كل شيء يكذب ... احفروها على شاهد القبر. احرقوا كل أوراقي وانثروا رمادها فوقي. أنا ذلك العابر من الخوف، لطالما هجست بهذه الرّغبة المخلّصة كلّما خشيت أن أعتاد دهشتي، أو تعتادني في قادم يباب، لكنه لم يدر ببالي يوما أنّ اتخاذي لمثل هكذا قرار سيكون بهذه السّهولة. أحتسي الكآبة على أنقاض أيلول، أجلس إلى طاولة مكتبي، أتأمّل سكينا سحر الفضاء البعيد الذي أطلّ على وحدتي عبر النّافذة، لا يقاسمني شحوب اللحظة سوى نور الشّمعة، تلك التي اقتعدت مخطوطا تائها يشبهني حدّ القلق. كان الهلال أشبه ما يكون بعلامة استفهام وضعت في نهاية الأفق، فيما السماء صفحة من قلق غرقت في عباب حبر مُدلهمّ، والنّجوم نثار حروفي التي لن أكتب . لم أعرف ساعتها : هل كنت أرى الأشياء كما هي ، أم كما أريد أو كما تريد. فقط كنت أخمّن ، كي أتوه فلا أجدني ، فيستمرّ الذهول. على شفتيّ ، فجأة، رسم الفزع ابتسامة باهتة ، استدعتها سخرية مشهد أعادني إلى الوراء مسافة ضياع. تلك النسمة الأيلوليّة الليليّة داعبت ضوء الشمعة فحرّكت ظلّه المطبوع على الجدار ما أثار سكينة قطّتي التي أشغلني عنها الشّرود فأخذت تنقض عليه بعنف ودون ملل غير آبهة بنظرات التعجّب التي أخذت تستعمر وجهي. ذلك المشهد حملني على جناح الصّدفة إلى آخر دُفن كأحفورة تحت تراكمات الذاكرة، فأخذت أنبش تراب الماضي حتّى تجلّى لي المشهد متوهجا ، تماما كلهب الشّمعة: ها هو الطّفل الذي كنت، أسابق خطى الفرح قاصدا بيت جدّي، حاملا إليه نبأ انتزاعي لقب أوّل الفصل، متلهّفا لمعرفة المفاجأة التي وعدني. وكعادتي عندما أقترب من " الخرابة " التي يقطنها، أّبطئ من مشيتي كي اقتنص أكبر قدر من الدّهشة كلّما تبدّى لي وجهه الطاعن في الغموض، ذلك الرّجل ذو الصّوت الأجشّ، الذي يريق ساعات يومه في ابتداع آلات غريبة تشبهه، يصنعها مما تتوفّر عليه أكداس القمامة التي يلقيها أهل القرية على مقربة من بيته. هذا الغريب كان مبعث أسئلتي دوما ، أكنّ له الكثير من الحب، متجاهلا تحاشي أهل القرية له، وادعاءاتهم بجنونه. ما إن أصبحت قبالة بيته حتّى ذُهلت من سريالية المنظر : كان على غير هيئته المعتادة وقد بدا حاد المزاج بلحيته الطويلة، وشاربه الكثّ، وشعره الأشعث ذي الخصل، وزي المحارب الرّث الذي لبس عريّه، ممتشقا بندقيته الخشبيّة وقد أطلّ برأسه إلى عمق البئر، وصرخ يخاطب ظلّه الطافي في القاع : أخرج أيها الجبان، أخرج أيها الجبان، تخدعني دوما لكني قررت اليوم أن أجهز عليك، أخرج ... أخرج...! كانت تلك أوّل مرة يخالجني فيها الشّك بصحّة جنونه، فأخذ الخوف يلحّ على قدميّ ويوعز إليّ بالإسراع إلى بيت جدّي، وحالما حصلت على المكافأة التي التهم فرحي بها جلّ ما كان يملؤني من الانتظار. استأذنت جدي في العودة إلى البيت بعدما تلاشت لديّ بواعث الفضول. وفي طريق العودة هالتني جموع المتفرّجين الذين تجمهروا أمام منزله، لأعرف لاحقا أنّ صديقي الجريء انقضّ على ظلّه بعدما فشل في إقناعه بالخروج إليه. ومازلت حتى هذه اللحظة أتساءل : هل كان صديقي مجنونا؟ أما الآن وقد انطلت خدعة الأشياء عليّ، ولم يعد في حوزتي من الجنون ما يجعلني قادرا على المراهنة سوى مسدّسي هذا، والذي أعلم جيدا أنه محشوّ برصاصات الدّهشة، فلم يبقى لي إلا أن أودّعكم ... فإلى اللقاء. ماذا يعني أن يكون للكرز لون الدّم المدلوق من مغارة يسكنها لسان مضرج بالصمت؟ وهل تبوح رائحة الموت للمكان بوجع الغريب؟. قلت لنفسي بعد أن انتهيت من قراءة قصّة موته - المعنونة بوصيّته - على مسامع أمّه وأنا مدرك بأنني على مشارف حزن باذخ الحداد يلبس الملح الذائب في لوعة عينيها المتعبتين المعروكتين بأصابع السؤال. بكيته، وربتّ على كتف فجيعتها مواسياً، وما زالت ظلال الموت تتراقص على جدران قلبي : فهاهي جثّته تستريح على كرسيّه الخشبيّ، فيما يستلقي رأسه المنخور برصاصة الدّهشة فوق كتاب طمس الدّم المسفوح عنوانه، عيناه المقتولتان جاحظتان، تحدقان واثقتين بظلّ الشّمعة المطبوع على الحائط الذي تراقص على إيقاعات أوراقه اليتيمة تداعبها نسيمات أيلول العابرة ، بينما يعزف الموت لحن السكون الأخير. ................................. عامر ملكاوي قاص من الأردن.