق جبينه –عرق رآه الجميع على الهواء يسيل على الملاعب كما رأوا عرق عويطة يسيل على الحلبات، وكما رأوا عرق نيني يقطر حبرا على ورق رافق أيامنا صباحا فمساءا – هي أمور تجعلنا نؤمن بأن طريق الخلاص من الفقر والحاجة والعوز والبطالة والتهميش والاحتقار والدونية ليس له فقططريق الزبونية والانبطاح والاستعباد بل إن طريق الكد والجد موصول وواصل ...
إن تجاوب الجمهور مع هذا الفخرعند نيني نابع من أنه فخر طبقي، فخر تتماهى معه طبقة كاملة وشريحة اجتماعية كاملة يتكلم رشيد نيني باسمها حين يتسائل "لماذا يحتقروننا" وحين ينتصر على الاحتقار بالسخرية والتهكم عليه بترديد لازمته "بوزبال" التي ينعت بها أشراف القوم أبناء الشعب,,, فخر طبقي،فخر بابن الدرب وبرفيق الدراسة في المدرسة العمومية، وبشريك الجمعية الذي صار ممن يقام لهم حساب... وصار له شأن كبير في بلد الإقصاء والتهميش... هو فخر يتماهى معه من عبر المدرسة العموميةواتهم أنه أقل معرفة وعلما، ممن عبروا مسالك البعثات والمدارس الفرنكفونية ليقال لنا أنهم نبغاء نبهاء يستحقون أن يسودوا، أما أنتم فدون المستوى لأن لغة موليير تلتوي على ألسنتكم بلكنة غير باريسية... هو فخر طبقي ممتلئ بالمرارة... مرارة تستدعي أحيانا كثيرا من الشجن والشعر...
رومانسية وشجن:
الإحساس الذي ينتابك وأنت تقرأ فخر الرجل بنفسه أنه لا تعتريه أوهام مرضية عن ذاته بل تجده يعي تمام الوعي ضعف الإنسان وحدوده ...فالرجل لا يقبل فقط على رسم صورة عن نفسه كصخرة التي تتكسر عندها أعتى الأمواج والأنواء,,, بل يستسلم بين الفينة والأخرى لينوح ويبوح أمام الملأ أيضا بشجن رومانسي حالم ...
لعل استرسال القراء في متابعة عمود "شوف تشوف" يعود إلى أن الكاتب يمتعهم بين الفينة والأخرى باستراحة شعرية تأملية كما هي العادة في الكتابات الرومانسية العالمية حيث يوقف الكاتب سرد أحداث رواية ليريح القارئ بوصف مشهد طبيعي فردوسي بتأمل شاعري ورسم متقن يتنفس أثناءه القارئ الصعداء ... استراحات نيني في كتابته اليومية تكون عبارة عن تأملات أقرب إلى الشعر والشجن الرومانسي منه إلى الواقع الذي يغطيه- أو يعريه على مدار أيام العام صيفا وشتاء، حرا وقرا... لا يتردد نيني بالبوح في هذه النصوص بانكساراته وأشجانه وخيباته... يتقاسم نيني فيها مع القارئ أبعادا خصوصية وحميمة... ففي "رسالة إلى أبي" يكشف نيني عن أخبار خاصة به ويقص جزءا من حياة عائلية ويكشف عن لهفته إلى والده في لحظة النجاح واليسر لكي يرد له شيئا من جميل الأبوة بعدما كانت اليد قصيرة أيام العسر...بوح بألم يعتصر القلب...
نيني المفتخر بذاته لا يتردد في الكشف عن بعد شعري رقيق، وإحساس مرهف أمام الجمهور؛ ينشد بين الناس ملله وسأمه –والسأم والملل مواضيع الشعر الرومانسي بامتياز- وحنينه لماض الطفولة والنضال والمدرسة وخبز وقهوة الأم –والحنين إلى الماضي المفقود موضوع (أو تيمة بلغة نقاد آخر الزمان) رومانسي بامتياز- ... ويحلم نيني بالسفر بعيدا عن المدينة والمكتب والمسؤولية والاختلاء بالطبيعة والفضاء الممتد–ومقت المدينة وحب السفر والابتعاد والذوبان في الكون الفسيح حلم رومانسي بامتياز-
لا يخفي الرجل في استراحاته الشاعرة أن يبوح بأجنحته المنكسرة وعدم رضاه عن الآن وهنا: الرومانسيون كذلك مثلهم وجنتهم وأحلامهم في الماضي وهناك... ولا يخفي الكاتب كما هؤلاء الشعراء حنينه إلى الطهارة الأولى، وكأني به يحس أن نجاحه ورطة حرمت من سعادة البدايات والحرية واللامبالاة وهو الذي ينعت نفسه ب" الغبي الذي استبدل مقعده في قطارات العالم بمقعد ثابت في العمل"...فلنتأمل هذه المقاطع من مقال" مجرد سأم" لنتذوق مقطعا من أشجان البوح :
أحيانا يساورك سأم عميق ومفاجئ من كل شيء...
فجأة تسأم نفسك وعملك ونجاحك. تريد أن ترجع خطوات إلى الوراء، أن تعود ذلك المواطن النكرة الذي كنته ذات وقت. تتجول في الشوارع دون أن ينتبه إليك أحد. تجلس على رصيف أول مقهى تصادفه دون أن يأتي أشخاص لا تعرفهم يصافحونك ويجلسون ليقاسموك طاولتك، ويحكون لك قصص حياتهم بالتتابع.
تتمنى أن تسترجع صورتك الضائعة، حيث ملامحك الطبيعية الأولى الهادئة والخالية من التوتر والغضب. أن تعود إلى أصدقائك القدامى الذين تقاسمت معهم الأقسام الباردة في الثانوية، والشعارات الصاخبة في الجامعة، وقصص الحب الفاشلة على العتبات الأولى للحياة.
فجأة يساورك سأم جارف من جلسات النفاق الاجتماعي التي يدعوك إليها أشخاص تافهون يعتقدون أنفسهم مهمين بالنسبة للعالم. تشتاق إلى جلسات المساء فوق ربوة في ضواحي المدينة، تراقب أسراب الطيور وهي تعود إلى أعشاشها لتطعم صغارها، تشتاق إلى رؤية الأفق ملطخا بحمرة الغسق والشمس المتمايلة إلى الغروب، قبل أن تعود إلى البيت لتأكل خبز الأم المدهون بالسمن وتجلس إلى حضن الجدة لتحكي لك حكاية الغولة التي أكلت أبناءها.
يحدث أن تتعب من اسمك، وتتمنى أن يكون لك اسم آخر لا يثير الانتباه عندما ينادي عليك به أحدهم. تتعب من احترام الناس لك، وتشتاق أحيانا إلى أن يعاملك الناس كأي نكرة، باحترام أقل وكلمات خالية من الأدب المصطنع. تتمنى أن تعود كما كنت في السابق، أن تستيقظ في الصباح وتجمع ثيابك القليلة في حقيبة ظهرك وتأخذ القطار إلى مدينة لا تعرف فيها أحدا. مدينة تنام فيها بعد الظهر في قاعة السينما وفي الليل تنام في المحطة الطرقية، وعندما يأتي الصباح تتناول قهوتك مع عمال النظافة في المقاهي الحقيرة. ولا أحد هناك ليسأل عنك في الهاتف، ولا عمل ينتظرك في مكان ما، لا رسائل إلكترونية تنتظر إجاباتك ولا دعوات كريمة تنتظر أن تلبيها.
أحيانا يساورك سأم عميق من وطنك، وتتمنى فقط أن تشتري تذكرة ذهاب بلا إياب إلى وطن آخر، وبمجرد ما تصل وتضع حقيبتك تبحث لك عن امرأة أخرى تتزوجها
تسأم من اليمين المنافق واليسار المخادع والوسط المتواطئ، وتتمنى لو أنك في جزيرة بعيدة .. تعيش على السمك وحبات الجوز ومياه الينابيع، بلا شعارات، بلا برامج، بلا أكاذيب.
تتمنى أن تقضي وقتك في قراءة الخطوط على راحة كفك عوض قراءة الجرائد، وفي عد النجوم بالليل عوض عد الأيام التي تفصلك عن موعد تسلم راتبك.
تسأم المدينة المتسخة وشوارعها القذرة المزدحمة بالمارة العجولين، وتسأم زعيق أبواق السيارات المجنونة، وتتمنى أن تعود إلى الجبل حيث عاش أجدادك قبل مئات السنين، هناك حيث أشجار الزيتون وحقول الشيح هي كل ثروتهم على هذه الأرض، بالإضافة طبعا إلى كرامتهم
رشيد نيني في عموده محارب يذود عن العرض والأهل والحمى بقوة وصلابة الفرسان الشجعان، لكنه لا يفتأ أن يكون شاعرا حالما منكسرا يتوق إلى عالم منقض و مثالي مستحيل وسط واقع ليس فيه ذرة جمال ولا قبس أمل... وجهان لعملة واحدة وغرضان لذات الشاعر...
[email protected] mailto:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.