توفي إلى رحمة الله تعالى، يوم الجمعة الماضي في مدينة فاس عن عمر يناهز 85 عامًا، الدكتور عبد السلام الهراس، أستاذ الأجيال في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، درست أفواج من الطلاب على يده، واستفادت من علمه الغزير وثقافته الواسعة، ومن خبرته الطويلة في التدريس الجامعي والبحث العلمي والإشراف على الرسائل الجامعية، وتوجيه شباب الباحثين في حقول الآداب وعلوم اللغة العربية والتراث العربي الإسلامي، خصوصًا التراث الأندلسي الذي كان متخصصًا فيه، ونال الدكتوراه من جامعة مدريد حول دراسة وتحقيق ديوان ابن الأبار البلنسي، حيث كان يجمع بين العلم والمعرفة، وبين الأخلاق الرفيعة والإخلاص في أداء رسالته التعليمية في مختلف الأطوار، من التعليم الثانوي في تطوان في أواخر الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات، بعد أن عاد من مصر حيث تخرج في كلية دار العلوم بالقاهرة، إلى التعليم الجامعي الذي التحق به في سنة 1965 أستاذا ً في كلية الآداب بفاس التي كانت إلى ذلك العهد، فرعًا من كلية الآداب بجامعة محمد الخامس في الرباط. وظل أستاذا ً في تلك الكلية إلى سنة 1997، وترأس قسم اللغة العربية وآدابها فيها من سنة 1975 إلى سنة 1991. كان الدكتور عبد السلام الهراس مدرسة في غزارة العلم وعمق المعرفة وسعة الإحاطة بالتراث الثقافي العربي الإسلامي، خصوصًا التراث الأندلسي منه، كانت لها تأثيراتها في توجيه أجيال من الطلاب إلى دراسة الأدب الأندلسي والتخصص فيه، وكتابة الأطاريح في فروعه المختلفة، منهم اليوم أساتذة متفوقون في الجامعات المغربية، حصلوا على شهادات الدكتوراه من الجامعات المصرية والإسبانية ومن الجامعة المغربية، لهم مكانتهم في الحياة الفكرية والثقافية والأدبية المغربية. كما كان له دوره المؤثر في توجيه الطلاب الوجهة الإسلامية السليمة المعتدلة المستنيرة، في المرحلة التي كانت فيها الجامعة المغربية موئلا ً للأفكار المناهضة للهوية الوطنية، والرافضة للثوابت الروحية وللخصوصيات الثقافية والحضارية، والكاسحة الزاحفة المدمرة للعقول. فكان الهراس مفكرًا يدعو إلى قيم الوسطية والاعتدال، وإلى الاعتزاز بها، ويحضّ على الابتعاد عن الخصومة الفكرية التي تفسد العلاقات بين الأجيال، وتؤجج نوازع التطرف والتشنج والاندفاع غيرالمحكوم بالضوابط الأخلاقية، ويشجع الشباب على التفوق في التحصيل العلمي وعلى التوسع في اكتساب المعرفة لتكون سلاحًا يقاومون به تيارات الغزوالفكري الذي كان أحيانًا يتحول إلى الإرهاب الفكري الذي عَانَى منه المغرب كثيرًا. وبذلك استطاع أن يكون جاذبًا لمجموعات متعاقبة من طلاب الجامعة، الذين تربوا على يده، ووجدوا فيه نعم المربي الذي يحسن التوجيه نحو آفاق الخيروالحق والفضيلة ومكارم الأخلاق ومفاتح العلوم ومصادرالمعرفة. لقد كان الدكتورالهراس مثالا ً لرجل العلم الذي يمتلك منهجًا قويمًا، ورؤية شفافة،ووعيًا بما كان يدورفي الساحة الفكرية، وإرادة قوية وعزيمة وقدرة على التوجيه الحكيم للشباب من طلابه في الجامعة، ومن غيرهم. وقد اكتسب هذه الميزات من إقامته الطويلة في كل من دمشقوبيروتوالقاهرة، واتصاله برجالات الفكرودعاة التجديد الفكري الإصلاحي، واطلاعه على التطورات الفكرية التي كانت القاهرة عهدئذ إحدى أبرزمحطاتها. والدكتورعبد السلام الهراس هوالذي قدم المفكرالجزائري مالك بن نبي إلى القراء في المغرب، وهوأول من كتب مقالات تعريفية تحليلية لفكربن نبي على مستوى العالم العربي الإسلامي دون منازع. ففي الفترة التي رجع فيها إلى المغرب في سنة 1958، بعد إنتهاء دراسته الجامعية، نشرسلسلة مقالات في مجلة (دعوة الحق) عن الأفكارالتجديدية لمالك بن نبي. ولم تجمع تلك المقالات الرائدة القيمة في كتاب للأسف. وحتى حينما كان ينشرمقالاته في جريدة (الميثاق) لسان رابطة علماء المغرب، في عهد الأمين العام الأستاذ عبد الله كنون بتوقيع مستعار (أبوعمر)، كان أثرمالك بن نبي باديًا في كتاباته. وقد عاش حياته متأثرًا بمدرسة هذا المفكر الحضاري المجدد الذي تعرف إليه في القاهرة، خلال الفترة التي كان فيها بن نبي لاجئا في العاصمة المصرية وكان هو طالبًا في دارالعلوم. ويقول الدكتورعبد الصبور شاهين، مترجم مؤلفات بن نبي من الفرنسية إلى العربية، إن الهراس هوالذي عرفه به في القاهرة. وقد اكتسب الدكتورالهراس من معرفته الوثيقة بمالك بن نبي، خبرة واسعة في تحليل الأفكار، وفي تشريح الظواهرالتي تسود المجتمع، وفي معالجة المشكلات الحضارية بمنهج علمي مستنير بنورالقرآن، وفي فهم المخططات الأجنبية التي يعمل أصحابها من أجل الإبقاء على النفوذ الاستعماري في العالم الإسلامي. فكان أحد النجباء من تلاميذ مدرسة مالك بن نبي. والدكتورالهراس، وإن كان قد ارتبطت أسبابه بجماعة الإخوان المسلمين خلال فترة دراسته في بيروتوالقاهرة، وقرأ أدبيات الجماعة، والتقى بأعلامها وأقطابها، إلاأنه حافظ على الاستقلالية في الفكر، ولم يندمج في أي تيارمن التيارات الفكرية التي كانت سائدة في المشرق العربي. اللهم إلا التيار الفكري الذي يمثله مالك بن نبي، مع عدم الإنكارأن الهراس كان له حضورمؤثرولافت للنظرفي ساحة العمل الإسلامي الفكري والثقافي داخل المغرب، وكان له أنصاره وأتباعه وتلامذة كثيرون، على تفاوت في القرب منه أوالبعد عنه، ولكن جميعهم كانوا يرون فيه الأستاذ والمربي والموجّه والمرشد. لقد كان للدكتورعبد السلام الهراس فضل عليّ لن أنساه ما حييت. ففي مطلع الستينيات من القرن الماضي، كان رحمه الله، يخطب الجمعة في مسجد الباشا الذي يقع في المشور بتطوان، حيث كنت مع ثلة من الشباب، نختلف إلى ذلك المسجد لنستمع إلى خطبة الأستاذ الهراس ونصلي وراءه. وكان يلفت نظرنا نحن شباب تلك الفترة من تلامذة الثانوية، أن الخطيب يلبس البذلة، حتى إذا دخل إلى المقصورة التي تقع خلف المنبر، ارتدى فوقها الجلباب قبل أن يعتلي المنبرويبدأ الخطبة دون أن يقرأ من ورقة. بينما كان جميع خطباء الجمعة في مدينتنا يكتبون خطبهم ولا يرتجلونها. وكان ذلك هوما حبّب إلينا الأستاذ الهراس، حتى صرنا نحرص على التقدم للسلام عليه بعد انتهاء الصلاة، والخروج معه من المسجد، ونظل نمشي إلى جانبه معجبين منبهرين، إلى أن نصل لساحة الفدان. وهي مسافة قصيرة لاتزيد على مائة متر، ولكننا كنا نستفيد أثناءها من الحديث مع الأستاذ الهراس، الذي كان يوجهنا وينصحنا ويجيب عن أسئلتنا الثقافية. وأذكر أنني تحدثت معه ذات يوم، ونحن نعبرالمشورفي اتجاه الفدان، عن مقال كنت قرأته له في مجلة (دعوة الحق) حول الأستاذ أنورالجندي، وطلبت منه عنوانه في القاهرة لأكتب له. فما كان منه إلى أن أملى عليّ العنوان فورًا، طالبًا أن أبلغه سلامه في رسالتي إليه. فكان أن هداني بذلك للتعرف إلى ذلك الكاتب الموسوعي والمفكرالأصيل، والاقتراب منه والارتباط العقلي والوجداني به. فمنذ سنة 1963 توثقت علاقتي بالمفكر والمؤلف أنور الجندي، فصرت أتبادل معه الرسائل، وأقرأ كتبه الكثيرة ومقالاته الغزيرة التي كان ينشرها في عديد من المجلات في المشرق والمغرب. ولما زرت القاهرة للمرة الأولى في يناير سنة 1969، كنت حريصًا على أن أبدأ اتصالاتي في العاصمة المصرية بزيارته في منزله. وظللت أزوره إلى أن توفاه الله. وأشهد أني استفدت كثيرًا من صلتي بالأستاذ الجندي. كما كان الدكتورعبد السلام الهراس هومن عرفني بالأستاذ محمود محمد شاكر. ففي ذات يوم، زارني في مكتبي بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حيث كنت رئيس تحريرمجلة (دعوة الحق)، وقدم لي طبعة جديدة من كتاب (الظاهرة القرآنية) لمالك بن نبي، ونصحني بقراءته وبالوقوف طويلا ًعند المقدمة التمهيدية التحليلية العميقة والطويلة التي كتبها الأستاذ محمود شاكر لذلك الكتاب القيّم، وطلب مني أن أنشرها في حلقتين. وكانت تلك هي البداية للاقتراب من عالم هذا المفكرالأديب الباحث اللغوي المحقق محمود شاكر. فاقترحت على الدكتورمحمد يسف، مدير الشؤون الإسلامية يومئذ في الوزارة، وكان رئيسي في العمل، أن يعرض على الوزيرتوجيه الدعوة لمحمود شاكر لحضورالدروس الحسنية. وكانت تلك هي زيارته الأولى والوحيدة للمغرب التي تمت في سنة 1976. وقد كلفت بمرافقته طوال الأسبوعين اللذين مكثهما في بلادنا. ومنذ تلك السنة وأنا حريص على زيارة الأستاذ محمود شاكرفي بيته عند وصولي إلى القاهرة. وأعتز وأفتخرأنني صرت من تلامذته المقربين إليه. فهذان مفكران كبيران كان الدكتورعبد السلام الهراس هوالذي عرفني بهما، فصرت تلميذا ً لهما أداوم على قراءة مؤلفاتهما ومقالاتهما، وأتردد على بيتيهما في كل مرة أزورفيها القاهرة، وأحوز بذلك مغانم ثقافية وفكرية كثيرة اغتنيت بها. ومما أذكره عن تأثير الدكتورعبد السلام الهراس في توجيهي المبكرفي مطلع الستينيات، أنه أرشدني ذات يوم إلى مجلة (الرسالة) القاهرية في إصدارها الجديد، التي كانت تنشرمقالات رفيعة المستوى لمحمود شاكر، كان لها صدى واسع في الأوساط الفكرية والثقافية في مصر. وهي المقالات التي جمعها فيما بعد في كتاب صدرعن مطبعة المدني بعنوان (أباطيل وأسمار). وبسبب تلك المقالات، دخل محمود شاكرالسجن في عهد جمال عبد الناصر، ومكث فيه إلى أن أفرج عنه في بداية عهد الرئيس محمد أنورالسادات. كما كانت (الرسالة) تنشرمقالات لمحمد جلال كشك كنت أقرأها بلهفة وأجد متعة في قراءتها، مع مقالات أخرى لكبارالكتاب المصريين. ومما له صلة بهذا الجانب من تأثيرالدكتورالهراس في قراءاتي في تلك المرحلة، توجيهه لي إلى كتاب (شبهات حول الإسلام) لمحمد قطب الذي قرأته متأثرًا به. فلما جئت في الجمعة التالية أخبره بأني قرأت الكتاب، دلني على كتاب ثان ٍ لمحمد قطب هو (معركة التقاليد)، ثم تكررالأمر حتى وجدتني غارقًا في مؤلفات محمد قطب التي كنت أستعيرها من أستاذي محمد بوخبزة الذي كان، ولا يزال أطال الله عمره، يمتلك مكتبة حافلة باذخة في بيته الذي كنت أتردد عليه في تلك الفترة، وأسعد بتلمذتي على يد صاحبه. وكانت بين الأستاذ بوخبزة والأستاذ الهراس مودة متبادلة. لقد خلفت وفاة أستاذنا الدكتورعبد السلام الهراس آثارالحزن في نفوس تلامذته الكثر وعارفي فضله، من أساتذة الجامعات والمفكرين والكتاب والشخصيات التي اقتربت منه وقرأت له أو تأثرت به. فهو أحد الرجال الأفذاذ من الجيل الثاني الذي أدرك الجيل الأول من رجالات الوطنية المغربية، وخالطهم وتعلم منهم واستفاد من دروسهم الوطنية. وفي الطليعة من أولائك الرواد الكبار، الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي تعرف إليه أثناء إقامته في القاهرة، وله معه ذكريات كان قد سجل جانبًا منها نشرفي حلقات بجريدة (التجديد) ابتداءًا من سنة 2003. وحبذا لوجمعت هذه الحلقات والمقالات التي كان ينشرها في (دعوة الحق) ونشرت في كتابين. كان الدكتورعبد السلام الهراس يقدم صورة مشرقة عن بلده المغرب أينما حلّ، وفي المؤتمرات التي كان يشارك فيها، وفي الجامعات التي كانت توجه له الدعوة ليحاضرفيها. فهو الأستاذ الجامعي المبرز، والمفكرالرصين ذو الرؤية الواضحة والبصير بأحوال عصره، والمثقف الأكاديمي المشارك، ومربي الأجيال على حب دينها وحضارتها ووطنها المغرب بمقوماته وثوابته ومقدساته جميعًا. رحمه الله.