وضع دولي وإقليمي متغير ينذر بولادة نظام عالمي جديد، واحد عناوينه الرئيسية اتجاه أمريكي وإيراني مشترك صوب تسوية كبرى ستؤثر على معادلات الحرب والسلام لسنوات طويلة. في غمرة كل هذه التحولات الوشيكة هل يزال المغرب مصرا على قطع العلاقات مع إيران؟ وهل سبب ذلك سياسي أم مذهبي؟ علاقات غير مستقرة بدأ تدهور العلاقات الإيرانية المغربية بعد نجاح "الثورة الإسلامية" الإيرانية في الإطاحة بنظام الشاه سنة 1979، حيث قام المغرب بعدة إجراءات تختزل موقفه العدائي للوضع الجديد. فاستقبال المغرب للشاه سنة 1981، وتكفير فقهاء المغرب للخميني، واتهام إيران بالوقوف وراء أحداث سنة 1984 المتزامنة مع عقد مؤتمر القمة الإسلامي بالدار البيضاء، إضافة إلى إعلان الدعم المغربي للعراق في حربه مع إيران، وما ترتب على ذلك من دعم إيران لحق الصحراوين في تقرير مصيرهم. كلها عوامل كانت كافية لطبع العلاقات بين البلدين بالتوتر ثم القطيعة بسبب مخاوف الحسن الثاني من امتداد النموذج الثوري الإيراني إلى المغرب، خاصة وانه أصبح نموذجا عمليا ملهما للإسلاميين آنذاك. وترافق كل ذلك مع موجة فكرية وسياسية إسلامية انتعشت في الثمانينات بالشرق الأوسط، بحيث أعطاها ما يعرف بالجهاد الأفغاني دفعة قوية، والذي جاء في سياق دولي و إقليمي مطبوع برغبة أمريكية في ردع الوجود السوفياتي في أفغانستان، ورغبة الأنظمة في المنطقة في كبح جماح تيارات اليسار لهذا كانت جميع الأطراف مضطرة للتسهيل لأنشطة الإسلاميين و دعمها أحيانا، فجرى استعداء الاسلاميين على الشيعة وعلى اليسار في آن معا وهو الأمر الذي قد يفسر الربط الذي أقامه الحسن الثاني في خطاب شهير له سنة 1984 بين بيان لمنظمة إلى الأمام الماركسية وبين الدعم الإيراني !، سيما و انه في تلك الفترة كان الماركسيون الإيرانيون وأنصار الخميني ما يزالون حلفاء ثورة وليدة. كانت العلاقات الدبلوماسية المغربية الإيرانية محتشمة في بداية الثمانينات، ولم تتعد التعامل بمبعوثين شخصيين للملك وإقامة سفارة مغربية بطهران سرعان ما تم إغلاقها. لكن مع مجيء التسعينيات ستعرف تلك العلاقات استئنافا طبيعيا كان من مبرراته السياق الدولي (نهاية الحرب الباردة) والإقليمي( نهاية الحرب العراقيةالإيرانية) والداخل/ إيراني ( تبلور تيار إصلاحي جديد في إيران يؤجل الخطاب الايدولوجي الثوري ويركز على الأولويات التنموية الداخلية وتحسين العلاقة مع الجوار العربي وقد مثله كل من رفنسنجاني وخاتمي). وبالنسبة للمغرب كان هناك سبب إضافي يبرر عودة الدفء إلى العلاقات يتمثل في توثر علاقات إيران مع الجزائر غداة شجبها إلغاء الجيش الجزائري لنتائج الانتخابات التي فاز فيها الإسلاميون سنة 1992، وبعد فترة سيقطع المغرب علاقاته أيضا مع الجزائر ويعمد إلى غلق الحدود بعد أحداث مراكش سنة 1994 التي اتهم الجزائر بالضلوع فيها، فقامت العلاقات الدبلوماسية بشكل جيد بين المغرب وإيران ولم تعد إلى جو القطيعة إلا مع سنة 2009 . خلاف سياسي أم مذهبي كان مبرر قطع العلاقات من الجانب المغربي مشتملا الاحتجاج على التعامل الغير مقبول والانتقائي مع القائم بالأعمال المغربي في طهران على خلفية موقف المغرب من المس بسيادة مملكة البحرين، إضافة إلى رفض المغرب الأنشطة التي تقوم بها السلطات الإيرانية في المغرب والتي تستهدف الوحدة المذهبية للمغرب، بالنسبة لإيران استغربت القرار وردت بالمثل لكن هناك الكثير من الملاحظات التي تثير القلق بشأن هذا الموضوع!. وفي موضوع الاحتجاج على المس بسيادة البحرين لم يسجل للمغرب انه احتج على الأمر المماثل الذي تكرر كثيرا أيام الشاه وبخصوص البحرين نفسها، بل لم يحتج المغرب على بسط الشاه لسيطرته على جزر إماراتية سنة 1970، كما أن هذا ليس مبررا كافيا لقطع العلاقات سيما وان الدولة صاحبة الشأن لم تقم بمثل ما قام به المغرب علاوة على الدول الخليجية الأخرى، عموما قطع العلاقات سلوك تلجأ إليه الدبلوماسية المغربية غالبا دون تبرير منطقي كما حدث مع اسبانيا والسينغال ومع سوريا مؤخرا، وغالبا مثل هذه السلوكيات تكون نتيجة أمزجة وأهواء صاحب القرار وردود أفعاله. وبخصوص إدانة أنشطة إيران التي تستهدف "الوحدة المذهبية" للمغرب، فينبغي الإشارة إلى أن هذا الأمر تم برضى المغرب منذ بداية التسعينيات بحيث وقع الطرفان سنة 1995 اتفاقية تبادل ثقافي لثلاث سنوات، ثم محضر للتعاون الثقافي سنة 1998، علاوة على حضور علماء الدين الإيرانيين للدروس الحسنية على عهد الملكين، فلا مبرر لاحتجاج المغرب على الأنشطة الثقافية الإيرانية سيما وان هذا نشاط طبيعي تقوم به تمثيليات جميع الدول عبر العالم في البلدان المضيفة لها في إطار الدبلوماسية العامة. ناهيك عن أن كل هذا جاء في سياق تبادل للزيارات الرسمية و علاقات على جميع المستويات، فمثلا على الصعيد التجاري وصلت قيمة المبادلات إلى 8 مليون درهم سنة 2006. وإذا كان التحجج بأي خطر يمس الوحدة المذهبية والعقدية فينبغي استشعاره من بعض أنشطة السعودية التي تنشر العقيدة الوهابية التي ترى أن عقيدة المغاربة "الأشعرية" فاسدة وان تصوفهم " بدع منكرة"، في حين أن المذهب الشيعي الموجود في إيران من "المذاهب الإسلامية المعتبرة" في الأزهر ولا خلاف عقدي معهم بل يتفقون مع السنة في موضوع تأويل ذات وصفات الله الواردة في القرآن، لكن المغرب يتساهل بين الفينة والأخرى مع تلك الأنشطة نظرا للموقف الايجابي للوهابية من طاعة أولي الأمر، زيادة على الدور الذي قامت به هذه الحركة في التصدي للمد اليساري و لمشروع جماعة العدل والإحسان. أما بخصوص موقف الشيعة الامامية السائدة في إيران من إمارة المؤمنين فهو موقف ايجابي بحيث أنهم يجعلون الإمامة أصلا من أصول الإيمان وهي لعلي وأبنائه، ودليل تقديسهم لأحفاد علي ابن عم النبي استقبال الإيرانيين للحسن الثاني أثناء زياراته لهم أيام حكم الشاه كما يروي عبد اللطيف الفيلالي وزير الخارجية الأسبق في مذكراته، زيادة على أن تكفير فقهاء المغرب للخميني كان بسبب تأويله لمكانة الإمام وليس لموقف معين من إمارة المؤمنين بالمغرب. يظهر أن لا خلاف حقيقي بين المغرب وإيران، في حقيقة الأمر يتضح أن تلك التبريرات موروثة عن فترة الحسن الثاني الذي كان ذا شخصية قوية وكانت لديه رغبة في لعب دور محوري في قيادة الدول العربية والقيام بالوساطة في مجمل القضايا الشرق أوسطية، وهو الموقع الذي كان مهددا من طرف جمال عبد الناصر كما أصبح مهددا من الخميني، فإذا كان الأول غريما على الزعامة العربية فالثاني غريم على الزعامة الإسلامية. وقد كان الحسن الثاني يعتمد في إيجاد دور يليق به على الالق الذي يمنحه اياه موقع إمارة المؤمنين فاستشعر أن الهالة المحيطة بالخميني قد تسلبه هذا الموقع، واتفق في هذا مع السعودية التي خشيت أن تجمع إيران بين بريق الثورة والإسلام وشرعية الدفاع عن فلسطين ولبنان، سيما و أن إيران أظهرت توجهات معادية للولايات المتحدة و حلفائها. وقد أراد الحسن الثاني أن يكون المغرب ركيزة أساسية للسياسات الغربية اتجاه المنطقة، فإذا به يفاجأ بان الشاه الذي كان يقاسمه التطلعات والدور يغادر السلطة، والجزائر تتوسط في قضايا الرهائن الأمريكان، والمؤشران اللذان يؤكدان هذا التفسير هما حجم حضور المغرب منذ نهاية الستينيات في القضايا الشائكة بالشرق الأوسط رغم بعده الجغرافي عنه، و اضطلاع الحسن الثاني بقيادة عدة مبادرات عربية، وهو مخالف تماما لما بعد وفاته، حيث سيتجه محمد السادس إلى تمتين العلاقات مع أوروبا وإهمال الدور العربي. المؤشر الثاني مرتبط بطبيعة الدور الذي لعبه الحسن الثاني داخليا فقد وقف في وجه قيادات الحركة الوطنية الراغبين في إحقاق نظام برلماني و تحجيم موقع الملكية، الأمر المناقض لتطلعاته في القيادة ولعب ادوار محورية في صياغة السياسات داخل المغرب و خارجه. لكن لا مبرر منطقي لاستعادة هذا الصراع - بخلفياته التي يراد لها أن تكون مذهبية- إلا بصعود نجم حزب الله بعد أحداث تموز 2006، و زيادة بريق إيران بعد دعمها الواضح لحماس أثناء حرب غزة 2008، إذ ربما استند المغرب في تقييمه على وجهة النظر السعودية و وتخوفاتها من التمدد الإيراني الذي تبرره رغبة إيران في لعب دور إقليمي يليق بحجمها كما هو الشأن بالنسبة لتركيا ويسمح به انكماش عربي المسؤول عنه حتما هم العرب و عدم امتلاكهم لمشروع سيادة إقليمي موحد. الآن و مستقبلا.. يلاحظ أن هناك علاقات جانبية بين البلدين لا تزال موجودة رغم القطيعة، بحيث يلتقي المسؤولون المغاربة مع الإيرانيين في مناسبات مختلفة وقد شارك المغرب مؤخرا في مؤتمر عدم الانحياز المنعقد بطهران، إلا أن العلاقات لا يمكن أن تتحسن راهنا بسبب ارتدادات الأزمة السورية والصخب المحيط بالملف النووي الإيراني. لكن لوحظ انه منذ اتفاق الخطوة الأولى المبرم بين إيران والغرب عاد المسؤولون الإيرانيون والخليجيون إلى تبادل الزيارات وسط استحسان خليجي للشروع في التسوية مع إيران، وبما أن المغرب يسترشد غالبا في الموضوع الإيراني بالمواقف الخليجية نظرا للعلاقة التي تربطه بها ومن بين تجلياتها الدعم السنوي، فمن الممكن أن يعود الدفء إلى العلاقات المغربية الإيرانية سيما وان المغرب لم يكن يوما ضد حق إيران في امتلاك مشروع نووي سلمي، فقط الأمر سيحتاج بعض الوقت لتجاوز التعقيدات البروتوكولية، و تسوية الأزمات الإقليمية. أيضا التحولات الموضوعية التي يشهدها العالم و الإقليم والتي أفرزت توجهات فكرية مؤثرة على السياسة الخارجية الأمريكية قد تهيئ الأجواء للعلاقات المرجوة بين طهران والرباط، بحيث يمكن التقاط أن هناك فلسفة تشكل نقطة تقاطع بين عدة وثائق مثل تقرير "مجموعة دراسة العراق" ومؤلف الزوجان ليفيريت وتقرير الأمن القومي الأمريكي لسنة 2010 وخطاب هيلاري كلينتون أمام مؤتمر الايباك لنفس السنة، كلها تعكس ضرورة ربط القضايا الشائكة في الشرق الأوسط ببعضها البعض، فالنظام العالمي لما بعد الحرب الباردة لم يعد يقوى على وجود بؤر توتر عناوينها إيرانوالعراقوسورياوفلسطين وما يرتبط بها من مؤثرات ومتأثرات. لذلك ترى إدارة اوباما أن تسوية الملف الإيراني مدخل أساسي لتسوية باقي الملفات، ولذلك كله لا بد من السماح بولادة غير عسيرة لنظام عالمي جديد عنوانه سيادة قواعد القانون الدولي وحلحلة الملفات العالقة وبناء نظام علاقات دولية تعاونية، تجنب البشرية ويلات حروب مدمرة ومحتملة في ظل استمرار تعنت كل الأطراف. *باحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس/ السويسي بالرباط