لقد فاجأ القرار المغربي الحازم بقطع العلاقات الدبلوماسية مع «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» كل الأطراف السياسية المتورطة في أعمال عدائية للوحدة الترابية للمملكة المغربية وهي أطراف: الجزائر، وإيران، وحزب لله. ويبدو أن مصدر المفاجأة راجع بالتحديد إلى «معطيات دقيقة، وأدلة دامغة»، توفرت لدى المغرب فيما يتعلق بتورط إيران، عبر سفارتها بالجزائر، في الدعم اللوجيستيكي للبوليساريو، وتورط «حزب لله» في التدريب العسكري لمجموعة البوليساريو التي تنخرط، بالوكالة، في مشروع انفصالي ظل يشكل تهديداً متواصلاً للوحدة الترابية للمغرب على مدى أزيد من أربعة عقود. وبدل أن تتحلى هذه الأطراف المتورطة في مؤامرة دعم «الانفصال» بالشجاعة السياسية المفترضة، فتعتذر عن ورطتها المقترفة، أو تناقش صحة «المعطيات» ومتانة «الدلائل» التي حذت بالمغرب إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران، فقد لاذت هذه الأطراف بالفرار إلى الأمام، مدعية، تصريحاً أو تلميحاً، أن «مؤامرة إسرائيلية، أمريكية، سعودية» تكمن خلف القرار المغربي. ويفضح هذا الادعاء – الذي يدخل في باب «العذر أقبح من الزلة» – سوء نية المتورطين في المؤامرة الفاضحة ضد سيادة المغرب ووحدته الترابية، إذ يعلم هؤلاء بالخبرة والتجربة أن مسؤولية وجدية واستقلالية القرار السياسي والدبلوماسي للمملكة المغربية أمر ثابت ومعروف ومُقدّر على كافة الأصعدة والمستويات: الإقليمية والدولية والأممية، ويُعد مصدراً من مصادر الصدقية والمصداقية اللتين تتمتع بهما سياسة ودبلوماسية المملكة المغربية. ومهما يكن، فإن «›نقمة» هؤلاء الأشقاء في العروبة والدين، قد جاءت تحمل في «طياتها نِعمة»، إذ كشفت عن جوانب مما كان مستوراً، ووضعت تحت المجهر تحديات ورهانات التمدد الإقليمي الإيراني، كما صاغت مساءلة جادة وحاسمة حول الخيار البديل لسياسة إيران الإقليمية. 1 – جوانب من المستور المكشوف: أبانت أزمة العلاقات المغربية-الإيرانية الناشبة من جديد عن جوانب من السياسة «الماكياڤيلية» لسلطات الجزائر، في سياق عداوتها المكينة لقضية الوحدة الترابية المغربية. ومن هذه الجوانب المكشوفة، نرصد ثلاثة: أولها: حجم التعاون المريب الذي يجمع بين سلطات الجزائر «السنية»، وسلطات إيران «الشيعية» في مجال إرساء وتعزيز نفوذ البلدين، السياسي والجيوسياسي، في خط جغرافي يمتد من منطقة الساحل والصحراء، غرباً، إلى منطقة الشرق الأوسط، شرقاً. ويكشف تورط «حزب الله» اللبناني، الذراع السياسي-المذهبي لإيران في منطقة الشرق الأوسط، بعضاً من جوانب هذا المستور. فقد كشفت «المعطيات الدقيقة والوقائع الدامغة» التي توفرت لدى المغرب، أن علاقات التعاون بين «حزب الله» والبوليساريو قد تخطت مستوى «التضامن» السياسي والدعائي الذي يبلوره تشكيل «حزب الله» لِ «لجنة تضامن» مع البوليساريو في لبنان، إلى مستوى التعاون العسكري المتمثل في تدريب عناصر من البوليساريو على تقنية «حرب المدن»، وتقنية «التسلل عبر الأنفاق»، وتمرير بعض الأنواع من الأسلحة الصاروخية، عبر السفارة الإيرانيةبالجزائر. ومما لا ريب فيه، فإن هذا الانخراط المشين في المخطط العدواني للجزائر ضد المغرب، قد تفاقم عقب قيام المغرب، في إطار التزاماته الدولية، باعتقال وتسليم رجل أعمال لبناني، في مارس 2017، إلى السلطات الأمريكية، على خلفية متابعة «جنائية» له، وفق مقتضيات القانون الدولي. ويبدو أن دور رجل الأعمال، المُتابع جِنائياً، والمعتقل بمدينة الدارالبيضاء، كان حيوياً في تغذية الموارد المالية لإيران ولِ «حزب الله»، جراء نشاطه التجاري والمالي في بلدان غرب إفريقيا، حيث تُقيم جالية لبنانية نشيطة، اقتصادياً وتجارياً. ومن جهة أخرى، فإن عودة النشاط الثقافي والسياسي والاقتصادي للمغرب في بلدان إفريقيا الغربية، في سياق سياسة التعاون جنوب-جنوب التي ينهجها المغرب، قد باتت تشكل، موضوعياً وعملياً حجر عثرة في طريق التمدد المذهبي والسياسي لإيران في هذه المنطقة الإفريقية، من جانب، وفي طريق توسع النفوذ الجيو-سياسي الجزائر فيها من جانب آخر. ولا يخفى على نباهة المراقب السياسي أن انخراط سلطات الجزائر في عملية تعاون، سياسي وميداني، وثيق مع إيران، على حساب مصالح المغرب العليا، وضداً على وحدته الترابية، إنما يندرج في سياق استراتيجية جيوسياسية مشتركة ذات بعدين مترابطين: بعد أفقي يروم إرساء وخدمة «نفوذ» البلدين من تندوف إلى مصر، وبعد عمودي يمتد عبر بلدان إفريقيا الغربية. وغني عن البيان أن بيت القصيد في إرساء وتفعيل هذا التعاون الجيو-سياسي، الجزائري-الإيراني، أنه يتأسس على خلفية عدوانية، تحاول النيل من أمن واستقرار المغرب، في ذات وحدته الترابية، وسلامته الإقليمية، ويتمحور حول مشروع انفصالي، تحاول سلطات الجزائر، بكل ما أوتيت من قوة مادية ومعنوية، تمريره ضداً على الشرعية القانونية والتاريخية لقضية الوحدة الترابية للمغرب، وعلى مبادئ حسن الجوار، وعهدة النضال المغاربي المشترك في سبيل التحرر والاندماج الإقليمي... ومما لا شك فيه، فإن انخراط السلطات الجزائرية في سياسة التمدد الجيوسياسي الإيراني، على خلفية نزاعها المفتعل حول الصحراء المغربية، لا يُفاقم أزمة العلاقات المغربية-الجزائرية وحسب، بل قد يزج بمنطقة المغرب العربي في أتون الفتن والصراعات الإقليمية، السياسية والمذهبية، التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط، في أعقاب «الثورة الإسلامية» بإيران. ومن المعلوم أن الجزائر التي سبق وأن اختبرت استراتيجية النظام الإيراني في التمدد الإقليمي، وتصدير «الثورة الإسلامية» في بداية التسعينات من القرن الماضي، لدرجة دفعت الرئيس الجزائري الراحل محمد بوضياف، إلى قطع علاقات بلاده الدبلوماسية مع إيران – تعود اليوم (منذ سنة 2016) لتنخرط في هذه الاستراتيجية الإيرانية التمددية، إمعاناً في عداوتها للمغرب، على خلفية مناهضتها لوحدته الترابية. 2 – في تحديات ورهانات التمدد الإيراني: يُجمع العديد من الدول العربية بل والإفريقية، على الأذى الذي يلحق بها في ذات أمنها وتماسك مجتمعاتها، جراء تدخلات إيران في شؤونها الداخلية، على خلفية جيوسياسية يتعاضد فيها ما هو مذهبي بما هو سياسي. وتندرج هذه التدخلات الإيرانية في إطار «مشروع إقليمي»، سياسي، مذهبي، تبلور في ظل نظام الحكم الإكليروسى، بقيادة الخميني، وهو النظام الذي يستمد مشروعيته من «الثورة الإسلامية». وقد ارتكز «المشروع الإقليمي» الإيراني على توجهين أساسيين متزامنين في الهدف، ومتواترين في التنزيل والتفعيل: أولهما، توجه «تصدير الثورة» إلى بلدان الجوار، في أفق تموقع إقليمي، جيوسياسي بأبعاده السياسية والاقتصادية، والمذهبية، في إطار رؤية استراتيجية، تتماهى في سياقها المطامح القومية بالمطامع التوسعية. ومعلوم أن هذا التوجه الاستراتيجي الإيراني في ظل «الثورة الإسلامية» هو نفس التوجه الموروث عن نظام الشاه –المُطاح به سنة 1979–، في الرؤية والهدف، لكن المُختلِف عنه في منظومة التحالفات الإقليمية: فبمقدار ما راهن الشاه على محور إقليمي ثلاثي: غربي، إسرائيلي، إيراني، متفاعل المصالح، متساند السياسات، بقدر ما راهن، ويراهن نظام «الحكم الإسلامي» بإيران على منظومة من التحالفات البديلة دولية-شرقية، وشيعية-مذهبية. ثانيهما، توجه سياسي-مذهبي يروم إقامة ما يشبه «أممية» شيعية، تخترق شبكتها حدود الدول العربية والإسلامية – الإفريقية والأسيوية خاصة – عبر مد جسور التواصل المذهبي والسياسي والثقافي مع المجموعات الإسلامية ذات الانتماء الشيعي في هذه الدول. وفي ظل ما هو قائم من ترابط وتفاعل وتكامل ما بين هذين التوجهين، الاستراتيجي والمذهبي، للسياسة الإقليمية الإيرانية، فقد تفجرت فتن وحروب وكوارث إقليمية، ليس أقلها: اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية المدمرة (1980-1988)، وانتشار وتفاقم الفتن المذهبية-السياسية التي حولت «اليمن السعيد» إلى حرب دمار وخراب، وفاقمت حالة الانقسام التي باتت تهدد الوحدة العضوية للشعب الفلسطيني المكافح، وبثت بذور الفرقة والتشرذم في أكثر من منطقة في الإقليم، مما أمسى يعصف بقدرات الأمة العربية والإسلامية على الصمود في وجه التحديات الخارجية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، دعماً لقضية الشعب الفلسطيني، وحماية للقدس الشريف في ظل خطط الضم والتهويد. ومن المفارقات الغريبة التي يفرزها منطق وسياسة التدخل في الشأن الداخلي للغير، كما هو واقع التدخل الإيراني في الشأن الداخلي المغربي، على خلفية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، أن بعضاً من رموز هذا النظام يحاول تبرير هذا التدخل بزعم «مساندة المظلومين» في دول المنطقة !! ألم يكن من الأحرى بقيادة إيران السياسية أن تعير اهتمامها لملايين المظلومين الحقيقيين من أبناء الشعب الإيراني الشقيق الذين يعانون من مظلومية الفقر التي تطال نصف الساكنة الإيرانية، ومظلومية القهر الثقافي الذي تعاني منه «الأقليات» في إيران، من ساكنة «الأهواز» وطائفة الأكراد، وغيرها من «الأقليات» القومية، ومظلومية الخلل الديمقراطي الهاضم للحقوق، المقيد للحريات... – في التحدي الأعظم لإيران: إن إمعان «القيادة الإسلامية» في إيران في متابعة تنفيذ مشروع إقليمي متقادم (anachronique) في أهدافه ومراميه، متهافت في رؤيته ومنطقه، كارثي في تبعاته ونتائجه، لمن شأنه أن يقود المنطقة إلى مزيد من التوتر والتشرذم، ويغلق في وجه إيران أفق التطور والتقدم... إن التحدي الأعظم الذي يواجه اليوم إيران – ذات الموارد النفطية والغازية الضخمة – كما يواجهه غيرها من دول الخليج العربي، هو انطفاء مواردها الطاقية في أفق العقود القليلة المقبلة. وهو ما يطرح عليها، كما على غيرها من دول جوارها، إشكالية تنظيم وإنجاز عملية انتقال اقتصادي ممنهج، يحقق تنويع الاقتصاد ويُطلق انتقالاً طاقوياً، يوفر مصادر الطاقة المتجددة، وذلك عبر الاستثمار في قطاعات تنموية منتجة، فلاحية وصناعية وتكنولوجية، بدل الاعتماد على الريع النفطي الآيل إلى الاضمحلال. بيد أن هذا التحول المطلوب في بنية الاقتصادات الوطنية في الإقليم، يظل رهين شروط سياسية وأمنية على الصعيد الإقليمي، قوامها الاستقرارُ والأمنُ الإقليميان من جهة، والتعايش والتعاون بين دول الجوار من جهة أخرى. ومن ثمّ، فإن عدول إيران عن مشروع الهيمنة الإقليمية، بعناوينها السياسية والمذهبية، والانخراط في مشروع إقليمي بديل، بناء ومنتج، يقوم على احترام المصالح الوطنية المشروعة، والتحالفات السيادية لدول الإقليم، وعلى التقيد بمبادئ القانون الدولي في احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤون الغير ،ليشكل في نظرنا المسلك الضروري، الكفيل بطي صفحة المشاحنات والصراعات الجارية، وبخلق مناخ سياسي، إقليمي جديد يمكن، عبر آلية الحوار والتفاهم، من إرساء شروط تعايش وتعاون إقليميين يخدمان المصالح المشروعة لكافة دول الإقليم، وقواه الإقليمية الوازنة. خاتمة: إن الانخراط في دعم المقاومة المشروعة للاحتلال الإسرائيلي وسياسته العدوانية في فلسطين والجولان السوري وجنوبلبنان، لا يمكن- بأي حال من الأحوال- أن يكون مطية لاستباحة أمن واستقرار وسلامة أقطار عربية عدة، ولا أن يبرر، تحت أي ظرف كان، سياسة التمدد المذهبي، أو التدخل السياسي على الصعيد الإقليمي والجهوي. إن ما يتميز به الشعب الإيراني من ثقل حضاري، ورصيد ثقافي، وتاريخ حافل، وما يتوفر عليه من مؤهلات علمية وموارد اقتصادية، طاقية وإنتاجية عظيمة، لجدير به أن يكون عامل أمن واستقرار في المنطقة، وأداة تنمية وتعاون وازدهار، باعتباره يشكل قوة وازنة في الإقليم. وإن استعادة هذا الدور الحضاري الرشيد، في إطار التفاهم والتعاون مع دول الجوار القريب والبعيد، لتسائل اليوم، بقوة وتفاؤل، النخبة «الإسلامية» الحاكمة ب «الجمهورية الإسلامية»، من أجل قيادة شعبها العتيد في اتجاه رشيد، يخرجه من حالة «المروق» إلى فضاء الشموخ.