يوم بيوم حال وأحوال نور الدين مفتاح نشر في 4 يوليو 2024 الساعة 16 و 01 دقيقة القادرون من القلة يدرّسون أبناءهم في المدارس الخصوصية والأبناء يتقنون الفرنسية وتاريخ فرنسا ولا يعرفون لا لغة الضاد ولا تاريخ بلادهم، وتتزاحم الأسر المتوسطة مع هؤلاء المحظوظين لتحظى بطوق نجاة لأبنائها، وفي النهاية تجد أن ملايين تلاميذ التعليم العمومي لا يتفاهمون مع مئات آلاف تلاميذ التعليم الخصوصي، وهم لا يلتقون في نفس الأماكن في العطل ولا يفكرون بنفس الطريقة ولا يعيشون نفس العيشة، ولا يمرضون بنفس الأمراض ولا يعالجون في نفس الأماكن ولا يلبسون ولا يشربون ولا يأكلون ولا يركبون ولا ولا ... هذا ليس تحليلا للصراع الطبقي ولكنه واقع الفوارق البادي للعيان، وهي فوارق مهولة كارثية تزداد اتساعا، ولنا في تقرير المندوبية السامية للتخطيط خير مثال، بحيث إن عدد الفقراء في البلاد ارتفع من 623 ألفا سنة 2019 إلى 1.42 مليون سنة 2022 ورغم ذلك يتحدثون عن الدولة الاجتماعية. نور الدين مفتاح [email protected]
ها قد انتهى العيد الذي لم يكن سعيدا بالنسبة للأغلبية من المغاربة، وفي أمر غياب السعادة شقان، الأول يتعلق بالناس وعقلياتهم وازدواجية شخصياتهم، وهذا محير، ففي الوقت الذي تراهم رغم فقرهم منخرطين في الحداثة الشكلية بكل تمظهراتها، تجدهم مكبلين بواجبات سوسيو ثقافية متوهّمة، ورهائن لأفكار بالية، وها هو «الحولي» الذي داعب المخيال العام، وغدا أحيانا كمشارك في مسابقات ملوك الجمال وكمال الأجسام، يتحول اليوم إلى قطع لحم باردة في الثلاجات، تاركا وراءه الآهات والاختلالات في ميزانيات الأسر والقروض والندم.
عيد الأضحى كشعيرة رمزية ما هو إلا وجه واحد لهذه الأغلال الثقافية التي تكبل ملايين المغاربة وتمنعهم من التحرر من قيودهم، قبل أن يفكروا في كسر قيود الاستغلال والخصاص والتهميش المفروضة. عيد الأضحى كرمز للتكافل حيث يضحي الغني ليساعد الفقير أصبح مقلوبا بحيث يستغني عنه المرفه ويشقى به المسكين.
وأما الشق الثاني فيتعلق بالتدبير الرسمي لهذا العيد. لقد صمّت حكومة الكفاءات آذانها عن كل النداءات التي طالبتها برفع الحرج عن الناس وإعفاء ملايين المساكين من المغاربة من حرج التضحية التي أصبحت فرضا مجتمعيا بدل أن يكون دينيا، وهنا خرجت الاجتهادات الخاوية، وبدأ التباكي على مصير العالم القروي إذا لم يبع «الكسابة» قطيعهم مع العلم أننا نعيش الجفاف والقطيع مهدد واضطررنا للاستيراد، وهناك المخطط الأخضر والجيل الأخضر وسياسات الدعم جد سخية. وكانت النتيجة أنه تم إغداق الدعم على الكسابة من العلف إلى الاستيراد، ورغم كل الملايير التي صرفت من المال العام، وجد الناس أنفسهم أمام أغلى عيد أضحى في التاريخ المعاصر للمغرب. وبدون مبالغة تضاعف ثمن الخروف مقارنة مع السنة الفارطة وبدون سبب وجيه، وظلت الحكومة تتفرج على مباراة في الملاكمة غير متكافئة، ووصلت أثمنة اللحوم إلى ما بين 100 و150 درهما، مما جرّ وزير الفلاحة للمساءلة أمام البرلمان.
وأما الفقهاء فإن الذين انتظرنا بركتهم دخلوا المسجد ببلغتهم، وعندما استُفسروا عن إمكانية إلغاء شعيرة العيد، قالوا إن هذا غير ممكن ما دام المواطن غير مجبر شرعا على التضحية، فالقادر وحده من ينحر، ولا أعرف لماذا لم يقل هؤلاء مثل هذا الكلام للملك الراحل الحسن الثاني الذي سبق وأن ألغى العيد في مناسبتين وكان على صواب.
عموما، الحكومات تعين المواطنين حتى على أنفسهم، وهذه الحكومة أعطت للمعدمين «جوج فرانك» كدعم اجتماعي وتركتهم في مواجهة الافتراس. وإذا كنا نتحدث هنا عن عيد مضى، فلأن الأمر غير مسبوق على الإطلاق.
لو كان الأمر يتعلق بمصيبة واحدة لهانت، ولكنه الدوام، فقد جاء الناس للعيد من رمضان ومصاريفه وها هم على أعتاب العطلة الصيفية وبعدها الدخول المدرسي، وفي كل هذه الاستحقاقات نجدنا إزاء مغربين إن لم نكن إزاء أكثر من مغرب. صحيح يجمعنا التاريخ والجغرافيا ولكن القليل ما يجمعنا في الحاضر اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. هذه الفوارق بيننا تتسع بشكل مهول ونكاد لا نتفاهم مع بعضنا البعض في كثير من الأحيان. ويكاد يُجمع المغاربة على أن كل شيء أساسي مختل، ورأس الجبل يتمثل في التعليم الذي يجب أن يكون منبع اللحمة الوطنية، فإذا به اليوم منبع الفوارق والتفرقة.
القادرون من القلة يدرّسون أبناءهم في المدارس الخصوصية والأبناء يتقنون الفرنسية وتاريخ فرنسا ولا يعرفون لا لغة الضاد ولا تاريخ بلادهم، وتتزاحم الأسر المتوسطة مع هؤلاء المحظوظين لتحظى بطوق نجاة لأبنائها، وفي النهاية تجد أن ملايين تلاميذ التعليم العمومي لا يتفاهمون مع مئات آلاف تلاميذ التعليم الخصوصي، وهم لا يلتقون في نفس الأماكن في العطل ولا يفكرون بنفس الطريقة ولا يعيشون نفس العيشة، ولا يمرضون بنفس الأمراض ولا يعالجون في نفس الأماكن ولا يلبسون ولا يشربون ولا يأكلون ولا يركبون ولا ولا ... هذا ليس تحليلا للصراع الطبقي ولكنه واقع الفوارق البادي للعيان، وهي فوارق مهولة كارثية تزداد اتساعا، ولنا في تقرير المندوبية السامية للتخطيط خير مثال، بحيث إن عدد الفقراء في البلاد ارتفع من 623 ألفا سنة 2019 إلى 1.42 مليون سنة 2022 ورغم ذلك يتحدثون عن الدولة الاجتماعية.
لقد ألفنا أن البعض يعيب على مثل هذا التشخيص كونه عدميا، ولعمري أن هذا الاتهام لا يوجد إلا في المغرب. وهؤلاء الذين يريدون أن ننظر إلى نصف كأس الحكومة المملوء هم أنفسهم الذين يتابعون بشغف ما يجري في ماما فرنسا، ويتمايلون مع المنافسة السياسية، ويطربون للتشخيص القاسي للواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأمني من طرف الحزبيين الفرنسيين، ولو كان هؤلاء الساسة هنا لوصفوا بالعدميين. وأعتقد أن العدم هو صنو الإنكار، إنكار تنميتنا البشرية المعطوبة، إنكار الفساد، إنكار الفوارق الطبقية، إنكار واقع الأمية، إنكار انهيار القدرة الشرائية، إنكار أننا لا نتحرك إلا ببطء خطير، إنكار تضارب المصالح في قمة الحكومة، إنكار الاختلالات… هذه هي العدمية التي بدل أن تتحلى بجرأة مواجهة الداء فإنها تشرب لترات المسكنات لأعراضه.
لكل بلد تحديات، وكان قدرنا أن يكون التحدي الأول للمملكة منذ نصف قرن هو وحدتها الترابية، ورغم كل ما جرى سياسيا، وفي الميدان، فإن النتيجة كانت هي سيادة المغرب اليوم على صحرائه، وإعمارها ومواصلة الدفاع عنها ديبلوماسيا كأولوية وطنية. وهذا التحدي الذي يجمع المغاربة لابد أن يتغذى باستمرار من اللحمة الوطنية، ومعالجة الاختلالات الاجتماعية والمزيد من الدمقرطة وإعطاء النخب للقدوة بدل أن تزيد صورة الحزبي والسياسي تشوها، وأن تنجح الأوراش الاجتماعية والاقتصادية كما نجحت الأوراش الكبرى، وآخرها الطريق السريع الذي افتتح الأسبوع الماضي والرابط بين كلميم والعيون كجزء من المشروع الطرقي الهائل تزنيتالداخلة. وأن يتقدم لتدبير الشأن العام من هم أهل له لا الشناقة وأشباه الأميين الذين تتم تزكيتهم في الانتخابات، وأن يحس المواطن بالكرامة كما يحس بالأمان، وأن يكون لتعميم التغطية الصحية مضمون حقيقي، وأن تعالج هذه البطالة التي حطمت أرقاما قياسية، حتى يكون للناس دخل، وأن تكون الأجور حافظة لماء الوجه بدل أن تكون مهزلة وهي لا تتجاوز 3000 درهم في الشهر، في حين أن كراء غرفة واحدة في سطح منزل آيل للسقوط بحي شعبي تصل إلى 1500 درهم.
المغرب وطننا جميعا، والكل يتحدث عن المشروع المجتمعي، وأنا أطرح دائما السؤال عن أوجه الشبه بين المشروع المجتمعي لشاب يدرس بليسي ديكارت بالدار البيضاء والمشروع المجتمعي لشاب يدرس بليسي عقبة ابن نافع مثلا؟
هذا المشروع مهما بذلنا من مجهود، بحسن نية، سنكون فيه إزاء مغاربة لن يتشابهوا ولن يتفاهموا وإن جمعتهم الثوابت الوطنية التي لا نكون بدونها مغاربة، فهل نتمثل اليوم فعلا مفهوم تمغربيت؟