يوجد ببلادنا فيلم أمريكي تستغرق مدة عرضه 112 دقيقة يحمل عنوان "سر الدولة" (SECRET D'ETAT ) قام بإنجازه السيناريست و المخرج و المنتج ميكايل كويسطا ، و قام ببطولته بأداء جيد الممثل جيريمي رينير الذي شارك أيضا في إنتاجه، و شخص فيه دور الصحافي الأمريكي المشهور "غاري ويب" الذي فضح تعامل الحكومة الأمريكية سريا مع بعض التجار و المروجين المحترفين قصد استيراد كميات كبيرة من المخدرات من نيكاراﯕوا و بيعها بلوس أنجلس لشراء الأسلحة و إرسالها للثوار المتمردين على النظام الشيوعي بهذا البلد. و بهدف إبراز نفاق و كذب الدولة فإن الفيلم يستعرض في بدايته مقتطفات من خطب بعض رؤساء الحكومات الأمريكية (انطلاقا من الرئيس نيكسون ) التي كانوا يلتزمون فيها بمحاربة آفة المخدرات و مروجيها. القصة واقعية تنطلق أحداثها سنة 1996 بكاليفورنيا حيث كان الصحافي غاري ويب" ا يشتغل بجريدة "ميركوري نيوز" بلوس أنجلس، و اكتشف عن طريق إحدى السيدات الرشيقات أن بعض كبار مروجي المخدرات المعتقلين يفلتون كل مرة من العقاب القضائي بتدخل خفي من الدولة ، و هو أمر أثار فضوله و قلقه ، فقرر بكل عزم و شجاعة أن يقوم بفضح هذه القضية و نشر تقارير نارية عنها. انطلق إذن وحيدا في بحث دقيق و معمق في هذه القضية المحفوفة بالمخاطر، و قام بأسفار و اتصالات داخل البلاد و خارجها مع بعض كبار مروجي المخدرات الذين اعترفوا له بوجود تعامل سري في مجال المخدرات مع الحكومة الأمريكية ، و اتصل أيضا ببعض أفراد أجهزة المخابرات الأمريكية الذين حذروه بصرامة من مواصلة البحث في هذه القضية و أخبروه بأنه سيجر على نفسه و أسرته ما لا تحمد عقباه إن هو قام بنشر تقرير صحافي عنها. لم يستسلم هذا الصحافي لهذه التهديدات ، و لم يسمع لتحذيرات زوجته الخائفة على مصيره و مستقبله، فقام بنشر التقرير مما أدى إلى عدة احتجاجات و مظاهرات شعبية صاخبة ضد الحكومة المتورطة في تخدير و تسميم أبناء الشعب من أجل إطاحة نظام شيوعي في بلاد أجنبي. أصبح الصحافي غاري ويب في وضعية خطيرة ملاحقا من طرف أجهزة الدولة الغاضبة و الساخطة عليه و التي حاولت أن تكذب كل ما هو وارد في هذا التقرير ، و ازدادت وضعيته تأزما عندما لاحظ أن مديرة جريدته و كل زملائه الذين كان ينتظر أن يدعمونه و يساندونه أصبحوا غاضبين و ساخطين عليه خوفا على جريدتهم و مناصبهم، و هو أمر لم يكن يتوقعه إطلاقا ، فقام في حفل خاص بالصحافة و الصحافيين بإلقاء كلمة مؤثرة أشار فيها إلى أن الصحافي النزيه و الشريف هو الذي يقول الحقيقة و يكشف عنها دون خوف على فقدان منصبه ، و بعد تقديمه لهذه الكلمة مر أمام الطاولة التي كانت تجلس حولها مديرة جريدته رفقة زملائه و رمى لهم رسالة الاستقالة فوق الطاولة قبل أن يغادر قاعة الحفل رفقة زوجته و أبنائه آملا أن يعيش رفقتهم في سعادة و ضميره مرتاح لما قام به ، و لكن نهايته كانت مأساوية بعض مرور سبع سنوات إذ عثر عليه فاقدا للحياة برصاصتين في رأسه و قيل في شأن هذه الواقعة بأنها كانت عملية انتحار حسب إشارة مكتوبة بعد نهاية الفيلم. يتم في نهاية هذا الفيلم إدراج تصريح واضح لكاتب الدولة الحالي للخارجية الأمريكية "جون كيري" ( كان آنذاك سيناتورا) يعترف فيه بأن الدولة كان لها فعلا تعاملا سريا مع كبار مروجي المخدرات، و إدراج لقطات مصورة حقيقية و واقعية للصحافي "غاري ويب" و هو بمنزله يمزح في سعادة كبيرة مع أبنائه. الفيلم مأساوي و سياسي و واقعي ، هو عبارة عن تكريم لصحافي قل نظيره بشجاعته و نزاهته و قدرته على زعزعة الصحافة و القضاء و الدولة ، تتوالى وقائعه بسرد كلاسيكي خطي قد لا يثير و لا يفاجئ المشاهدين الذين ألفوا هذا النوع من القضايا التي تناولتها أفلام أخرى، و يبقى الانتباه مركزا أثناء متابعة تطوراته على الكيفية التي يتم بها البحث و كيفية إثبات تورط الدولة في الفساد ، و هي كيفية يمكن القول عنها بأنها لم تكن صعبة أو معقدة ، لأن هذا الصحافي تمكن بنوع من التساهل في الحصول على كل المعلومات الدقيقة و في الاتصال بأخطر الشخصيات المتورطة في هذه القضية، بل إنه تمكن من توريط الدولة في الفساد بدون توتر أو حدة درامية من ناحية بناء التطورات و الشخصيات، و هو ما يجد تفسيره في أن الأهم في هذا الفيلم ليس هو الكشف عن تورط الدولة في صفقة الأسلحة مقابل المخدرات، بل أريد لهذه القضية أن تكون وسيلة لتناول بكيفية غير مباشرة وضعية الصحافي النزيه و معاناته أثناء ممارسة عمله اليومي وسط إكراهات متعددة و متنوعة مع مسؤوليه و زملائه ، و مع السلطة و الدولة و مختلف أجهزتها. الفيلم مثال واقعي آخر لما يمكن أن يحصل من عواقب لصحافي يريد أن يشتغل بكل حرية و نزاهة و شجاعة خدمة للوطن و المواطنين. يمكن قراءة هذا الفيلم بطريقتين، أولاهما سلبية ، أي كأنه يحذر الصحافيين النزهاء من عواقب النبش في القضايا الخطيرة حتى في بلدان حرية الصحافة أو التي تزعم ذلك ، و ثانيهما إيجابية، لأنه يدين بشكل سافر صحافة و صحافيي الارتزاق، و يكرم عبر هذا الصحافي النزيه كل الصحافيين النزهاء و الشرفاء الذين يضحون بمنصبهم و مستقبلهم و أسرهم و حياتهم في سبيل قول الحقيقة بكل شجاعة و حرية .