لقد شكلت لحظة الخطاب الملكي في القمة المغربية الخليجية التي احتضنتها الرياض اول أمس، لحظة فارقة في العمل العربي المشتركة ولحظة للحقيقة كما لا يتم الكشف عنها عادة في ظل هيمنة لغة ديبلوماسية لا تقول شيئا في النهاية، لقد اختار الملك بمسؤولية عالية أن يقدم الصورة الحقيقية للمشهد العام بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. بداية أكد الملك على أن المغرب يتقاسم مع دول الخليج نفس التحديات ، ويواجه نفس التهديدات ، خاصة في المجال الأمني، وهو ما دفعه لطرح سؤال ا لماذا هذه القمة الأولى من نوعهات و لماذا اليوم ؟، و يجيب الملك بكون المغرب ودول الخليج تمكنا ا من وضع الأسس المتينة لشراكة استراتيجية، هي نتاج مسار مثمر من التعاون ،على المستوى الثنائيب وذلك بفضل الإرادة المشتركة و االإيمان الصادق بوحدة المصير ، ومن تطابق وجهات النظر ا بخصوص القضايا المشتركة..وهو ما يعني أن القمة جاءت تتويجا لعمل مشترك ومثمر وليس قمة من أجل القمة، على شكل القمم العربية الكثيرة. تفقد كان الخطاب فرصة جديدة أكد فيها الملك بصفة غير مباشرة، موقف المغرب من تنظيم القمة العربية التي إعتذر عن إستضافتها عندما نبه إلى أن العمل العربي الا يتم بالاجتماعات والخطابات ولا بالقمم الدورية الشكلية، أو بالقرارات الجاهزة ، غير القابلة للتطبيق، وإنما يتطلب العمل الجاد ، والتعاون الملموس ، وتعزيز التجارب الناجحة، والاستفادة منها،وفي مقدمتها التجربة الرائدة لمجلس التعاون لدول الخليج العربيب وجدد الملك أيضا في الخطاب رفض المغرب القاطع للمس بالوحدة الترابية والوطنية للدول في المنطقة وفق مخطط يسعى إلى تغيير الأنظمة وتقسيم الدول حيث خص الملك بالذكر كل من سورياوالعراق وليبيا وما يترتب عن ذلك من كوارث إنسانية تتجلى في الهجرة الواسعة، مشيرا إلى أن هذه الظروف هي التي تنعقد فيها القمة المغربية الخليجية الأولى. ولعل الفقرات القوية في الخطاب الملكي والتي تحمل إشارات كبيرة، هي عندما تحدث الملك عن الربيع العربي بقوله :ب فبعدما تم تقديمه كربيع عربي ، خلف خرابا ودمارا ومآسي إنسانية ، ها نحن اليوم نعيش خريفا كارثيا، يستهدف وضع اليد على خيرات باقي البلدان العربية ، ومحاولة ضرب التجارب الناجحة لدول أخرى كالمغرب، من خلال المس بنموذجه الوطني المتميز.ب إنها المرة الأولى التي يعبر فيها الملك عن تقييمه لما سمي بالربيع العربي..على الرغم من أنه كان نموذجا إستثنائيا في مواجهة تلك الموجة التي إنطلقت من تونس، ودون أن تمس بإستقرار المغرب الذي إستطاع أن يعبر مرحلة دقيقة بأقل الخسائر الممكنة. الخطاب الملكي أيضا، كان لحظة للحقيقة فيما يخص التحالفات الدولية سواء الثنائية أو متعددة الأطراف، هذه التحالفات التي تشكل واحدا من المجالات التي تتطابق فيها و جهة نظر المغرب مع التغييرات التي تعرفها بلدان الخليج في نفس الإتجاه، فقد حذر الملك تحالفات جديدة في المنطقة اقد تؤدي إلى التفرقة، وإلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة. وهي في الحقيقة، محاولات لإشعال الفتنة، و خلق فوضى جديدة، لن تستثني أي بلد. وستكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة ، بل وعلى الوضع العالميب، وقد تندرج في هذا السياق، التوجهات الجديدة للإدارة الأمريكية وبصفة خاصة العلاقة مع إيران والمخططات التي تستهدف كل من العراقوسوريا وليبيا وباقي دول المنطقة في إطار الوفاء لمنطق تقسيم المقسم و تجزيئ المجزء، والتلاعب في عدد من الصراعات الإقليمية بهدف جعل أمدها غير منظور، وترك بلدان المنطقة في صراعات دائمة. هنا يقول الملك بوضوح نادر اإن الو ضع خطير، خاصة في ظل الخلط الفاضح في المواقف، وازدواجية الخطاب بين التعبير عن الصداقة والتحالف، ومحاولات الطعن من الخلفب. يتساءل الملك في خطابه اماذا يريدون منا ؟ب، ويجيب بطريقة غير مباشرة اتإننا أمام مؤامرات تستهدف المس بأمننا الجماعي. فالأمر واضح ، ولا يحتاج إلى تحليل . إنهم يريدون المس بما تبقى من بلداننا، التي استطاعت الحفاظ على أمنها واستقرارها، وعلى استمرار أنظمتها السياسية . توأقصد هنا [يقول الملك] دول الخليجت العربي و المغرب والأردن، التي تشكل واحة أمن وسلام لمواطنيها ، وعنصر استقرار في محيطهاب لقد أعلن الملك صراحة أن المغرب حريص على علاقاته الاستراتيجية التقليدية مع حلفائه، وهو هنا يقصد الغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية بصفة خاصة، لكن الملك يؤكد أن المغرب قد : ا توجه في الأشهر الأخيرةتنحو تنويع شراكاته ،سواء على المستو ى السياسي او الاستراتيجي أو الاقتصادي.ب ويعطي الملك مثالا على هذا التوجه الجديد بالزيارة التي وصفها بالناجحة إلى روسيا ، خلال الشهر الماضي ، والتي تميز ت كما يصف الملك ا بالارتقاء بعلاقاتنا إلى شراكة استراتيجية معمقة، والتوقيع على اتفاقيات مهيكلة، في العديد من المجالات الحيويةب، هذا التأكيد العلني هو إشارة سياسية واضحة، بل إن الملك أكد على أن المغرب سيواصل على نفس النهج بتوجههب لإطلاق شراكات استراتيجية مع كل من الهند وجمهورية الصين الشعبيةب في الشهور القليلة القادمة، هذه التوجهات الجديدة على المستوى الاستراتيجي تتوافق بصفة كاملة تقريبا، مع التوجهات الجديدة لبلدان الخليج، وبصفة خاصة المملكة العربية السعودية التي تبحث مع روسيا بناء علاقات نوعية والعمل على تقليص نقط الخلاف وبصفة خاصة في رؤية الحل بالنسبة لما يجري في سوريا، حيث أن هناك قناعة ثابتة لدى دول الخليج أن العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، تعرف تغييرا بنيويا وهذا الأمر لم يعد خافيا على أحد، فقد عبر الرئيس أوباما في حواره الشهير اعقيدة أوباماب ، عن وجهة النظر الأمريكية السلبية لدول وحكام الخليج العربي، كما أن الأمر يبدو أكثر سوءا عند الإستماع لمواقف المرشحين لدخول البيت الأبيض وبصفة خاصة مرشحي الحزب الجمهوري الذي كان على الدوام حليفا تقليديا لبلدان المنطقة، وهو ما يؤشر على تحول شامل لدى صناع القرار الأمريكيين. تالملك عبر عن هذا المسار الجديد في إختياراته الإستراتيجية بعبارات قوية حيث قال :ب المغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأي بلدب مطمئنا في نفس الوقت بأن المغرب اسيظل وفيا بالتزاماته تجاه شركائه ، الذين لا ينبغي أن يروا في ذلك أي مس بمصالحهمب لقد شكل الخطاب الملكي أيضا، فرصة لإعادة قراءة المناورات التي تحاك ضد الوحدة الترابية للمغرب في السنوات والأشهر الأخيرة، حيث يؤكد الملك انه ا بعد تمزيق وتدمير عدد من دول المشر ق العر بي ، ها هي اليوم تستهدف غربه. وآخرها المناورات التي تحاك ضد الوحدة الترابية لبلدكم الثاني المغربب ، مشيرا إلى أن هذه الجهات تحاولب حسب الظروف ،إما نزع الشرعية عن تواجد المغرب في صحرائه ، أو تعزيز خيار الاستقلال و أطروحة الانفصال ، أو إضعاف مبادر ة الحكم الذاتي ، التي يشهد المجتمع ا لدولي بجديتها ومصد اقيتها ا. إن تزامن الخطاب الملكي مع تقديم بان كي مون تقريره لمجلس الأمن ومباشرة هذا الأخير مشاوراته لصياغة قرار جديد، شكل فرصة للملك من أجل توضيح موقف المغرب من المنهجية الجديدة للتعاطي مع النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وذلك بقوله ا أصبح شهر أبر يل ،الذي يصادف اجتماعا ت مجلس الأمن حول قضية الصحراء ،فزاعة تر فع أمام المغرب ، و أد اة لمحاولة الضغط عليه أحيانا ،و لابتزازه أحيانا أخرىب، مؤكدا أن الوضع خطير هذه المرة وغير مسبوق في تاريخ النزاع بلغ حد اشن حرب بالوكالة ، باستعمال الأمين العام للأمم المتحدة ، كوسيلة لمحاولة المس بحقوق المغرب التاريخية والمشروعة في صحرائه ، من خلال تصريحاته المنحازة ،و تصرفاته غير المقبولة ، بشأن الصحراء المغربيةب، وهو تجديد وتأكيد لسلسلة المواقف المغربية القوية التي تم إتخاذها على خلفية الزيارة الأخير للأمين العام للأمم المتحدة لمخيمات تيندوف ومنطقة بئر لحلو والجزائر ونواكشوط. الملك لم يفوت فرصة إنتقاد الأمين العام للأمم المتحدة الذي - وبعد كل هذه السنوات من ولايته ومن عمر النزاع ا يعتر ف بأنه ليس على إطلاع كامل على ملف الصحراء المغربية ، مثل ا لعديد من القضايا الأخرى . بل إنه يجهل تطوراته الدقيقة، وخلفياته الحقيقيةب،بو ماذا يمكن للأمين العام القيامتبه ، و هو رهينة بين أيدي بعض مساعديه و مستشاريه، الذين يفوض لهم الاشراف على تدبير عدد من القضايا الهامة ، و يكتفي هو بتنفيذ الاقتراحات التي يقدمونها له، ومعروف أن بعض هؤلاء الموظفين لهم مسارات وطنية، وخلفيات سياسية ، ويخدمون مصالح أطراف أخر ى ،دون التزام بما يقتضيه منهم الانتماء لمنظمة الأممالمتحدة ، من واجب الحياد و الموضوعية ، الذي هو أساس العمل الأمميب ، لقد كانت هذه الفقرة من الخطاب أقوى إنتقاد علني يوجهه المغرب للأمين العام للأمم المتحدة، ويزداد الأمر أهمية ورمزية عندما يصدر عن الملك، علما أن بان كي مون في التقرير الذي قدمه لمجلس الأمن إشتكى من إنتقاد المغرب العلني له، فالخطاب الملكي في ضوء ذلك يعني عدم تراجع المغرب على مواقفه المسبقة من الأمين العام مع التأكيد كما جاء في ذات الخطاب اأن المغرب ليس له أي مشكل مع الأممالمتحدة، التي هو عضو نشيط فيها ،و لا مع مجلس الأمن ، الذي يحترم أعضاءه ، ويتفاعل معهم باستمرار ؛ وإنما مع الأمين العام ، وخاصة بعض مسا عديه ،بسبب مواقفهم المعادية للمغربب، لقد خلص الملك في موضوع الوحدة الترابية إلى التأكيد والتذكير ابأن قضية ا لصحراء هي قضية كل المغاربة ،و ليست قضية القصر الملكي لوحدهب... لم يفت الملك التنبيه إلى واحد من أكثر القضايا الخطيرة التي تمس أمن وإستقرار المنطقة، فقد أكد الملك على أن االإرهاب لا يسيء فقط لسمعة الإسلام و المسلمين ، وإنما يتخذه البعض ذريعة لتقسيم دولنا ،و إشعال الفتن فيها . وهو ما يقتضي فتح نقاش صريح وعميق ،بين المذ اهب الفقهية ،قصد تصحيحت المغالطات ، وإبراز الصورة الحقيقية للإسلام ، والرجوع للعمل بقيمنا السمحة . إن الأمر لا يتعلق بقضية في دولة معينة، وإنما بحاجتنا إلى وعي جماعي بهذه التحديات ، وبإرادة حقيقية لتجديد عقدنا الاستراتيجي مع شركائنا ، بناء على محددات واضحة المعالم ، تضبط علاقاتنا خلال العشريات المقبلةب لقد مثل الخطاب الملكي في القمة الخليجية المغربية -بحق- وثيقة للتاريخ وللحقيقة.