لا يمكن للكاتب الحقيقي أن يعيش بدون قارئ. إذا أخطأه في حياته فهو يظل يترصده بعد مماته. يدس له، بين أوراقه الباقيات، ما يعلق بالحياة ويتفجر ضوءا سريا، في ليلها الداجي، الباسِط سدوله على الخلق. يدس له ما يُنهِض الميت من قبره، ويجعله يعيشُ بين أُسَرٍ وفي عهود وداخل مجتمعات، ربما لم تمر أطيافها بباله، ساعة تأليف الاستعارة وتركيب المتخيل وزَرْق ذلك العُصاب الضروري في مسام الكلمات، التي أيقظها، ذات يوم، من رقادها العميق، لِتشهد على أحواله وتحولاته وحيواته القادمة. قد لا يتنبأ الأدب بمستقبله، إذا كان غير قادر على صدم معاصريه. أعني الرأي العام الثقافي، الذي يشكل القيم الفنية ويؤمن استقرارها. إذا لم يكن الأدب قادرا على خلخلة هذه الدوكسا، فإنه يُرشي مُعاصريه بلا شك، لكنه يُهدِّد صاحبَه بأن يحمل معه كتبَه إلى القبر. لا بعث مرتقب لمثل هذا الكاتب. وإذا ما أُخرجَتْ جثثُه يوما من القبر، فلأسباب ترتبط غالبا بالتحري أكثر عن أسباب ذلك الموت القاسي، الذي عجَّل برقاد أبدي لصاحبه، فلم يترك منه شيئا لأبناء الحياة. لا يهمنا الأدب الذي يَقتل قارئَه في الحياة. يهمنا أكثر الأدب الذي يُحيي قارئه عند الممات. في الأول يتنفس الأدب هواء فاسدا، مشبعا برطوبة التقليد، بينما في الثاني، يستنشق هواء مليئا بزنبق المجهول، الذي يضوع من بحيرة لا نعرف مكانها في جهات الأرض وما وراءها. الأول، يُقرأ تلبية لحاجيات مستعجَلة، يموت بموتها، والثاني تؤجَّل قراءته لأسباب غامضة يحيا بحياتها. هذه الأسباب الغامضة، هي التي تظل ترن في مسمع الحياة، دافعة أبناء ها إلى مواصلة البحث عن كنهها. إنها، بتعبير هولدرلين، ما يؤسسه الشعراء ليبقى. يبقى بعد أن تصبح عظامهم رميما. إنه، بلا شك، ثمن الخلود، الذي يجعل الأدب يُنصِّب تماثيله فوق أجداث الكتاب. لا برنامج للقراءة المستعجِلة غير مواراة جثة الكتاب الثرى، وتحنيط الكتب في أجناس ورؤى وقيم معلومة. أما استعجال القراءة، فبرنامجها يروم تحرير الزمن الأدبي من عقاله ليهدر باتجاه الحياة الحارة، التي تجعل الكتابة على صلة دائمة بقلق الأسئلة، مُستنبَتَةً مِن غسق الوجود والكائن. إنها استعجال ذوبان الجليد العالِق بتجارب الأدب والكتابة، لتتشكل منها تلك المسالك النهرية العميقة، التي لا نستطيع فعلا أن نعبرها مرتين، لأنها معبأة بطاقة هيراقليطية مُحَوِّلة. وهذا الاستعجال، يقطع مع المهام المُستعجلة، التي تجعل القراءة تتجه لسد الثغرات وتلبية المطالب، ليستبدلها بقراءة متأنية، مُرجئة، مُعَلِّقة للأحكام، تنبثق شمسها من قلب العتمات نفسها، لِتُعطي للزمن وإنسانه وللحياة وسُكانها أبعادا عمودية بلا سقف ولا قرار. لا تتأسس علاقة الأدب بالزمن، بناء فقط على نية القتل المتبادلة: الأدب يرغب في قتل الزمن، مانحا الكُتاب بطاقة الخلود، والزمن يرغب في قتل الأدب، مهيئا للكُتاب قبورا معلومة بالنسيان. إنها تتأسس أيضا، على نحو حاسم، بناء على طبيعة القارئ، ومدى جاهزيته، لمباشرة فعل القراءة، كفعل يستدعي الهدم والبناء أو اختطاف الدال والعودة به إلى الفكر أو أحلام اليقظة. هذه القراءة قد يصادفها الأدب في زمنه، فيتجه هادرا نحو تفجرات المياه النقية، وقد يخطئها، فيقضي فترةََ مواتٍ بانتظار زمن قراءته، الذي يجعلُه ينتصرُ على الزمن ويواري جثَّتَه في أقرب حفرة. الكاتب، في هذه الحالة «الانبعاثية» لا يكون له فقط قبر معلوم، وإنما أيضا تمثال من نور، ينتصبُ في قلوب كل القراء الذين ينادي عليهم أدبه من عمق المستقبل. هذا الأدب يعيش حالة عود أبدي، أما صاحبه فلا يموت إلا مجازا، ما دامت استعاراته تعمر الأرض.