تحلت أخيراً الذكرى الرابعة لوفاة المجاهد الفذ والمناضل الوطني الكبير الأستاذ أبي بكر القادري، لتصادف مرحلة مفصلية يمرّ بها المغرب في مسيرته لتجديد البناء المؤسساتي لدولة الحق والقانون على أسس ديمقراطية وثوابت وطنية، ومن أجل تحقيق مطالب الشعب المغربي في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والوحدة وسيادة القانون. وهي الأهداف التي عاش الأستاذ القادري مناضلاً صلب العود رابط الجأش ثابت العقيدة في سبيل الوصول إليها وتحقيقها في الواقع المعيش، حيث كان أحد كبار القادة الوطنيين الذين حملوا راية الكفاح الوطني منذ البداية الأولى للحركة الوطنية في سنة 1930، وعبروا المراحل الصعبة في ثبات وصمود، فقاوموا السلطات الاستعمارية، وعبأوا الشعب وحشدوا طاقاته، وواجهوا التحديات، فدخلوا السجون، وعاشوا المحن واجتازوا الأزمات، ولكنهم ظلوا أوفياء للمبادئ، متشبثين بالقيم، وعاشقين للحرية، ومناضلين من أجل الاستقلال. لقد كان المجاهد أبو بكر القادري نسيج وحده في الكفاح من أجل وطن حر ومواطنين أحرار من منطلق وطني، وعن عقيدة راسخة، وإيمان ثابت، ويقين لا يتزعزع، فكان في الطليعة من القادة الوطنيين الكبار في جميع المراحل قبل الاستقلال وبعده، فكما قاوم المستعمرَ وأبلى البلاء الحسن المنقطع النظير في النضال المستميت ضد السياسة الاستعمارية في عهد ما كان يعرف بالحماية، وما كانت حماية، وإنما هي استعمار غاشم واحتلال لئيم، قاوم كذلك خصومَ الحرية وأعداء الاستقلال، الذين سعوا من أجل أن يبقى المغرب مرتبطاً بالدولة التي كانت تستعمره، دائراً في فلكها، خاضعاً لسياستها، لا يملك من أمره شيئاً. فلم يضعف ولم يستكين ولم يستسلم، ولكنه ظل على المبدأ عاملاً مع إخوانه في حزب الاستقلال من أجل تحرير الإرادة المغربية من الهيمنة الأجنبية، وفي سبيل بناء دولة الاستقلال على القواعد الدستورية، والمبادئ القانونية، والمقومات الوطنية، وثوابت الإنسية المغربية، والقيم الإسلامية. وخاض من أجل تحقيق هذه الأهداف العليا، معارك ضارية في قيادة حزب الاستقلال ومع جماهير الشعب، فكان القائد المعلم، والزعيم الملهم، وحامل راية الكفاح الوطني، والداعي إلى التشبث بالهوية الوطنية وإلى الحفاظ على الخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية التي قامت عليها الدولة المغربية، والتي انطلقت منها الحركة الوطنية واستند إليها الكفاح الوطني في جميع مراحله المتعاقبة. لقد كان المجاهد أبو بكر القادري نموذجاً فريداً للزعامة السياسية التي تنطلق من الحزب العتيد الذي كان، ولا يزال، طليعة الحركة الوطنية المتواصلة والمتجددة، وللعمل الجاد المستمر من أجل بناء الأجيال على القيم الدينية، والمبادئ الوطنية، والأصول التربوية، والخصال الأخلاقية، ولنشر الثقافة الإسلامية البانية للعقل وللوجدان وللوعي الديني الرشيد وللفكر الإسلامي المعتدل والوسطي، فكان المناضل السياسي الفذ، وكان المعلم الرائد والأستاذ المربي منشئ الأجيال، وكان المفكر الإسلامي الحكيم ذا الرؤية البعيدة وصاحب الرسالة، وكان رجل المهمات الصعبة، والأعباء الثقيلة، والمسؤوليات الجسام، والمواقف الحاسمة، والمبادرات الرائدة، والحلول المبتكرة، والتسويات الفاصلة، والتدخلات التي تنهي الخلافات وتذيب الاختلافات وتحافظ على وحدة الكلمة والصف. فاستحق أن يقال عنه إنه ضمير حزب الاستقلال، كما كان رفيقه في الكفاح الأستاذ محمد اليزيدي ضمير حزب الاستقلال. وقد تميز الأستاذ أبو بكر القادري دون غيره من الوطنيين المغاربة والمشارقة، بالجمع بين العمل السياسي، والعمل التربوي، والعمل الفكري، فهو المناضل في صفوف حزب الاستقلال، وأحد القادة المؤسسين للحزب في الحادي عشر من يناير سنة 1944، والمؤسسين لكتلة العمل الوطني في سنة 1934، وللحزب الوطني في سنة 1937، وهو رائد الحركة التعليمية وباني النهضة التربوية، وهو مؤسس الصحافة الإسلامية الواعية والملتزمة بالقيم الوطنية، وهو المفكر، والعالم، والمربي، والأكاديمي، مثل المغرب في عديد من المؤتمرات الدولية، حاملاً الرؤية الإسلامية الوطنية، وهو المنظر الذي يملك شروط التنظير والتأصيل والتأسيس لمدرسة متميزة في الفكر الإسلامي المعاصر تمثل نموذجاً للمدارس الفكرية الإسلامية في هذا العصر. كان رحمه الله منفتحاً على عصره، مندمجاً في المحيط الخاص والعام، مشاركاً في الحياة السياسية العربية والإسلامية، تربطه علاقات متينة بكبار القادة السياسيين، والمفكرين الإسلاميين، والمثقفين والأكاديميين، وأقطاب العلم والفكر والنظر والقلم، وكان محبوباً من الجميع، معدوداً من الصفوة النادرة التي خدمت بإخلاص وتفان، قضايا العالم الإسلامي، وفي الطليعة منها القضية الفلسطينية التي ارتبطت حياته بها، وكان على صلة وثيقة بزعمائها من الحاج أمين الحسيني، إلى ياسر عرفات، وتصدَّر الكفاح الفلسطيني من موقعه الحزبي والوطني، فكان كاتباً عاماً للجمعية المغربية لمساندة كفاح الشعب الفلسطيني لعقدين من الزمن، عرف كيف يحافظ على وحدة الصف الوطني والالتفاف حول القضية الفلسطينية. لم يكن الأستاذ أبو بكر القادري منغلقاً، ولا متعصباً، ولا متزمتاً، ولا متطرفاً، ولا مندفعاً، ولا متساهلاً في الدفاع عن القيم الإسلامية، وعن المبادئ الوطنية، وعن المقدسات والثوابت، وعن حقوق الوطن وحقوق المواطن، وعن الدولة المغربية، وعن العرش المغربي، وعن الوحدة الترابية المغربية. فكان طوداً شامخاً في الكفاح من أجل حماية هذه المقدسات والحفاظ عليها، يضرب به المثل في الثبات والصبر والجلد، وفي التضحية والفداء، وفي القناعة والتواضع، وفي الإخلاص والوفاء، وفي رجاحة العقل ونفاذ البصيرة والحكمة في التفكير وفي التخطيط وفي التدبير وفي كل عمل قام به، ومهمة أوكلت إليه، وقضية تصدى للدفاع عنها. فقد كان مثالاً للنبل وللتسامح وللتعايش وللانفتاح وللانخراط في العمل العام الذي يراد به خدمة المصالح العليا للوطن. كان مجاهداً بالمعنى النظيف للجهاد من أجل تحرير الوطن وتحرير المواطن، قبل أن يمتهن هذا المعنى، ويمسخ، وتختلط المفاهيم بشأنه، وكان سلفياً بالمفهوم السليم والمدلول النضالي والمعنى التحرري للسلفية، قبل أن يلطخ هذا المفهوم وينقلب إلى نقيضه، وكان وطنياً صافي العقيدة، نقيّ السريرة، بالمعنى الذي تنصرف إليه الوطنية، والذي يعني حب الوطن، وشدة التعلق به، وقوة العشق له، والتضحية من أجله، والاندماج فيه، والعمل في سبيل تحريره وتقدمه والارتقاء به وازدهاره وتأمين الحماية له. فهو الوطني القح، والمجاهد الفذ، والمحافظ على دينه والذائد عنه والمعتز به والداعي إليه والساعي في خدمته بالفكر المستنير، وبالفهم الرشيد، وبالوعي المتفتح. وتلك درجات عليا من الكفاح الوطني لم يبلغها سوى الصفوة من القادة والنخبة من العاملين من أجل الصالح العام. لقد حلت الذكرى الرابعة لوفاة الأستاذ أبي بكر القادري لتؤكد أن هذه الشخصية الفذة، كانت تمثل قيمة مضافة في العمل الوطني لبناء الدولة الحديثة. إنه الرمز للمناضل الوطني، وللمفكر، وللمربي، وللكاتب المؤلف، وللأكاديمي، ولصاحب الموقف الثابت، والرؤية الواضحة، والرسالة التنويرية الإصلاحية التحررية.