المديح النبوي في العصر الحديث: من يتأمل دواوين شعراء خطاب البعث والإحياء أو ما يسمى بشعراء التيار الكلاسيكي أو الاتجاه التراثي فإنه سيلفي مجموعة من القصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم تستند إلى المعارضة تارة أو إلى الإبداع والتجديد تارة أخرى. ومن الشعراء الذين برعوا في المديح النبوي نذكر: محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد الحلوي وآخرين كثيرين... فمن قصائد محمود سامي البارودي قصيدته الجيمية التي يقول فيها: يا صارم اللحظ من أغراك بالمهج حتى فتكت بها ظلما بلا حرج مازال يخدع نفسي وهي لاهية حتى أصاب سواد القلب بالدعج طرف لو أن الظبا كانت كلحظته يوم الكريهة ما أبقت على الودج وهذه القصيدة هي في الحقيقة معارضة لقصيدة الشاعر العباسي الصوفي ابن الفارض التي مطلعها: ما بين معترك الأحداق والمهج أنا القتيل بلا إثم ولا حرج ومن قصائد محمود سامي البارودي في المديح النبوي قصيدته" كشف الغمة في مدح سيد الأمة" وعدد أبيات هذه القصيدة 447 ، ومطلع القصيدة هو: يا رائد البرق يمم دارة العلم واحد الغمام على حي بذي سلم ومن الشعراء الآخرين الذين نظموا على منوال البردة الشيخ أحمد الحملاوي في قصيدته التي سماها كذلك ب" منهاج البردة" ومطلعها: يا غافر الذنب من جود ومن كرم وقابل التوب من جان ومجترم ويحذو أحمد شوقي حذو البارودي في معارضة الشعراء القدامى في إبداع القصائد المدحية التي تتعلق بذكر مناقب النبي وتعداد معجزاته وصفاته المثلى كما في همزيته الرائعة التي مطلعها: ولد الهدى فالكائنات ضياء وفي فم الزمان تبسم وثناء ويقول في مولديته البائية: سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجبال له عتابا ومن أحسن قصائد أحمد شوقي في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم قصيدته الميمية التي عارض فيها قصيدة البردة للبوصيري ومطلع قصيدة شوقي هو: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم ومن الشعراء المغاربة المعاصرين الذين مدحوا النبي صلى الله عليه وسلم نذكر الشاعر المراكشي إسماعيل زويريق الذي خصص كتابين لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تحت عنوان: " على النهج" يعارض فيهما شعراء المديح النبوي . ومن القصائد التي نظمها في المدح نذكر القصائد التالية: قصيدة " بانت سعاد" التي يعارض فيها قصيدة كعب بن زهير: بانت سعاد فما للحزن تمهيل الدمع منسجل والجسم مهزول قصيدة" البردة يا شاكي البان" يعارض فيها قصيدة البوصيري: ياشاكي البان كم في البين من سقم؟ شكواك تنساب لحنا دافق الألم قصيدة"المرتجية" كما في مطلع قصيدته الجيمية التي يعارض فيها القصيدة "المنفرجة" لابن النحوي: إن ضاق الأمر فلا تهج فغدا قد يأتي بالفرج قصيدة " في رحاب المدينة" التي عارض فيها قصيدة الهمزية للبوصيري : هاتها، ما للنفس عنها غناء جابني الشوق حين عز الدواء قصيدة " السينية في مدح خير البرية"، التي عارض فيها الشاعر سينية البحتري، ومطلع القصيدة هو: يجهر البين ما تخفى بنفسي فسقاني كأس الشجا بعد كأس قصيدة" كل مديح فيه مختصر" وهي رائية الروي ومطلعها: رأيت كل مديح فيه مختصرا فما تعد سجاياه وتختصر قصيدة"الدالية في الرد على من أساء إلى الرسول برسوماته الكاريكاتورية" عارض فيها دالية أبي العلاء المعري ومطلعها: أما أعنى الذي رسموا الفؤادا فما للصمت يلزمني الحيادا. خصائص المديح النبوي مضمونا: من أهم مميزات المديح النبوي أنه شعر ديني ينطلق من رؤية إسلامية، ويهدف إلى تغيير العالم المعاش وتجاوز الوعي السائد نحو وعي ممكن يقوم على المرجعية السلفية بالمفهوم الإيجابي. كما أن هذا الشعر تطبعه الروحانية الصوفية من خلال التركيز على الحقيقة المحمدية التي تتجلى في السيادة والأفضلية والنورانية. ويعني هذا أن المديح النبوي يشيد بالرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره سيد الكون والمخلوقات، وأنه أفضل البشر خلقة وخلقا، وهو كذلك كائن نوراني في عصمته ودماثة أخلاقه. لذلك يستحق الممدوح كل تعظيم وتشريف، وهو أحق بالتمثل واحتذاء منهجه في الحياة، كما أن عشق الرسول صلى الله عليه وسلم في القصيدة النبوية يتخذ أبعادا روحانية وجدانية وصوفية. ويلاحظ على الغزل الموجود في كثير من القصائد النبوية أو المولدية أنه غزل يتجاوز النطاق الحسي الملموس إلى ماهو مجازي وإيحائي. أي ينتقل هذا الغزل من النطاق البشري إلى نطاق الحضرة الربانية. ويسافر شعر المديح النبوي في ركاب الدعوة المحمدية وشعر الفتوحات الإسلامية ليعانق التيارات السياسية والحزبية فيتأثر بالتشيع تارة والتصوف تارة أخرى. ولن يجد هذا الشعر استقراره إلا مع شعراء القرن التاسع الهجري مع البوصيري وابن دقيق العيد. بيد أن شعر المديح النبوي سيرتبط في المغرب بعيد المولد النبوي وشعر الملحون والطرب الأندلسي ليصبح في العصر الحديث شعرا مقترنا بالمعارضة في غالب الأحيان. وعلى أي حال، يتميز المديح النبوي بصدق المشاعر ونبل الأحاسيس ورقة الوجدان وحب الرسول صلى الله عليه وسلم طمعا في شفاعته ووساطته يوم الحساب. وما حب الرسول في القصيدة المدحية إلا مسلك للتعبير عن حب الأماكن المقدسة والشوق العارم إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والوقوف على جبل عرفات والانتشاء بكل الأفضية التي زارها الحبيب أثناء مواسم العمرة والحج. خصائص المديح النبوي شكلا: تستند أغلب قصائد المديح النبوي إلى القصيدة العمودية القائمة على نظام الشطرين ووحدة الروي والقافية واعتماد التصريع والتقفية في المطلع الأول من القصيدة. وتتسم القصائد النبوية والمولدية الحديثة ذات النمط الكلاسيكي أو التراثي بتعدد الأغراض والمواضيع على غرار الشعر العربي القديم، والسبب في هذا التعدد هو معارضة القصائد الأصلية كقصائد البوصيري وقصائد ابن الفارض وقصيدة كعب بن زهير وغيرها. وهذه المعارضة تدفع الشاعر إلى انتهاج نفس البناء والسير على نفس الإيقاع والروي والقافية واستخدام نفس الألفاظ والأغراض الشعرية. ومن ثم، فالقصيدة النبوية تتكون على مستوى البناء من المقدمة الغزلية ووصف المطية ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم والتصلية والدعاء والاستغفار والتوبة. خاتمة: ويتضح لنا - مما سبق ذكره - أن شعر المديح النبوي شعر صادق بعيد عن التزلف والتكسب، يجمع بين الدلالة الحرفية الحسية والدلالة الصوفية الروحانية. كما يندرج هذا الشعر ضمن الرؤية الدينية الإسلامية، ويمتح لغته وبيانه وإيقاعه وصوره وأساليبه من التراث الشعري القديم. مما أسقط هذا الشعر في كثير من الأحيان في التكرار والابتذال والاجترار بسبب المعارضة والتأثر بالشعر القديم صياغة ودلالة ومقصدية. وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاع بعض الشعراء أن يتفوقوا في شعر المديح النبوي كمحمود سامي البارودي وأحمد شوقي و الشاعر المغربي إسماعيل زويريق في مجموعته الشعرية الطويلة المتسلسلة" على النهج...".